الملف السياسي

تأثيرات الجغرافيا وصراعات الديموغرافيا

17 يونيو 2019
17 يونيو 2019

إميل أمين -

هنا نحن نتحدث عن غاز شرق البحر الأبيض المتوسط، فبحسب الاكتشافات الحديثة والمتوقعة، تبدو المنطقة على عتبات مرحلة جديدة، ربما تغير من أوضاع أسواق العالم، فهناك ينابيع غمر عظيم من الغاز تتفجر، بعضها تفجرت بالفعل كما هو الحال مع حقل «ظهر» المصري الهائل، وهناك عدة حقول مصرية أخرى مقبلة، أضف الى ذلك فإن هناك اكتشافات وحقول غاز كبيرة بدورها أمام لبنان وفلسطين وإسرائيل.

لعل أكثر السلع حول العالم التي تتأثر بتجاذبات العوامل الاقتصادية، وتناقضات الأوضاع السياسية حول العالم، هي تلك المتعلقة بالطاقة، ولا يزال النفط يمثل اللاعب الرئيس فيها، على الرغم من الأهمية التي توليها الشركات والدول الكبرى للغاز، إلا انه في حاجة الى أكثر من عقد من الزمن، حتى يصبح هو المهيمن أو المسيطر على الأسواق الدولية، يؤثر فيها، ويتأثر بمعطياتها على كافة الأصعدة.

والشاهد أن الناظر للخارطة الدولية في الآونة الأخيرة يدرك كيف أن الجغرافيا والديموغرافيا، بات لاعبان رئيسيان في تحديد مستقبليات أسعار الطاقة وأوضاعها، بما في ذلك الاكتشافات الحديثة، سواء كانت موصولة بالغاز أو النفط.

هل نتحدث بداية عن الجغرافيا أم عن الديموغرافيا ؟ المؤكد انه اذا كانت الجغرافيا ظل الله على الأرض، فان الديموغرافيا هي ارث الإنسان في الكوكب الأزرق، ومع الأدوات العلمية الحديثة، تلك التي تساعد الديموغرافيا في استنطاق الجغرافيا، فإن مصادر جديدة للطاقة يمكن أن يصل إليها الإنسان، وتؤثر تأثيرا مباشرا في أسواق الطاقة، وأسعارها، وبالتالي على اقتصاديات دول كبرى بعينها، وأخرى يلعب ريع النفط فيها دورا مباشرا.

خذ إليك على سبيل المثال ما نذهب إليه من علاقة بين الجغرافيا والديموغرافيا، تلك التي تتمثل بشكل واضح للعامة والنخبة في قضية النفط الصخري، حول العالم أولا، وفي داخل الولايات المتحدة الأمريكية بنوع متميز.

باختصار غير مخل فإن النفط الصخري هو مصدر جديد من مصادر الطاقة، وفرته الجغرافيا منذ مئات وربما آلاف السنين، للإنسان المتحكم في الطبيعة، أي أن الديموغرافيا هنا هي التي تتسيد المشهد، غير أن الأدوات التي كانت لازمة للاستفادة من الصخر أو الطمي النفطي، لم تكن قد بلغت ما بلغته من تقدم في حاضرات أيامنا.

قبل عقدين أو أكثر لم يكن الأمريكيون يعيرون ذلك النوع ضربا من ضروب الاهتمام، وبالتالي كان خارج حسابات أسواق النفط العالمي، غير أنه وخلال العقدين أيضا جرت الاكتشافات التكنولوجيا بالجديد والمثير، وما يجبر الطبيعة أن تعطي ما عندها بتكلفة زهيدة، ولهذا باتت الجغرافيا التي تتمتع بها الولايات المتحدة الأمريكية لاعبا رئيسا في أن تضحى الولايات المتحدة الدولة الأولى المنتجة للنفط حول العالم، وتستبق بذلك روسيا والمملكة العربية السعودية، وفنزويلا.

والمقطوع به أن الاضطرابات في أسواق النفط حول العالم في الفترة الأخيرة تكاد تخيف الجميع، فلا بديل حتى الساعة عن سائل الحضارة الحديثة، ومع تزايد النقاط الساخنة الملتهبة من جهة، ومع وفرة في الإنتاج في بقاع وأصقاع عديدة حول العالم، لم يعد حتى القائمون على أمر النفط على بينة من توجهات الأسواق العالمية، وهل ستعرف طريقها الى الجنون العالمي، أم أنها سوف تنخفض انخفاضا رهيبا ليصاب الاقتصاد الدولي بفترات ركود وتضخم كارثية.

