Ahmed-New
Ahmed-New
أعمدة

نوافذ :عريش القيظ

14 يونيو 2019
14 يونيو 2019

بقلم: أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

قبل فترة وجيزة من الزمن جاءنا نبأ رحيل «عريش القيظ» عن دنيانا، وكان لهذا النبأ أثره الكبير على أنفس عايشته، وتشربت الكثير من تفاصيل حياته، ومع تسليمنا المطلق برحيل الأشياء، والأشخاص، والمواقف، فأزمانها متوقفة على شخوصها، وبما أن الشخوص راحلة، فإن كل ما ينتمي إليها هو راحل أيضا، وخسارتنا في هذا الرحيل ليست كبيرة، في ظل معطيات حاضرة تتناسب والعصر الذي نعيشه، ولكن خسارة أجيالنا في ذاكرتهم؛ ربما؛ هي الأكثر، لأن ما يرحل من معززات الهوية لا يمكن تعويضه، لذلك لن تحتضن ذاكرة طفولة أبنائنا؛ لا صورة، ولا اسم «عريش القيظ»، فضلا عن حياة كانت في يوم من الأيام منهجا لاجتماعية سادت، وطالت، وأصلت، وتأصلت، فـ «عريش القيظ» لم يكن ملاذا آمنا، ومأوى يساوي قصور الإسمنت اليوم فقط، بل كان حياة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، استقرت بين جنباته أنفس بعد أن أعناها الضنك والتعب والمشقة، بعد جهد كبير بذل بين السواقي، والبيادر على أطراف القرية، وبعد مشقة جلب الحطب، أو الماء؛ في بعض الأحيان؛ من بين أحضان الأودية التي تمتد طويلا كأجساد الثعابين التي تتلوى دافعة بأجسامها الملساء باحثة عن طريدة تملأ فراغ معداتها.

فـ «طفولة» أبنائنا محملة بذكريات الآيباد، والهاتف النقال، وجهاز الحاسب الآلي، تتمرغ أجسادها على الأسرة الوثيرة، وأصوات مكيفات الهواء الشديدة البرودة، وعلى مجموعة من صور الرسوم المتحركة تملأ جدران الغرف في جوانبها الأربعة، فحكاياتهم مترعة بكل ما هو صناعي، وبكل ما هو إلكتروني، وبكل ما هو مثير للدهشة، وبكل ما هو مؤذٍ للعين وللذاكرة أيضا.

لـ «عريش القيظ» ألف قصة تروى، فبعد أن تهدأ النفوس من يوم عمل مضن، تعود الأنفس اللاهثة نحو الاطمئنان، والاستقرار، تعود لتروي نهم المعدات، ونهم الصدور الحاضنة، ونهم الأفكار الباحثة عن مصدر رزق آخر لعله أن يضيء بارقة أمل أخرى للحياة، لم يكن مكانا عاديا، فاستثنائيته بكل ما يدور بين جنباته الأربعة، حيث تضلله النخيل الوارفة الظلال، التي تتقصى حوله كل نقطة ضوء من شأنها أن تعكر صفو هدوئه، وهدوء ساكنيه، فالسكنية ثيمة طاغية في كل الأجواء المحيطة، وزواياه الأربعة محملة بحاضنات المياه «الجحال» وبحاملات المفارش والوسائد، والملابس، فالأوتاد المنتشرة على جدرانه الأربعة تنتظر بكل لهفة لحظة مساهمتها في القيام بدور ما يسعد هؤلاء الساكنين المتعبين.

«عريش القيظ»: أرخ بفعل حيواته الاجتماعية التي تبادلت فيه الأدوار «بانوراما» من الصور المتكثفة، ومن الاشتغالات المتعددة، ومن التعاطي المعقد في بعض جوانبه؛ حيث العقول النافرة نحو الجدية المفرطة، فليس هناك وقت للمكوث طويلا، على الرغم من طول النهار في أوقات الصيف، لأن الصيف المعنون بـ «عريش القيظ» يظل قصيرا ضمن حسابات الربح والخسارة للمتاجرين بإنتاج القيض، ففعاليات التبسيل، وفعاليات الجداد، وفعاليات كنز التمر ووضعه في أوانيه الخاصة المصنوعة من سعف النخيل، وفعليات تجفيفه المعرضة لظروف المناخ المختلفة: رياح، أمطار، سحب كثيفة، كلها مدعاة أن لا تكون هناك حالة سكون، وحالة استنشاق الأنفاس، فالتفكير دائما هناك فصل الشتاء الطويل، الذي لا يرحم، وبالتالي فالذخيرة هي ما تجود به هذه النخلة الكريمة في زمنها القصير المتاح.

«عريش القيظ»: في زمن القيظ تجاوز مفهوم البيت الذي يتهاوى إليه أفراد الأسرة بعد عناء تجوال يوم مستمر، ولأن زمن الصيف قصير، فكل ما كان يدور في «عريش القيظ» استثنائيا بحكم المرحلة، وكم كانت الحياة فيه سعيدة، ومرفرفة على أجنحة الحلم الجميل الذي يولد كل يوم في مخيلة ساكنيه، فيعززها بأمل الحصاد الوفير، وبجني محصول أفضل، وإذا كانت النخلة حينها هي المتسيّدة على المشهد الاجتماعي لكل الساكنين في «عريش القيظ» فكانت محاصيل الحمضيات بأنواعها، والمانجو، والتين، هي الأخرى تبحث لها عن موطئ قدم في اهتمامات كل القاطنين تحت مظلة «عريش القيظ».