الملف السياسي

ليلة سقوط أحلام الشعبويين

10 يونيو 2019
10 يونيو 2019

رشا عبدالوهاب -

السؤال الأساسي الذي دارت حوله انتخابات البرلمان الأوروبي التي جرت في الفترة بين 23 و26 مايو الماضي، كان حول تغيير أوروبا. وعلى الرغم من أن هذا كان هدف أحزاب اليمين المتطرف الأوروبية وتحالفهم، إلا أن الأوروبيين أنفسهم أكدوا عبر نتائج الاقتراع أنهم يرغبون في التغيير، فالنتائج شهدت انقلابا ضد الأحزاب الكلاسيكية الوسطية، وإن لم يكن بالقوة المتوقعة. فقد أظهرت النتائج استمرار الأحزاب التقليدية في تصدر المشهد دون تحقيق الأغلبية التي تمكنهم من قيادة دفة البرلمان الأوروبي دون تحالفات جديدة، وحققت أحزاب اليمين المتطرف «الشعبويين» والخضر «المدافعين عن البيئة»، «والقوميين» تقدما بدرجات متفاوتة، ولا يستهان بها، في صناديق الاقتراع.

ومع تصاعد المشكلات التي تواجه منطقة اليورو مثل أكبر موجة هجرة تشهدها القارة العجوز منذ الحرب العالمية الثانية، بعد قيام ثورات الربيع العربي في دول مثل ليبيا وسوريا، وصعود الأحزاب الشعبوية اليمينية المتطرفة والقومية، إلى جانب أزمة انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي «البريكست»، والأزمات المالية التي مازال يعانى منها بعض الدول الأعضاء، والخلافات بين دولها الكبرى مثل ألمانيا وبريطانيا، والصراع بين فرنسا وإيطاليا.. وغيرها. وإلى جانب هذه الخلافات والصراعات وحتى قبل البريكست، ما زالت نظرية «الدومينو» شبحا يطارد الاتحاد الأوروبي بدوله الثماني والعشرين، وهي النظرية التي تتوقع تفككه مثل الاتحاد السوفييتي السابق، وبدون سابق إنذار. وفي كل الأحوال، فإن المناخ السياسي في أوروبا متقلب، والثقة في القادة عند أقل مستوياتها، فشعبية الرؤساء الفرنسيين، على سبيل المثال، على مدى السنوات الماضية سواء الاشتراكي فرانسوا هولاند وحتى الوسطي إيمانويل ماكرون نادرا من تجاوزت حاجز 30%، وفي أحدث استطلاعات الرأي، حصل ماكرون على تأييد 31% من الفرنسيين على الرغم من أزمة السترات الصفراء، وهو ما ظهر جليا في انتخابات البرلمان الأوروبي حيث تصدرت قائمة «التجمع الوطني» اليمينية المتطرفة بزعامة مارين لوبان الانتخابات لتوجه صفعة إلى قائمة «النهضة» المدعومة من ماكرون. وسعى الرئيس الفرنسي إلى التخفيف من مخاوف صعود التيارات الشعبوية في البرلمان الأوروبي، قائلا إن المنظمة الأوروبية يمكنها تشكيل أغلبية بدون المتطرفين الذين نجحوا بفضل الكذب الذي أذكته هذه التيارات. بينما أعلنت لوبان أنها ستشكل «المجموعة السوبر» داخل البرلمان الأوروبي لقيادة الشعبويين.

وأحد المؤشرات التي تؤكد رغبة الشعوب الأوروبية في التغيير، تتمثل في نسبة المشاركة المرتفعة، فقد شارك 51% من الأوروبيين في هذه الانتخابات، وإن لم يكن الرقم عظيما، إلا أنه يحمل دلالات تشير إلى وعي كبير بأهمية هذه الانتخابات تحديدا، خصوصا أن الانتخابات الماضية شارك فيها 44% فقط. وعلى مستوى الدول، ارتفعت نسبة المشاركة في 21 دولة، مع زيادة كبيرة في أماكن مختلفة مثل إسبانيا والمجر وألمانيا وبولندا.

