زاهر الغافري.. اذهب وقل وداعًا لتلك القرية الصغيرة
سيرة أولى -
طائرٌ آخر كان الشعرُ غناءه، حلّق بعيدًا وتركنا نردّد أشعاره الخالدة. زاهر الغافري "قائد السفينة" الذي وكّله والده بها، ترك أمواج بحر عمان هادئة، و"الغريب" الذي جعل من القصيدة مصباحًا يستنير به في الظلماتِ ثم أخذ يردّدُ "اذهب وقل وداعًا لتلك البلدة الصغيرة".
كان زاهر الغافري واحدًا من الشعراء الذين أسهموا في انتقال القصيدة العمانية الحديثة؛ إذ أسسوا لكتابة مغايرة شكلًا ومضمونًا متمثّلة في قصيدة النثر العمانية، كما نوّعوا في ملامحها الشعرية متخذين من المضمون انطلاقةً في التعبير الشعري الحديث، وبذلك تكون البدايات لهذا النوع الشعري قد طرقت مناطق وعرة في جسد الثقافة العمانية في تلك الفترة. ومن المهم للقارئ الوقوف على جزء من مسيرة زاهر الغافري الكتابية لا سيما في بدايات التشكّل المعرفي كان قد ذكرها في شهادة بعنوان (هجرة الكتابة) ضمن كتاب (فضاءات الشعر، فضاءات الحداثة) إذ يقول: "هكذا بدأت تجربتي من الكتاتيب أو مدارس القرآن مبكرًا في عمان في قريتي سرور ونفعا. وتتلمذت على معارف الشعر القديم، شعر ما قبل الإسلام الذي يطلق عليه الشعر الجاهلي... وكتبت الشعر الكلاسيكي لكن النقلة الشبيهة بوثبة النمر كانت في بغداد الستينيات حينها تعرفت على بدر شاكر السياب ومحمود البريكان شعريًّا، والنقاشات المهمة على الصعيد الثقافي حتى جيل الستينيات والسبعينيات. وكتبت قصيدة التفعيلة، ثم مزقت بعض ما كتبت كما لو كنت ماموثًا يخرج من حياته ليكتب قصيدة النثر. وفي حياتي حياة الترحال، كان الشغف يقودني للمعرفة شعرا وفلسفة ومسرحا وتشكيلا وسينما وموسيقى ثم الرقص... هكذا خرجت من القرية الصغيرة في عمان لأعانق العالم وأتعرف على الكتّاب والشعراء والفنانين". (ص11)
وفي الكتاب ذاته يقول محمد زروق عن تجربة زاهر الغافري: "كذا كانت تجربة زاهر الغافري الشعرية كونًا في اللغة وحياة في الترحال والتجربة، يتعقل حوادث الزمان ودواخل الإنسان، ويصوغها قولًا أبعد في التخييل والخيال، فيتفاعل مع الآتي، ويتناص مع الماضي ويتداخل مع الحاضر... لقد فتح زاهر الغافري بشعره، صحبة قلة من الشعراء والأدباء، مجال الحداثة الشعرية، وهو لعمري أمر عسير في فضاء غلب عليه التقليد واستدعاء الماضي، شكلا. فقدّم رؤية في إنشائية الشعر ودوره، تتناسق مع رؤى تحققت في الوطن العربي منذ الستينيات. ترفض البيئة كل حادث بالضرورة، وهو أمر تاريخي ووجودي، ولكن التاريخ أيضا أثبت بقاء الحادث، وتحوّله إلى نماذج تحتذى". (ص8)
ولعل السيرة الأولى للشاعر مكّنته من الإمساك بعوالم اللغة، وجدلية المكان والزمان اللذين عَبَرهما مبكرًا. لقد كانت نصوصه الشعرية طوفانًا لغويًّا يحضن المكان ويشير إلى أزمنة سحيقة تكوّنت في مخيلته، فنجده يؤسس للذات المتشكلة من الواقع والمكان، يقول:
كنت آخذ الوديعة وأمضي. أجتاز الصحراء ليلًا
وأدخل مملكة النجوم على ظهر المعصية. ورائي
عاصفة مثل موكب من الحراس وخطواتي على الرمل
كنز مستعاد من الطوفان.
