أفكار وآراء

قراءة في نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي

01 يونيو 2019
01 يونيو 2019

د. عبدالعاطي محمد -

وجه الأوروبيون في انتخابات العام 2019 لبرلمان الاتحاد، رسالة قوية للداخل والخارج، مفادها أنهم يقفون في صف الإبقاء على الاتحاد قويا برغم كل الخلافات التي مرت بها القارة العجوز في السنوات الأخيرة، ولكنهم دفعوا بدماء جديدة ونفضوا أياديهم من الأحزاب الكبرى التقليدية عقابا لهم على فشلهم في احتواء هذه الخلافات ووضع مستقبل الاتحاد الذي يضم 28 دولة على المحك.

لقد كان السؤال الرئيس حول مدى أهمية الانتخابات الأخيرة قياسا على انتخابات 2014، هو ما إذا كان الأوروبيون سينفضون أياديهم من الاتحاد الأوروبي تأثرا بالصعود الكبير نسبيا لتيار القوميين أي الذين يريدون الخروج ويفضلون المصالح الوطنية الضيقة لبلادهم على مصالح الجماعة الأوروبية. وكانت الشواهد التي أثارت الشكوك حول مستقبل الاتحاد ماثلة للعيان في أكثر من دولة، لعل أبرزها بريطانيا التي فجرت مطلبها بالخروج من الاتحاد (البريكست)، وتعالى صيحات الشكوى من البقاء في الاتحاد في دول مثل المجر وإيطاليا. كما صعد تيار اليمين المتشدد بشكل ملحوظ في أكثر من دولة، الذي اتخذ اتجاهات شعبوية واضحة ومعادية للأجانب أو للهجرة، وتلاقى هذه الاتجاهات مع نفس دعوات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وعلى الجانب الآخر تابع المواطن الأوروبي باهتمام شديد ما كان يجري داخل الوسط السياسي البريطاني حول كيفية تفعيل الاستفتاء بالخروج من الاتحاد، وتابع كذلك بشغف مظاهرات السترات الصفراء في فرنسا ضد السياسة الاقتصادية للرئيس ماكرون، إلى حد أن مواطنين في دول أوروبية مجاورة تعاطفوا بل وشاركوا الفرنسيين مظاهراتهم، وكانت الرسالة هي تراجع قوة أحزاب الوسط التقليدية في مواجهة صعود تيار اليمين المتشدد. وشكلت كل هذه المشاهد صورة مسبقة عن توجهات الناخب الأوروبي مفادها أنه سيميل نحو دعوات تفكيك الاتحاد لا دعمه.

ولكن نتائج الانتخابات جاءت عكس هذه التقديرات حتى برغم إحراز أحزاب اليمين المتشدد نجاحا ملحوظا. فقد شارك في هذه الانتخابات عدد كبير من الناخبين مما جعل معدل التصويت هو الأعلى خلال العشرين عاما الأخيرة. وارتفاع نسبة المشاركة كان يعني من اللحظة الأولى وقبل إعلان النتائج أن الأوربيين سيصوتون لصالح الدفاع عن بقاء الاتحاد وسيصمدون في مواجهة دعوات القوميين بالخروج تباعا. لأنه منطقيا لو كان معدل التصويت منخفضا لكان قد أشار بوضوح إلى أن دعاة التفكيك سينتصرون لأنه يعني ببساطة عدم اقتناع أو رضا الناخب الأوروبي بمنظومة الاتحاد.

وقد لا يهتم القارئ العربي بأرقام النتائج في حد ذاتها ولكنه معنى بالتعرف على الملامح العامة لهذه النتائج، وهي مهمة بكل تأكيد بالنسبة له، لأن تشكيلة البرلمان الأوروبي الجديدة ستؤثر بلا شك على مستقبل الانتخابات العامة المقبلة في دول الاتحاد، بما يعني أنها سترسم توجهات الحكومات والبرلمانات في هذه الدول.

من هذه الملامح أن أحزاب الوسط الكبيرة التقليدية التي هيمنت في الماضي القريب على البرلمان الأوروبي قد منيت بهزيمة غير متوقعة. ولكن في الوقت نفسه ما تزال أكبر كتلتين في الاتحاد تملكان الأغلبية وهما المحافظون المسيحيون والديمقراطيون الاشتراكيون، تدعمها كقوى للاعتدال الأحزاب الليبرالية وأحزاب الخضر. يقابل ذلك انتصار مهم لا يمكن تجاوز تأثيره مستقبلا لليمين المتشدد خصوصا في كل من بريطانيا وفرنسا!

فقد حقق حزب بريكست (الحديث المولد) في بريطانيا فوزا على الحزبين الكبيرين المحافظين والعمال! بينما تفوق التجمع الوطني الذي تقوده لوبان على حزب ماكرون في فرنسا. ومن المهم عدم إغفال قدرة كل من الأحزاب التي دخلت البرلمان على تحقيق تحالفات فيما بينها لتشكيل كتل تستطيع أن تقول كلمتها المؤثرة سواء في اختيار الشخصيات للمناصب المهمة في المفوضية الأوروبية أو اتباع سياسات معينة تخص الوضع الاقتصادي أو السياسة الخارجية.