هذه المشاركة الكبيرة نفسها أثارت المخاوف من إذكاء قوة الشعبويين، إلا أن ذلك لم يحدث، ولم يتدفق القوميون الرجعيون من كل حدب وصوب على بروكسل ليحكموا قبضتهم، لكن المشكلة أن اليمين المتطرف حقق مكاسب في دول كبيرة مثل فرنسا وإيطاليا وبريطانيا، إلا أن عدد مقاعدهم يشكل 170 مقعدا من بين 751 مقعد في البرلمان الأوروبي، وهو ما يجعل صوتهم عاليا داخل البرلمان، لكنهم في الوقت نفسه ليسوا من بين صناع القرار.

المدهش أيضا أن الحرس القديم من يمين ويسار الوسط مني بانتكاسة، بسبب فوز حزب البريكست وخسارة حزبي «المحافظين» الحاكم والعمال المعارض في بريطانيا. فالمجموعتان الكبيرتان اللتان سيطرتا على البرلمان الأوروبي خلال دورته الأخيرة، كانتا حزب الشعب الأوروبي، المدعوم من المستشارة الألمانية آنجيلا ميركل، وتحالف الاشتراكيين والديمقراطيين، الذي يضم مقاعد العمال والديمقراطيين الاجتماعيين، واللذين كان يشكلان التحالف الأكبر، خسرا الأغلبية للمرة الأولى بحصولهما على 332 مقعدا بعد أن كان يسيطران على 403 مقاعد. وجاء في المركز الثالث الليبراليون بحصولهم على 105 مقاعد، ثم الخضر بـ 69 مقعدا. فوز الخضر غير المتوقع سيدفع بأجندة ودماء جديدة في البرلمان الأوروبي، خصوصا بعد إعلان قادة الحركة بأنهم سوف يستخدمون نفوذهم من أجل الدفع بإجراءات فورية لمواجهة التغيير المناخي والعدالة الاجتماعية والحريات المدنية.

ويعكس صعود الخضر في ألمانيا وفنلندا ولوكسمبورج وفرنسا المخاوف بين الأوروبيين بشأن أزمة المناخ. ويمكن أن يشكل الخضر والليبراليون تحالفا حاسما عبر توسيع الأغلبية المؤيدة للاتحاد الأوروبي وتمرير التشريعات الأوروبية دون إعاقة من الشعبويين. وقال الألماني مانفريد فيبير المرشح لرئاسة المفوضية الأوروبية إن الخضر «شريك محتمل» يمكن التفاوض معه خلال السنوات الخمس المقبلة.

هذه النتائج أحدثت زلزالا سياسيا أيضا في عدد من الدول من بينها بريطانيا واليونان والنمسا. فبريطانيا، التي تعاني من صراع الخروج، شهدت معاقبة البريطانيين للحزبين الكبيرين، المحافظين والعمال، اللذين حصدا نتيجة العملية الطويلة والمرهقة والسيناريوهات الكارثية المتوقعة والسياسات الغامضة حول الطلاق الأوروبي، بينما نجح نايجل فاراج زعيم حزب «البريكست» الوليد، والذي تم تأسيسه منذ أربعة أشهر فقط، في قطف ثمار النجاح بوعد صغير أن الخروج سيتم بدون اتفاق، ووفق قواعد منظمة التجارة الدولية. فالحكومة والمعارضة البريطانية دفعا ثمن الخلافات والصراعات حول البريكست غاليا، واضطرت تيريزا ماي إلى الاستقالة من رئاسة الحكومة، واشتعلت المنافسة حول القيادة داخل الحزبين الكبيرين.

أما في اليونان، فقد دعا أليكسيس تسيبراس رئيس الوزراء اليوناني إلى إجراء انتخابات عامة مبكرة بعدما عانى حزبه «سيريزا» اليساري من انتكاسة على مستوى الانتخابات المحلية والأوروبية.