ورغم أنني لم أكن أصادف خيمة ولا نبعًا في الطريق
إلا أن حياتي ما تزال
أمثولة حية في وجه الريح.
كنت ضيف العالم وبذرة المصير التي ألقيت هناك
وكان الفجر دليلي إلى الوديان
الصرخة أكليل الولادة
وهذا الليل الناقص مثل شعر أرملة هاربة من حريق
والمنازل مغمورة بمياه العمر.
قائد السفينة -
يحتفي نص قائد السفينة بسردية بسيطة عبَّر من خلالها الشاعر عن تقاطع بين زمنين ومكانين؛ زمن الذاكرة البعيدة التي تعيدها الحكاية المكانية إلى لحظة الكتابة الشعرية. وهنا تُظهر معادلات البحار والمحيطات قيمة مهمة تتمثّل في نصوص زاهر الغافري؛ إذ لم يكن البحر مكانًا يستعيده الشاعر في نصوصه فحسب، إنه مفهوم حياتي شامل للتعبير. ومثلما تكرّرت دلالات الصحراء والموت والرحيل والمكان في نصوصه، فإننا نجد البحر حاضرًا بفوضاه وصخبه، يرتبط به الشاعر حتى في الذاكرة البعيدة:
في أوائل الستينات بعد أن خضنا بحارًا ومحيطات
وتوقفنا في أكثر من ميناء
والسفن الكبيرة تملأ الآفاق بالصخب
حتى وصلنا إلى الهند
يا لهذه القارة ذات المنعطفات الكبيرة
والأبقار المقدسة
والأفيال وهي تنام ضاحكة
وتلك النقطة، خصوصًا،
تلك النقطة الحمراء في جبين المرأة والرجل
وأبي يدير تجارته من البن والقرنفل
وأشياء أخرى
هو الذي خرج من عُمان 1915
يا لذلك الزمن
عندما ذهب أبي
واشترى لي البدلة البيضاء والقبعة
وقال لي
أنت منذ الآن قائد السفينة.
حياة واحدة لكن السلالم كثيرة -
المتأمل في النصوص الشعرية لزاهر الغافري يجد أنها عالم واسع من المتغيرات اللفظية والتعبيرات الدلالية، والقواميس المكانية وحقول لغوية تحيل على اشتغال فني متصالح مع الكون والحياة، نجد دلالات الوحدة على سبيل المثال تمسك بالنص معبرةً عن اللفظ الذي يمنح النص غربة لفظية، فالوحدة تعبير مشترك في نصوصه مقابل الجماعية، تظهر صورة الموت في مقابل الوحدة في نص (الموت أمسية موسيقية):
يقول الرجل المريض،
أهو ميت أم نائم في الشرفة تحت أغطية سوداء؟
الكآبة قطن أبيض في
الطريق، لكن لا أحد هنا
هذا اليوم ليعزف أو يرقص أمام الشرفة،
لقد ذهب الجميع، خرج الموسيقيون والضيوف
وودعوا الباب والشرفة.
نظروا إليك كأنك شجرة يتيمة في بستان الليل.
ينبغي أن تستيقظ الآن، الموت أمسية موسيقية حقًا
لكن عليك أن تعزف اللحن وحدك،
اللحن الذي يليق بحياتك كأنك منسي في زقاق بارد،
كأنك جثة.