على سبيل المثال تحدث الأيام القليلة الماضية وزير الطاقة الروسي «الكسندر نوفاك» بالقول انه لا يمكن استبعاد هبوط أسعار النفط الى 30 دولارا للبرميل، إذا لم يتم تمديد اتفاق النفط العالمي.

الوزير الروسي يقطع بأن هناك مخاطر كبيرة نتيجة حدوث فائض في الإمدادات بالسوق، وان موسكو بحاجة لمراقبة سوق النفط بصورة اكبر كي يتسنى اتخاذ قرار متوازن في يوليو المقبل.

التصريحات المتقدمة أعقبها تصريح آخر لـ «بافيل سوروكين» نائب وزير الطاقة الروسي أشار فيه الى أن الدول المشاركة في اتفاق عالمي لتخفيض إنتاج النفط ستتوصل الى قرار موحد بشأن ما سوف يحدث بعد انتهاء الاتفاق الحالي في نهاية يونيو الجاري.

يتبين لنا هنا أن أسعار النفط تتأثر جذريا بأحوال المواءمات السياسية، فإن تم الاتفاق على تحديد كميات الدول المنتجة فإن أسعار الطاقة والنفط خاصة سوف تبقى في ظل ما هو مسموح به، وإن فشلت الدول المصدرة للنفط في الاتفاق فإن أسعار الطاقة حكما سوف تنهار.

والثابت أن هناك عدة عوامل سوف تؤثر في المدى القريب على أسعار النفط بوصفه المادة الأولى في سوق الطاقة، وفي المقدمة منها النزاع التجاري الأمريكي الصيني.. ماذا عن ذلك؟

المعروف انه من قبل أن يدخل الرئيس الأمريكي البيت الأبيض، ومنذ أن كان مرشحا، فهو يناصب الصين العداء، ويرى أنها تهدد عرش الولايات المتحدة اقتصاديا من خلال حصولها على نفط العالم بأسعار زهيدة وتحويلها الى فوائض مالية عالمية.

يتوقف ترامب تحديدا أمام العلاقات الإفريقية الصينية، حيث تقدم الصين قروضا للدول الإفريقية، وتأخذ في المقابل نفط خام، تعيد تصديره للعالم في صورة منتجات بتروكيماوية.

في هذا السياق أعلن ترامب عن جمارك عالية على السلع الصينية، وذهب الى فرض ضرائب مرتفعة جدا على كثير من الواردات الصينية، وما بين هذا وذلك وفي أوائل الأسبوع الثاني من يونيو الجاري كانت أسواق النفط في الأسواق العالمية ترتفع بعد هبوط منيت به، فيما واصلت سياسة التصعيد التجاري التي تمارسها الإدارة الأمريكية حيال الصين وغيرها من الدول، ضغوطها على سوق النفط، ولا سيما مع استعداد بكين للمواجهة بوتيرة عالية.

تنقل وكالة «فرانس برس» عن المحلل في مجموعة «فيليب فيتشرز» في سنغافورة «بنجامين لو» قوله إن «المخاوف المتزايدة المتعلقة بالطلب وضعف الاقتصاد ستؤثر على الأسعار في الأمد القصير».

أما المحلل في مجموعة «فانغارد ماركيتس» ستيفن اينيس، فقد رأى أن الأسواق ما زالت تحت تأثير العرض المفرط وانخفاض الطلب، مضيفا أن «هناك مخاوف حقيقية بسبب التباطؤ الصيني وضعف الاتحاد الأوروبي ومعطيات اقتصادية أمريكية بدأت تترنح»، وحذر من أن «التراجع الاقتصادي خطر قائم فعلا».

وعلى جانب آخر فإن هناك مخاوف حقيقية من أن تكون أسواق النفط في مواجهة احتمالات كارثية يمكنها أن تؤدي الى اشتعال أسعار النفط بصورة أيضا تقود الاقتصاد العالمي الى انهيار مبين.. ماذا عن ذلك؟

الجواب يتلخص في كلمتين، فنزويلا، وإيران... أما عن فنزويلا فهي إحدى أكبر الدول المصدرة للنفط حول العالم، لكن ما يجري فيها من اضطرابات سياسية وصدام بين إدارة الرئيس «ماودوار» والولايات المتحدة الأمريكية بنحو خاص، والتي تدعم غريمه، بدأت في طرح علامات استفهام حول مستقبل أسواق النفط في العالم، وبخاصة اذا تعرضت فنزويلا كما تقول بعض الروايات الى غزو عسكري أمريكي، أو دخول البلاد في مستنقع الحرب الأهلية.