وفي النمسا، التي تعاني من فضيحة كبرى بسبب فساد زعيم حزب «الحرية» اليميني المتطرف، الشريك في الائتلاف الحكومي، والذي اضطر إلى تقديم استقالته بعد فيديو مع سيدة أعمال روسية عرض فيه عليها صفقات في مجال البنية التحتية والإعلام، وهو ما تسبب في إقالة المستشار سيباستيان كورتز في وقت لاحق بعد حجب الثقة عنه في البرلمان، وتكليف بريجيته بيرلاين رئيسة المحكمة الدستورية بتشكيل حكومة انتقالية حتى موعد الانتخابات القادمة.

وفي ألمانيا، أثارت النتائج المخيبة للحزب الديمقراطي الاجتماعي التساؤلات حول استمرارية الائتلاف الحكومي بينه وبين الحزب المسيحي الديمقراطي بقيادة إنجيلا ميركل. أما الوضع في إيطاليا فغير واضح حتى الآن، فتصدر حزب «الرابطة» اليميني المتطرف بزعامة ماتيو سالفيني النتائج بحصوله على حوالي 31%، وهو ما يعنى أن أصبح أقوى من شريكه في الائتلاف الحكومي حركة «خمس نجوم» التي يتزعمها لويجي دي مايو، حيث حصلت الحركة على 18%، وهو ما جعل دي مايو يطالب بانتخابات جديدة داخل حزبه، والذي قد يدفع ثمن احتكاره لعدد من المناصب الحكومية. أما سالفيني فيتحدث عن نفسه باعتباره ترامب إيطاليا بعد تصدر حزبه الانتخابات، مشيدا بسياسات الرئيس الأمريكي الاقتصادية، وهو ما يرجح بحدوث مشكلات كبرى خلال الفترة المقبلة. ولم يفق قادة أوروبا من النتائج التي تسببت في هزات كبيرة في الدول الكبرى، حتى بدأ «صراع العروش» على المناصب العليا لمؤسسات الاتحاد الأوروبي، وخصوصا منصب رئيس المفوضية الأوروبية، التي تعد الذراع التنفيذي للتكتل الأوروبي، وصك مصطلح «صراع العروش» فرانس تيمرمانس زعيم الاشتراكيين الهولنديين، وأحد المرشحين للمنصب. وبدأ الصراع يحتدم بين ميركل التي تدعم مواطنها مانفريد فيبير، وماكرون الذي يدفع بتيمرمانس..

إلا أن هذه الخلاف يبدو محسوما لصالح فيبير الذي يعد «مرشح الأغلبية» وفق ما تقتضيه قواعد الترشح على المنصب خلفا لجان كلود يونكر الذي تنتهى ولايته في نوفمبر المقبل. وعلى الرغم من أن تحالف الشعبويين وسع من مكاسبه، إلا ما حصده من نتائج دفع الليبرالي كزافييهبيتل رئيس وزراء لوكسمبورج إلى إطلاق صرخة تحذير قائلا إن هذه المكاسب «دعوة للاستيقاظ»، وأن القادة الأوروبيين يحتاجون إلى إجراء حوار لجعل الأوروبيين يؤمنون بأوروبا مجددا.

صحيح أن الشعبويين سيكون من الصعب تحقيق أحلامهم بتغيير أوروبا على طريقتهم، أوروبا بلا مهاجرين ولا مسلمين ولا حدود مفتوحة، ودول مغلقة على نفسها، إلا أن خطرهم ما زال قائما في ظل الأزمات التي تواجه الكيان الأوروبي. وفشلت مبادرة ميلانو التي أطلقها رئيس الوزراء الإيطالي إلى جانب 10 أحزاب لليمين المتطرف، في إطار كتلة «أوروبا الأمم والحريات»، في تحقيق هدفها الأساسي بالسيطرة على المؤسسات الأوروبية بل وهدم الاتحاد الأوروبي وإقامة بديل يسمى «أوروبا الأمم والتعاون» كما اقترحت زعيمة اليمين المتطرف الفرنسية مارين لوبان.

فانتخابات البرلمان الأوروبي كانت اختبارا قويا للديمقراطية، وسوف يتأسس عليها مصير أوروبا بعد 5 سنوات من الآن.