lialaa
lialaa
أعمدة

شخصيات روائية في مشاهدات درامـيّة حـيّة «1-2»

16 يونيو 2019
16 يونيو 2019

ليلى عبدالله -

تبلورت العلاقة ما بين الروايات والتلفزيون منذ زمن طويل، فالعلبة الصغيرة التي عرضت صورًا رمادية باهتة تخرج منها أصوات بشرية أحدثت ضجة هائلة، أدهشت العالم، ولوّنت حياة أجيال كثيرة، كبارًا وصغارًا. حكاية الصندوق المربع الذي خطف الحكايات من أفواه الحكائين، فصارت صوتًا وصورةً ومات الحكي وماتت شهرزاد، هذا الصندوق الذي غدا مسطحًا اليوم.

أول رواية تطرأ ببالي كلما وجدت أمامي شاشة تلفزيون حكاية ماريا مارجريتا بطلة رواية « راوية الأفلام» للروائي « إيرنان ريبيرا لتيلير» الطفلة التي كان والدها المقعد يبعثها لمشاهدة الأفلام في السينما كل نهاية أسبوع، لتسرد عليه مشاهداتها التفصيلية عن طاقم التمثيل والحدث بأسلوب حكائي بارع، سرعان ما صارت حكاءة أفلام القرية وأصبحت تمثل ما تشاهده وترتدي كما يرتدي الممثلين لتعزّز المشاهد البصرية في ذهن من يسمعها مبهورًا من سكان تلك القرية النائية: لم أكن أروي الفيلم، بل كنت أمثله، بل أكثر من ذلك: كنت أعيشه. وكان أبي وأخوتي يستمعون وينظرون إليّ بأفواه مفتوحة لكن موهبتها الفذّة انهارت في رواية الأفلام حين تربّع أول تلفزيون في القرية واستحوذت على عقول الناس!

العلاقة ما بين الروايات والتلفزيون توثقت بعد اكتشاف هذا الاختراع، وصار عدد كبير من المهتمين يحرصون على نقل الروايات الجيدة وذائعة الصيت إلى الشاشة التي تلّم حولها جميع أفراد المجتمع وترسّخ جماليات العمل الأدبي في أذهان الناس، كما أن كثير من المسابقات الأدبية والجوائز عالمية صارت تخصص شرطًا للروايات التي ترشح لجوائزها بأن تصلح لصناعة الدراما، ما يجعل الكاتب يكتب أعمالاً تستوفي الصورة الدرامية ليحظى بالفوز والشهرة في آن واحد.

الأدب العربي غزير وثمة كثير من روايات عربية حولت لمسلسلات درامية على رأسها أعمال الروائي المصري الذي حاز جائزة نوبل نجيب محفوظ ولعل من أشهرها «بين القصرين» و(قصر الشوق) و(السكرية) ومسلسل « أفراح القبة» الذي عرض منذ عامين في رمضان وفاقت شهرته الآفاق وتكمن ميزة هذا العمل أنه أخذ من عدة روايات جمعتها ببراعة فريدة السيناريست « نشوى زايد» فوضعت المشاهد العربي أمام عمل درامي رصين عمّق من جماليات روايات الروائي العالمي « نجيب محفوظ» في ذاكرة الأجيال وخلّدت مشواره الكتابي الحافل بأجواء المصريين والشارع المصري. وهناك أسماء عربية عرضت رواياتهم على الشاشات كالروائي «يوسف السباعي»، و«إحسان عبدالقدوس»، و«علاء الأسواني»، و« إلياس خوري»، و«حنا مينه»، و« محمد شكري»، و« غسان كنفاني»، و«أحلام مستغانمي» وغيرهم.

