أفكار وآراء

الرأي العام.. صناعة سياسية لمزيد من الحوار

02 يونيو 2019
02 يونيو 2019

أحمد بن سالم الفلاحي -

الرأي العام؛ كما هو معروف؛ غالبا ما يقف على سطح «تنور» كما يعيش حالة استفزاز في أغلب الأحوال، ولذلك فالخروج عن السيطرة عليه، كثيرا ما يكون أمرا مسلما، وهذا ما نراه في كثير من التجارب الدولية، وهي تجارب معمقة وأصيلة في التعامل مع مناخات الرأي العام.

لن يجادل أحد على أن الرأي العام هو المكوّن المهم في العلاقة القائمة بين الحكومة والشعب، وهو المجسّر الحقيقي فيما تطرحه الحكومات من برامج وخطط تنموية؛ وبين مساحة الرضى عنها لدى الغالبية العظمى من أبناء الشعب، وهو المعول عليه أكثر في تعزيز البنى الأساسية، وذلك انعكاسا لما يطرحه من آراء، وما يستند عليه من حقائق، فهو بمثابة جس النبض لما يدور داخل المجتمع من تفاعل نحو مختلف القضايا بعناوينها المختلفة: الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والسياسية في إطارها العام، ولن تنفك أي تجربة تنموية عن الرجوع إلى مساحة الرأي العام لاستشراف الآراء، والاستفادة من مجموع الخبرات، وللاستبصار نحو التوجهات الذاهبة إلى البناء الحقيقي لمسارات التنمية المختلفة، وبالتالي فأي مكون سياسي لا يعير اهتماما بمسألة الرأي العام، لن ينظر إليه كتجربة ناضجة تستنير بكل معززاتها، ومكوناتها، ودعائمها، وخاصة اليوم في ظل هذا الانفتاح الاتصالي الضخم الذي يتجاوز كل الحسابات، ويفوق كل التوقعات، والمسألة مرشحة للزيادة والتعقيد والاستمرار.

ينظر إلى الرأي العام على أنه مناخ آمن للتعاطي في مختلف العناوين التنموية، وليس له غير ذلك، ولذلك أيضا فكلما كبرت هذه العناوين، انعكس ذلك على مكون الرأي العام، فهو يتوسع كلما توسعت القضايا العامة، وتشعبت مواضيعها وتوجهاته، وأطروحاتها، وأهدافها، فالقضية الواحدة تصبح قضية رأي عام شاملة وعامة، بخلاف ارتباطها بمحليتها فقط، وهذه مسألة مهمة عند النظر في بنيوية الرأي العام، لذلك يصبح من الصعوبة بمكان إطلاق حكم متموضع في شأن تحديد الرأي العام، واليوم يتم تدويل الرأي العام المحلي لما يمليه الرأي العام العالمي من محاور كثيرة يخاطب بها الرأي العام المحلي.

فاتساع الثورة الاتصالية أعطت الرأي العام العالمي بعدا استراتيجيا أكبر وأوسع، فخرج الرأي العام من محليته إلى عالميته، ولعل الرأي العام الرياضي والسياسي والاقتصادي؛ على سبيل المثال؛ يظل الأقرب في التدليل على هذا التوسع، والتي لم تستطع القضية المحلية أن تعيش محليتها فقط، وإنما ينظر اليوم إلى أغلب القضايا على أنها محلية المنشأ، ولكنها عالمية التأثير والتوجه، وهذه الصور تعد نقلة نوعية في مفهوم الرأي العام، وإن نظر إليه في البدايات الأولى لعمر الوعي على أنه مكون فطري في كل المجتمعات، وتأتي السياسات والنظم والبرامج لتفرز أنواعا مختلفة من الرأي العام، فهناك الرأي العام السياسي، والرأي العام الاقتصادي، والرأي العام الاجتماعي، والرأي العام الثقافي، إلا أنه في صورته العامة، أصبح رأيا عاما عالميا، بكل ما تعنيه الكلمة، وتعمد بعض التجارب الدولية إلى في مرحلة معينة من مراحل التنمية، إلى اختلاق قضايا لجس نبض الرأي العام، ومن ثم دراسة رجع الصدى واتخاذ قرار الاستمرار أو عدم الاستمرار.

ومع التسليم بهذا التقييم العام، إلا أنه؛ ومن منظور شخصي؛ أتصور أن الرأي العام يكون نفسه بنفسه، وليس من اليسير صناعة رأي عام منظم وعقلاني، لأن البرامج السياسية للحكومات غير متفقة، وكثيرا ما تتصادم مع الرأي العام، فالمصالح الاستراتيجية؛ على سبيل المثال؛ ليس يسيرا استيعاب مكوناتها واتجاهاتها لأنها تخضع لمسائل استشراف المستقبل، وظروفه المحتملة، وبالتالي متى تم إشراك الرأي العام في جل هذه القضايا، عد ذلك نظرة متقدمة جدا لدى النظام السياسي في أي دولة، بينما؛ حتى إن تداخل الرأي العام مع العناوين العريضة للنظام؛ فإنه يقينا لن يستوعب الرأي العام مستوى التوجه، أو الحسابات الدقيقة غير النظورة الذي يأخذ به النظام السياسي.

