أفكار وآراء

لماذا ستنهي السياسة المعطوبة القرن الأمريكي؟

02 يونيو 2019
02 يونيو 2019

بيتر تروبويتز وبيتر هاريس -

المعهد الملكي للشؤون الدولية (شاتام هاوس) - ترجمة قاسم مكي -

هل في مقدور الولايات المتحدة الاستمرار في تشكيل السياسة الدولية مثلما ظلت تفعل طوال 70 عاما أم أن حقبة هيمنتها (على العالم) تصل إلى نهايتها؟

تركز محاولات الإجابة على هذا السؤال في معظمها على القوة النسبية لأمريكا. أي على توازن القدرات المادية بين الولايات المتحدة ومنافسيها الجيوسياسيين. لكن اليوم القيود الأهم على قيادة الولايات المتحدة لا يفرضها المنافسون الأجانب ولكن مصدرها سياستها الداخلية التي يتزايد الخلل في أدائها باطراد.

تعاني أمريكا نقصا في القوة «القابلة للاستخدام» أو المفيدة. وفي حين أن القوة النسبية قياسا بترسانتها العسكرية في مقابل ترسانات منافسيها لم تتغير كثيرا إلا أن القدرة السياسية الداخلية للرؤساء الأمريكيين في تحويل القوة والثروة الضخمة لبلدهم إلى نفوذ دولي تتدهور. هذا هو واقع الحال منذ بعض الوقت. لم يبدأ النقص في قوة أمريكا «القابلة للاستخدام» مع دونالد ترامب لكنه زاد بقدر ملحوظ تحت بصره.

تعتمد القوة القابلة للاستخدام المتاحة للرؤساء على قدرتهم على كسب تأييد قطاع عريض من الناخبين لأجندة سياساتهم الخارجية. تاريخيا، اعتمد الرؤساء على ثلاثة أدوات لكسب الناخبين هي: توافق الحزبين في الكونجرس وقدرة الزعيم على وضع شروط الحوار وإعداد سياسات غير إقصائية اقتصاديا. ساهمت هذه الأدوات بقدر كبير في الإجماع العام الذي شكل أساس السياسة الخارجية الأمريكية لعقود بعد الحرب العالمية الثانية. أما اليوم فهذه الأدوات غير متوافرة كلها بقدر كاف.

شكل توافق الحزبين القاعدة المعهودة في صنع السياسة الخارجية أثناء الحرب الباردة. فالرؤساء الديمقراطيون كان يمكنهم الاعتماد على دعم الجمهوريين «الشرقيين» المعتدلين في الكونجرس. والرؤساء الجمهوريون اعتمدوا على دعم الديمقراطيين «الجنوبيين» المحافظين. ووجد الناخبون المحليون الذين كانوا يشعرون بالقلق من الدوافع الحزبية للرؤساء أن مثل هذا التعاون الحزبي مبعث اطمئنان.

وكذلك أيضا حلفاء وأصدقاء أمريكا في الخارج. لقد شعر هؤلاء بالقلق من أنه في حال غياب الدعم الحزبي سيحدث تراجع أو تباطؤ في الوفاء بالالتزامات الدولية التي يتخذها رئيس الحزب الحاكم عندما يسيطر الحزب الآخر المعارض على البيت الأبيض.

هذا بالضبط ما حدث منذ نهاية الحرب الباردة. فصناعة السياسة الخارجية صارت حزبية ومتذبذبة باطراد. والرؤساء القادمون للحكم صاروا الآن يبحثون عن فرص تفكيك السياسات الموروثة من الرؤساء السابقين. لقد كان ذلك شيئا نادرا ما يحدث إبان الحرب الباردة.

فجورج دبليو بوش انسحب من بروتوكول كيوتو للتغيّر المناخي وعارض معاهدة روما التي أوجدت المحكمة الجنائية الدولية. وأنهى باراك أوباما التدخل الأمريكي في العراق. أما دونالد ترامب فقد أخرج الولايات المتحدة من شراكة «عبر المحيط الهادي» وانسحب من اتفاقية باريس للتغيّر المناخي وتخلى عن الاتفاق النووي الإيراني. ربما أن القوة النسبية للولايات المتحدة لم تتغير منذ أعوام التسعينات. لكن هذه الأمثلة توضح التدهور في استعداد واشنطن في التعاطي مع الالتزامات الدولية وأيضا في مدى الصدقية التي ينظر بها الآخرون لتصريحاتها الدولية.

إذا كانت النزعة الحزبية المفرطة قللت دوليا من قيمة التزامات الولايات المتحدة فغياب رؤية مشتركة لهدف أمريكا على الصعيد الدولي زاد من صعوبة تحقيق هذا التوافق الحزبي داخليا. ومن أجل بناء تحالفات حزبية ثنائية مستديمة على الرؤساء «هيكلة» الحوار الوطني على نحو يقنع الناخبين بأن السياسات الدولية التي تفضلها حكوماتهم ستعزز الأمن الوطني وتزيد من الفرص الاقتصادية وفي ذات الوقت تجعل من الصعب على خصومهم السياسيين تشكيل تحد فعال.