وكذلك تظهر الوحدة في نص (رمال الولادة) مازجة الوحدة بالموت وبالمنفى وبالطفولة، ومع أنّ زاهر حاول أن يشكّل من الوحدة صورةً مركبة امتزجت بالولادة حينًا، وحينًا بالضوء، وحينًا بالطفولة، فإنها في الجانب المقابل كانت تعبيرًا ملتهبًا ضاجًّا بالحياة وقيودها، فكانت دلالات (البراكين، والعاصفة، والغموض، والصاعقة، والقطار، والنسور، والدخان) صورة تتقاطع مع الصور الأخرى في عملية التشكيل الشعري:
في الماضي
عندما كانت تلمع الرمال الأولى للولادة
عندما كانت تزورني الكلمة
كنهر قديم يفيض من فراغ العالم
في الماضي
كنت أتقدم كضوء الشمعة
الذي ناضل طويلًا كي يصل
إلى كل الجهات
ولكن ها أنا اليوم
أصادف نفسي أمام النافذة نفسها دائما
كحقيبة تضج فيها عاصفة كبيرة
کفجر تجوف جبهته نظرة أخيرة
لرجل وحيد يموت على الشرفة
نظرة غامضة لكن في قلبها
ينام بركان صامت.
لقد ذهب الجميع هذه الليلة
فبقيت وحدي أرتب الريح
في الخزانة العالية
كراع يجر صاعقة بين الجبال
المقاعد المبعثرة في رأسي
يحتلها أصدقاء وهميون
وكلما فتحت عيني على ضوء باهت
من بعيد أرى القطار الذي
سيعبر صدري دون توقف أبدًا
أرى النسور وهي تستعد للقفز
بقوة إضافية
ومن أحداقها الشبيهة
بالمنفى
يرتفع دخان الطفولة.
وكما جعل الغافري من الموت أمسية موسيقية فإنه وصف القصيدة بأنها مأتم جميل، وهنا نجد الأشياء تتماهى في مخيلته التعبيرية فتتشكّل منها صورٌ متعددة ومتجانسة، يقول في (كيمياء اللذة):
القصيدةُ مأتمٌ جميلٌ للغبطة
قرنفلُ امرأة تهوي براري الجسد
في أصداف الأفق
عمرٌ يحتفي بالغياب.
اذهب وقل وداعًا لتلك القرية الصغيرة -
لا يمكن القول إن زاهرًا أحسّ بدنو أجله فعبّر عن ذلك في شعره؛ إذ إن المتأمل في نصوص زاهر النثرية يجد أن الوداع كان ثيمة مهمة في تلك النصوص، تشكّلت منه دلالاته اللفظية ومضامينه الداخلية. لقد صنع زاهر الغافري من الوداع أغنية سارت معه من القرية وعَبَرت البحار والجبال؛ لذا فإن الوداع يتشكّل لديه من القرية التي يحنّ إليها، ومن المدينة التي يستحضر شوارعها وأبنيتها، ومن الجبال والبحار والغابات والإنسان الذي عاش معه وحمل ذاكرته الممتدة في أمكنة مختلفة.
لذا فإن دلالات مثل الرحيل والغياب والفراق عكست الجانب الداخلي للشاعر، ومثّلت استنطاقًا لمشاعره الداخلية، كما شكّلت فلسفة شعرية تبنّاها الشاعر في مسارات كتابته الشعرية الحديثة:
تلك البلدةُ، النائمةُ في أحضان الجبال
تلك البلدةُ، ذلك الوهمُ الأسيرُ في
يد القَدر، الحقائقُ التي كانت ريحًا
من الرمل، الحجارةُ التي هي أيقونةٌ من الإشارات.
تلك الإغفاءةُ الباردة فوق سرير المجهول.
ذلك المصير الذي تلاشى خلف ضباب العالم.
اذهب وقل وداعًا لتلك البلدة الصغيرة.
رحل زاهر الغافري بعد مسيرة شعرية طويلة، نقل معها صورة مكانية ممتدة من القرية إلى المدينة، ومن البحر إلى الجبل، ومن ذاكرة الطفولة إلى واقع الحاضر، كما رسم هوية للأرض والمكان العماني، وبرغم غربته الطويلة فإن الحنين إلى المكان الأول ظلّ مشتعلًا، وصُوَرُ السحرة المتدفقين من الغيوم إلى الأرض لا تزال تمنح الشاعر بصيصًا من الذاكرة التي حملها في حقائبه وغادر بها في غير بقعة من الأرض. وداعًا زاهر الغافري، سنقول معك وداعًا إلى تلك القرية الصغيرة القابعة في ذاكرتك.