ومن هنا تأتي مجموعة المصادمات الفكرية؛ على الأقل؛ بين الطرفين، وإن كان في تقييم آخر أن جل القضايا المحورية للرأي العام هي تلك القضايا التي تلمس جوانب معيشته اليومية، وتتداخل مع مصالحه الشخصية أكثر من المصالح العامة للدولة، ولذلك ينظر إليه بعين الحذر الشديد عند تغذيته ببرامج لم يألفها من قبل، حتى لا تستفز قناعاته عند ذلك، وفي ذلك «ملاطفة» لأن الرأي العام مكون من جميع طبقات المجتمع، وهذه الطبقات ليس من اليسير التعامل معها وفق سياق معرفي محدد، حيث تلعب فيه «عقلية القطيع» دورا محوريا في إعلاء صوته، أو في مهادنته تجاه قضايا بعينها، ولأنه كذلك فيمكن استثارته، وإخراجه عن تماسكه وهيبته، وهذا ما يرجح ضرورة التعامل معه بشيء من الحكمة والتعقل.

فالرأي العام؛ كما هو معروف؛ غالبا ما يقف على سطح «تنور» كما يعيش حالة استفزاز في أغلب الأحوال، ولذلك فالخروج عن السيطرة عليه، كثيرا ما يكون أمرا مسلما، وهذا ما نراه في كثير من التجارب الدولية، وهي تجارب معمقة وأصيلة في التعامل مع مناخات الرأي العام، ومع ذلك ما نراه من مواجهة يكون صادما، ويطرح أسئلة جوهرية عن مستوى الانفلاتات التي تحدث، وإن كانت المسألة لا تخلو في المشاهد من تدخل النخب كما يؤكد ذلك الباحث (مايكل جونستون) في كتابه؛ متلازمات الفساد (الثروة والسلطة والديمقراطية)؛ الذي يقول: «إن المجتمع المدني أيضا مستعمر من قبل الفصائل النخبوية، وأحزابها السياسية، أو تمزقه التقسيمات الإقليمية، أو العرقية أو غيرها التي تجمع بين كونها عميقة الجذور وذات استخدامات سياسية بين النخب الراغبة بتفريق مجموعات المعارضة المحتملة لإبقائها تحت السيطرة» – انتهى النص -.

ولأن المسألة كذلك فيصبح من الصعوبة بمكان التحكم في حيادية الرأي العام، فالنزعات الفردية الضيقة تظل حاضرة عند كل فرد من أفراده، وخاصة عندما تتداخل النخب في خط سير البرامج الحكومية وتوجه مسارات الرأي العام بـ «الريموت كنترول» وأرى أنه كلما كان هناك وضوح وشفافية من قبل النظام السياسي تجاه مختلف القضايا، كلما فوت الفرصة على هذا النوع من النخب لأن تزرع سمومها في عقلية الرأي العام، وهذا مستوى رفيع من التعاطي بين الطرفين، والقليل من ينتبه إليه.

ففي الدول المتقدمة؛ على سبيل المثال؛ والتي تؤمن بالديمقراطية، يلعب الرأي العام فيها دورا محوريا في تصويب البوصلة نحو المسارات الآمنة لبرامجها وسياساتها المختلفة، حيث ينظر إليه بعين الأهمية، خاصة في المناخات التي يتم فيها تجييش الرأي العام لخدمة قضايا معينة، وخاصة القضايا الوطنية العامة، وكلما شعر الرأي العام بأهميته من ناحية وضعه على المحك في مختلف القضايا؛ وخاصة؛ تلك التي تمس مصالحه المباشرة، كلما ساعد ذلك على تبنيه القضية، حيث يصبح مدافعا، ومؤازرا، ومنفذا.

في فهم آخر تجاه الرأي العام الدولي يجب حماية الرأي العام المحلي، وهذه الحماية تكون على صور من التوعية، وشرح القضايا مثار الجدل في المجتمع الدولي، وتبيان الحقائق، لأنه؛ ومن خلال المتابعة لأحداث كثيرة في العالم، يتبين أن الرأي العام الدولي مضحوك عليه، أو مستغفل لوعيه الحقيقي، فجل القضايا الإنسانية تظهر في النهاية على أنها مجموعة من اختلاق الأكاذيب، وتغييب الحقائق، ويسخر الرأي العام الدولي بكل ثقله نحو تعزيز المسارات والتوجهات والخطط السياسية البحتة، وذلك كله لخدمة الأجندات السياسية للدول الكبرى، وما يتحصل عليه الرأي العام الدولي في نهاية الأمر: ارتفاع الضغط، وحرق الأعصاب، وربما المواجهة مع قوى الأمن في بلاده، ومن هنا تأتي أهمية حماية الرأي العام المحلي من الانزلاق في متون أجندات السياسات الكبرى من غير وعي، وإحاطة.

أشير هنا في ختام هذه المناقشة إلى الأهمية الكبيرة التي تلعبها وسائل التواصل الاجتماعي لتعلي من شأن رصيد الرأي العام، من حيث إنها تؤصل دوره في صنع القرار بما تتيحه من حرية التعبير، وعلى العكس ممن يرون أن هذه الوسائل ساهمت في الحجم الكمي لا أكثر، أستطيع الجزم أن رأي عام هذه الوسائل يتضمن الإثنين الكمي والنوعي، واستطاعت عبر مسيرتها القصيرة، أن تصنع رأيا عاما مختلفا عما كان عليه قبل وجودها، سواء من حيث الشمولية، أو من حيث السرعة، أو من حيث التأثير المباشر على صانع القرار، فهذه الوسائل مجتمعة تحقق تكوين رأي عام وتعضيده بالإجماع الكمي والنوعي في آن واحد، ولا يستبعد أن يخرج من محليته ليلاقي نفس التأييد والتوكيد من الرأي العالمي، وبذلك عززت هذه الوسائل الرأي العام، وأعطته نفسا حيويا بلا حدود.