المؤكد انه ساعتها ربما لا يقل الإنتاج فحسب بل ينعدم، وربما تشتعل آبار النفط، كما حدث ذات مرة من تسعينات القرن المنصرم في منطقة الخليج العربي، وساعتها سوف ترتفع أسعار النفط الى عنان السماء وبصورة غير مسبوقة، بسبب نقص الإمدادات التي ستضرب السوق العالمي.

أما عن إيران فإنه يمكن القطع بأن التوتر الحادث مع إدارة الرئيس ترامب من جراء الملف النووي الإيراني، وبعد انسحاب واشنطن بقيادة ترامب من الاتفاق النووي الموقع مع إيران، ومع المخاوف من اي صدام عسكري عمدي أو عفوي، فإن أول سوق مرشح للمخاوف هو سوق النفط، لاسيما وان منطقة الخليج العربي هي واحدة من أهم مناطق استخراج، ومرور النفط حول العالم، والعالم برمته يضع أياديه على قلبه خوفا من تصاعد عنف كارثي لا يعلم احد الى أين يمكن أن يمضي، أو الى جهة ينحو، و أيمكن السيطرة على مقدرات العالم الاقتصادي إذا انفجرت الصدامات العسكرية في المنطقة أم لا؟

بعد آخر بدا بدوره يلقي بعلامات استفهام على سوق الطاقة حول العالم، وهو الخاص باكتشافات الغاز حول العالم، وهنا فإننا نعود مرة أخرى إلى العلاقة الجدلية بين الجغرافيا والديموغرافيا، والحديث على أكثر من شق، ذلك أن مراكز القوة والتأثير المعنوي والمادي تتغير يوما تلو الآخر، فالأسبوع الماضي تم الإعلان عن أن استراليا أصبحت الدولة الأولى المصدرة للغاز في العالم، وهذا معناه أن مراكز الثقل باتت في الجانب الشرقي من العالم، بل أقصى الشرق، ولم يعد الغرب كما كان في القرنين التاسع عشر والعشرين هو قلب العالم كما ذهب الى ذلك الجغرافي هالفورد ماكيندر ذات مرة.

جزئية أخرى موصولة بإشكالية الغاز وأسواق الطاقة، ويمكن أن تغير، بل إنها ستغير بالفعل من شكل الشرق الأوسط، وتشابكات خيوطه، وتداخلات خطوطه في العقود القادمة.

هنا نحن نتحدث عن غاز شرق البحر الأبيض المتوسط، فبحسب الاكتشافات الحديثة والمتوقعة، تبدو المنطقة على عتبات مرحلة جديدة، ربما تغير من أوضاع أسواق العالم، فهناك ينابيع غمر عظيم من الغاز تتفجر، بعضها تفجرت بالفعل كما الحال مع حقل «ظهر» المصري الهائل، وهناك عدة حقول مصرية أخرى مقبلة، أضف إلى ذلك فإن هناك اكتشافات وحقول غاز كبيرة بدورها أمام لبنان وفلسطين وإسرائيل، وجميعها ستغير من خارطة أسعار الطاقة، ومن علاقات نفوذ الدول المصدرة والتي تستورد على حد سواء، بل إن كثيرا من المحللين ينحون الى أن العامل الاقتصادي المشترك الواحد قد ينهي حالات الحروب والنزاع تلك التي عرفتها المنطقة منذ سبعة عقود، الى حالة من التعاون المشترك والخلاق.

لكن على جانب آخر فإن حقولا بعينها مثل الحقول القبرصية قد تولد حروبا، سيما وان تركيا ترى أن لها حقوقا تاريخية في تلك المناطق، وبالطبع سنجد اليونان منضوية في الاشتباك، وهذه بدورها دولة من دول الاتحاد الأوربي، فان رقعة المواجهات أو التحالفات سوف تتسع بشكل غير مسبوق.

ووسط كل هذه المقدمات والتوقعات، فان أسواق الطاقة سوف تكون مرتبطة ولا شك بتوقعات حركة الاقتصاد العالمي، بمعنى هل سنشهد ركودا عالميا، تتسبب فيه القروض العالمية ما يعيد أبعاد أزمة 2008 في أمريكا وربما أسوا أم لا؟

الخلاصة: العالم وأسواق النفط تمر بظروف استثنائية والقطع بمستقبل الأوضاع غير محسوم إلى حين أشعار آخر.