***

بعض أعمال كتابية نالت شهرة تفوق شهرة العمل الدرامي، لكن في الوقت نفسه ثمة أعمال روائية لم تكن بالمستوى المطلوب أو لم تفق جمال الرواية المكتوبة؛ ربما يعود ذلك لطبيعة الشخصيات وتفاصيلها كتابيًّا، وتخييلها في عقل القارئ تكاد تتمايز عن مشاهدتها واقعيًّا. وروايات أخرى حولت لمسلسلات درامية ناجحة بينما الرواية جاءت هزيلة، وهنا أتخيل مشاهد مسلسل المصري (بنت اسمها ذات) من إخراج « كاملة أبو ذكرى» وحوار وسيناريو « مريم نعوم»، حيث يتجلى في المسلسل الذي كان من بطولة النجمة « نيللي كريم» والممثل « باسم سمارة» مدى الصناعة المحكمة التي بذلتها السيناريست « مريم نعوم» في تحويل الحكاية الورقية من تأليف الروائي « صنع الله إبراهيم» التي جاءت ناقصة التفاصيل والترتيب السردي أيضا لأحداثها التي عرضت بوتيرة واحدة إلى حكاية بصرية بانورامية. وخلق شخصيات مشبّعة بالأحاسيس العميقة والحوارات السلسة، لقد صنع فريق العمل عملاً دراميًّا جبارًا، يتناول تاريخ وقضايا الشارع المصري منذ خمسينات القرن الماضي حتى قيام الثورة المصرية.

والحال نفسه أيضا مع مسلسل تركي عرض على الشاشات العربية منذ عام 2005م حتى عام 2010م بأجزائه الخمسة، المسلسل الذي خلق جماهيرية كبيرة وقت عرضه على شاشة mbc «الأوراق المتساقطة» من بطولة عائلة تركية، الأب « علي رضا تكين» مع أبنائه الخمسة، وتكمن قوة المسلسل في شخصية الأب، الرجل الشريف، رسمت شخصيته بملامح عميقة ظهرت مدى نبله مع عائلته، هذا الأنموذج المثالي دفعني شخصيًّا إلى قراءة الرواية التي بنت عليها الحكاية والتي تحمل العنوان نفسه « الأوراق المتساقطة» للروائي التركي (رشاد نوري غونتكن) وهنا كقارئة شعرت بخيبة أمل كبيرة؛ فالرواية جاءت هزيلة ونحتت شخصياتها بسطحية، يبرز هنا عظمة فريق العمل في تحويل الدراما إلى مشاهد بصرية مفعمة بالحركة، مفعمة بالحياة ومشبّعة بالانفعالات الإنسانية الصادقة.

***

وهناك مسلسلات غيّبت جمال الروايات والقصص في أحداث سطحية وركيكة، كمسلسل الخليجي « ساق البامبو» الذي جاء مفتقدًا للقوة والتأثير الذي تمتعت به الرواية التي حملت العنوان نفسه للروائي الكويتي الشاب « سعود السنعوسي» الذي حاز رواية البوكر عن هذه الرواية عام 2013م، حيث تناولت الرواية موضوعًا غاية في الأهمية تفشى في المجتمعات الخليجية لاسيما الكويتية وهو زواج من الفلبينيات وتركهن مع أول حمل دون السؤال عنهن. ترحلّن إلى بلادهن وهن حاملات طفلاً سليل بيئة صحراوية منعّمة بخيرات البترول، فتضعه الأم في بيئتها المعدمة، محرومًا من أبسط حقوقه، متطبعًا بأخلاقيات مكان لا يمت له بصلة وثيقة، ويجد هذا الطفل نفسه متزعزعًا بين هويتين منشطرتين تمامًا كبطل الروائي « إيتالو كالفينو» في رواية « الفيسكونت المشطور»، تائهًا بين أم فلبينية حيث يعيش معها في بلادها وأب خليجي تخلى عنه قبل ولادته وأنكر وجوده! لقد أسقط المسلسل المأخوذ عن هذه الرواية روح الشخصيات؛ فقد جاءت في الكتاب الورقي، أعمق وأدعى تأثيرًا في النفس من العمل الدرامي.