الخرطوم- (أ ف ب): يمسك السوداني أبو بكر الميرغني بزجاجة بلاستيكية فارغة كميكروفون ويتظاهر بأنه مذيع يجري مقابلات مع مشاركين في اعتصام المعارضة أمام مقر الجيش في الخرطوم، منددا بموقف الإعلام الرسمي قبل الإطاحة بالرئيس عمر البشير. وقال الميرغني (18 عامًا) «نهدف للسخرية من الإعلام الرسمي السوداني الذي لم يقف معنا خلال التظاهرات». وتابع «لم يقم (الإعلام الرسمي) بتغطية التظاهرات على الإطلاق. فقط الإعلان الأجنبي قام بذلك»، فيما كان أحد زملائه يمسك بعصاة خشبية يتدلى من آخرها كوبا بلاستيكيا في محاولة لمحاكاة ميكروفون قابل للتعديل. يهلّل الطاقم الصغير للمراسل في كل مرة يتوجه فيها إلى أحد المتظاهرين طارحا سؤالا. ويحمل شخص ثالث صندوقا من الكرتون المقوى على كتفه وكأنه كاميرا فيديو، حجب عنها اسم محطة تلفزيونية أجنبية. ويشهد السودان احتجاجات على خلفية أزمة اقتصادية خانقة بدأت في 19 ديسمبر الفائت بعد قرار الحكومة رفع سعر الخبز قبل أن تتصاعد وتتوسّع إلى كل أنحاء السودان ضد نظام الرئيس عمر البشير. واتخذت الاحتجاجات منحى مختلفًا عندما بدأ آلاف المتظاهرين في السادس من أبريل تجمّعًا أمام مقرّ قيادة الجيش في العاصمة، مطالبين القوات المسلحة بمساعدتهم في إسقاط البشير. وبعد خمسة أيام، استولى الجيش على السلطة عبر مجلس عسكري انتقالي وعزل البشير. وفرض الإعلام الرسمي تعتيما كاملا على أشهر من التظاهرات قبل إطاحة البشير، بما في ذلك عدم ذكر مقتل العشرات على أيدي قوات الأمن، ما أثار غضب المحتجين بشدة. «برامج الطهي» وعوضًا عن تغطية التظاهرات في أرجاء السودان، أذاع التلفزيون الرسمي تجمعات البشير وأعمالا حكومية وبرامج أخرى. وقال الميرغني «الناس كانوا يموتون لأربعة أشهر كاملة وكل ما كان الإعلام السوداني يذيعه هو برامج الطهي». ودأبت الصحف المؤيدة للحكومة على تغطية الأنشطة الحكومية اليومية بعيدا عن التظاهرات. وتابع: إن الإعلام الرسمي «بدأ في الوقوف في صفنا فقط حين أطيح بالبشير» في أبريل الفائت. لكن التلفزيون السوداني أكّد أنّه كان يلتزم التوجيهات الحكومية الرسمية، وقال مدير الأخبار بالتلفزيون مزمل سليمان لوكالة فرانس برس إنّ «البث الإخباري كان ضمن الحدود التي سمحت بها الحكومة آنذاك»، وأضاف: إن «الدولة تملك القناة وتقاريرنا يجب أن تتوافق مع السياسة العامة للدولة». ومنذ إطاحة البشير، طرد المتظاهرون الغاضبون في أكثر من مناسبة صحفيي التلفزيون الرسمي من مقر اعتصامهم حين وصولهم لتغطية إخبارية. وأوقف الميرغني متظاهرًا لسؤاله عن رأيه في المجلس العسكري الحاكم. وكانت الإجابة سريعة «سقط أم لم يسقط... سنبقى»، وهو هتاف جديد يميز التجمع الحالي. وتعرض الإعلام لتكميم وقمع شديد أثناء عهد البشير الذي استمر نحو 30 عاما، بحسب نشطاء في مجال الإعلام. وقمع جهاز الأمن والمخابرات الوطني باستمرار الصحفيين الذين تجرأوا وانتقدوا سياسات البشير الخارجية والداخلية. وقال الإعلامي السوداني البارز فيصل صالح: إنّ «الأخبار المرتبطة بنظام (البشير) أو شخصيات المعارضة البارزة أو مناطق النزاع في السودان كانت مثيرة للمشكلات». وأفاد أنّ «ضباط (جهاز الأمن والمخابرات الوطني) دأبوا على الذهاب لمقرات الصحف ومراجعة وشطب ما لا يريدون أن ينشر... من الرياضة للشؤون السياسية، كل شيء كان خاضعا للتدقيق». «عقلية قديمة» وأوضح رئيس تحرير صحيفة «التيار» المستقلة عثمان الميرغني أن مصادرة كامل النسخ المطبوعة كان بمثابة تكتيك لتوجيه أكبر خسائر للناشرين. وأفاد الميرغني الذي تمت مصادرة نسخ صحيفته أكثر من 80 مرة خلال حكم البشير «كلفنا ذلك الكثير من الأموال». واعتقل هذا الصحفي لأكثر من شهر خلال ذروة الاحتجاجات ضد البشير. ووثّقت منظمة «مراسلون بلا حدود» توقيف أكثر من 100 صحفي أثناء الاحتجاجات. وتضع هذه المنظمة ومقرها باريس السودان في المركز 175 من أصل 180 بلدا في مؤشر حرية الصحافة العالمية في عام 2019. لكن الكثير من الأمور بدأت تتغير منذ إطاحة البشير مع بث التلفزيون مقاطع لاعتصام الخرطوم. كما يشارك معارضون للبشير في برامج حوارية على التلفزيون الرسمي، فيما أوردت الصحف المحلية سريعا أنباء سقوط البشير. وقال الميرغني: «ليس هناك الآن رقابة مسبقة والصحف تنشر بحرية دون المخاطرة بمصادرة» نسخها المطبوعة. ويقول المسؤول سليمان إنّ نطاقا أوسع من الأخبار يذاع الآن على التلفزيون الرسمي. وأفاد «نتمتع الآن بحرية كاملة. وقال الميرغني: إنّ «العقلية السلطوية في التحكم في الإعلام لا تزال سائدة... الصحافة لا تزال مقيدة وتمارس رقابة ذاتية بشكل واسع». من جهته، قال صالح: إن وسائل الإعلام الحكومية لا يزال أمامها طريق طويل قبل أن تدعي أي استقلالية، وأضاف: «سيستغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى تنقرض العقلية القديمة ونشهد تغييرًا ملموسًا».