في أثناء الحرب الباردة تمتع الرؤساء بنجاح مقدر في بناء الحوار حول دور أمريكا في العالم. وساعد وجود «خطر واضح وماثل» للأمن الوطني الأمريكي في إمكانية تأطير المحاجة الداعية إلى إيجاد والحفاظ على نظام دولي واسع وباهظ التكلفة يتعلق بالأمن الوطني ومعاداة الشيوعية تحت قيادة أمريكية.

ساهمت هذه الصياغة في بروز بعض أشكال التطرف (مثل المكارثية) والشطط (حرب فيتنام). في الوقت ذاته أرست الأممية على أساس من توافق حزبي متين ومنحت الرؤساء حرية واسعة لخدمة القضايا الأممية.

منذ نهاية الحرب الباردة كافح الرؤساء لتأمين التأييد الداخلي لسياساتهم الخارجية. وفي غياب تهديد من النمط السوفييتي وجد كل من بيل كلينتون وجورج دبليو بوش وباراك أوباما أن جهودهم من أجل نفخ حياة جديدة في النزعة الأممية عصف بها الانقسام الحزبي والضغط الشعبي المطالب بفعل دولي «أقل». وفاقم من الأمور الإحباط الشعبي المتزايد تجاه العولمة والمتعلق بمشكلة النمو الإقصائي (الذي لا يفيد الجميع).

في وقت ما كان الرؤساء الأمريكيون يتحققون من أن سياساتهم الخارجية تحقق عوائد اقتصادية لغمار الأمريكيين. فالسياستان الاقتصاديتان للرئيسين تيدي روزفلت «سكوير ديل» وفرانكلين روزفلت « نيو ديل»على التوالي ربطتا الطموحات الإستراتيجية العظمى في الخارج بسياسات اقتسام المنافع في الداخل. كان ذلك صحيحا بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية خلال معظم حقبة الحرب الباردة. فالرؤساء والمشرعون على السواء كان في مقدورهم الدفاع عن سياسات خارجية أممية من شاكلة الجاهزية العسكرية والتجارة الحرة والعون الأجنبي إلخ... وهم في اطمئنان بأن معظم القطاعات الاقتصادية والمناطق الانتخابية للكونجرس ستستفيد مما يفعلونه.

بدأ تأييد الأممية يضعف حتى قبل سقوط جدار برلين. وبدءا من أعوام الثمانينات كانت إجراءات التقليل من القيود القانونية وخفض الضرائب والسياسات المعادية للنقابات وتفكيكها وتزايد الأرباح التي تفيد القلة تعني أمنا اقتصاديا «أقل» للأغلبية. ومع التزايد المستمر في تكاليف أجندة الليبرالية الجديدة في أعوام التسعينات والعشرية الأولى بدأت أعداد متزايدة من أفراد الطبقتين الوسطى والعمالية بالولايات المتحدة في النظر إلى العولمة ليس كوسيلة لتحسين أوضاعهم الشخصية ولكن كمصدر لاشتداد انعدام المساواة في الدخل وعدم الأمان الاقتصادي.

ثم جاء يوم الحساب في نوفمبر 2016 عندما انتخبت أمريكا رئيسا ترشح ببرنامج انتخابي معاد للأممية دون مواربة.

استفادت سردية ترامب المعروفة باسم «أمريكا أولا» من قلق الأمريكيين من أوضاعهم الاقتصادية. لكن لا توجد لهذه السردية فرصة واقعية في تجسير الفجوات التي تفصل بين الجمهوريين والديمقراطيين والمحافظين والليبراليين والأمميين والوطنيين.

لقد ثبت أن موقف ترامب القاسي من الهجرة غير مقبول إلى حد بعيد من معظم الناخبين حتى إذا كان يروق بشدة لقاعدته الانتخابية. أما تبنيه للقومية الاقتصادية فأكثر شعبية. لكن، حسبما تظهر استطلاعات للرأي العام، حتى أشد مؤيدي ترامب في أمريكا الريفية تساورهم الشكوك من حربه التجارية مع الصين. وفي الأثناء تصاعدت النزعة الحزبية في ظل قيادة ترامب إلى مستويات لم تكن تخطر بالبال قبل الآن.

هل يمكن للولايات المتحدة ترتيب فوضى سياستها الخارجية؟

نعم. لكن كي تفعل ذلك من المهم إدراك أن المشكلة ليست في بيجينج أو موسكو.

إن التدهور في نجاعة السياسة الخارجية الأمريكية له جذور عميقة في السياسة الداخلية بالولايات المتحدة. وستتطلب استعادة قوة الولايات المتحدة «القابلة للاستخدام» تجريفا (تمهيدا) سياسيا شاقا على الجبهة الداخلية. أي تجسير الهوة بين الحزبين وتكوين رؤية سياسية غير إقصائية لربط الأولويات الوطنية بالسياسة الخارجية وتعهدا مستداما بسياسات تنموية وتوزيعية أكثر عدالة.

من المؤكد أن هذا سيكون مطلبا صعب المنال. لكن في الماضي سبق للرؤساء الإبحار بنجاح في مثل هذه المياه المضطربة.

----

* الكاتبان تروبويتز زميل مشارك ببرنامج الولايات المتحدة والأمريكتين بمركز شاتام هاوس، وهاريس استاذ مشارك في العلوم السياسية بجامعة كولورادو ستيت