ما يهمنا في منطقتنا العربية من قراءة هذه النتائج هو ما يعد منها إيجابيا للصالح العربي، وما يعد سلبيا. فالنتائج تشير إلى أن الاتحاد استعاد قدرا كبيرا من وحدته الداخلية بما يعني بقاءه قوة سياسية واقتصادية عالمية بصورة أفضل مما كان عليها خلال الثلاث سنوات الأخيرة، وذلك بالنظر إلى أن كفة القوى المعتدلة ما تزال أكبر من كفة القوى المتشددة أو المتطرفة (العنصرية). كما تعني أن غالبية مواطني 28 دولة أوروبية يرفضون الزج بحياتهم إلى المجهول بالانصياع إلى مطالب القوميين العنصريين مهما تكن قوة حجتها، وما عزز لديهم هذا الموقف أن البدائل لم تكن واضحة أو ممكنة التطبيق، هذا فضلا عن اقتناعهم بأن الوضع الدولي بات معقدا وهناك مصالح مع روسيا والصين يصعب التعامل معها بالمواقف الفردية وإنما بالعمل الجماعي. والدرس الذي يجب أن نتعلمه عربيا هو أنه مهما كانت هناك من خلافات أو اختلافات في الرؤى والمواقف هناك سقف أو حد لها لا يجب أن تتعداه، ومنطق الاعتدال هو الطريق الصحيح للتعامل مع هكذا أوضاع، لقد صوت الأوربيون لصالح هذا التوجه برغم شدة الخلافات فيما بينهم، ولنا أن نهتدى بتبني نفس التوجه.

ومع ذلك فإن استعادة الاتحاد لقوته الداخلية يتم وفق الدفع بدماء جديدة، وهنا لن يكون من السهل التنبؤ بالرؤى والمواقف التي سيتخذها البرلمان الأوروبي بتشكيله الجديد، استنادا إلى أن الدماء الجديدة لها رؤيتها والآليات التي تتبعها، وكلاهما يحتاج إلى الوقت لتبيان معناه. والدرس الآخر هنا هو أن الشعوب الأوروبية تستطيع أن تجدد ممثليها وأن تتمتع بممارستها للديمقراطية من خلال مؤسساتها لا من خلال الانصياع للتيارات الشعبوية. والمعنى بالنسبة لنا هو الاهتمام بالمؤسسات وتجديد دماء ممثلي الأمة، فمع تجديد الدماء تأتى الأفكار الجديدة.

وأما ما يعد سلبيا فهو بالتأكيد التمثيل المؤثر لتيار اليمين المتطرف في البرلمان الأوروبي، فقد حقق هذا التيار تقدما ملحوظا بالنظر إلى أدائه في انتخابات 2014. وصحيح أنه لم يصل إلى درجة الأغلبية وما زال حجمه قليلا فيما يتعلق بتركيبة البرلمان، ولكنه على صعيد بعض الدول منفردة حصل على نسب عالية فاقت الأحزاب الكبرى، ومن هنا يستطيع أن يؤثر على سياسات بلاده الداخلية والخارجية. ولأول وهلة فإن القلق يتركز في مواقف هذا التيار المعادية للأجانب وتحديدا للعرب والمسلمين، مما يفترض عدم تجاوز إمكانية تأثيره سلبيا على مواقف بلاده فيما يتعلق بالهجرة والاندماج، ولا تجاوز احتمال وقوع مظاهر للتعامل بعنصرية مع العرب والمسلمين.

صحيح أن قوى الاعتدال لها الأغلبية حتى الآن في البرلمان الأوروبي، ولكن لا يمكن إهمال احتمال تغير بعض أنظمة الحكم في دول أوروبية مؤثرة بفعل الصعود المتزايد لليمين المتطرف، خصوصا أن المنطقة العربية منخرطة مع أوروبا في مشكلات من النوع الذي ينمو عليه اليمين المتطرف، مثل أزمات اللاجئين العرب لأوروبا نتيجة الأوضاع الأمنية المتدهورة في بعض بلداننا العربية، ومثل الهجرة غير الشرعية التي تأتى لأوروبا عبر المتوسط من خلال شمال إفريقيا. واستمرار الانخراط في مشكلات من هذا النوع من الوارد تحت تأثير قوة اليمين أن تتدخل بعض الدول الأوروبية لوقف تدفق الهجرة غير الشرعية.

أخذا في الاعتبار تغير خريطة القوى السياسية في البرلمان الأوروبي (تراجع وزن أحزاب الوسط التقليدية وزيادة نسب اليمين المتطرف)، واحتمالات تغير بعض أنظمة الحكم لصالح اليمين المتطرف مستقبلا (وكذلك بعض البرلمانات)، فإن البرلمانات العربية مطالبة بدراسة تغير هذه الخريطة وفتح قنوات اتصال مع القوى الجديدة بما فيها قوى من اليمين المتطرف، وذلك بهدف بناء علاقات تعاون وصداقة لكي تضمن المنطقة العربية دعما أوروبيا في قضاياها المصيرية وما أكثرها، لا أن تترك الساحة الأوروبية لخصوم المنطقة.

ولعل ما يعزز الحاجة لهذا المطلب أن أوروبا تكاد تنفض يديها من قضية العرب الأولى وهى القضية الفلسطينية تحت تأثير صعود اليمين الإسرائيلي الذي يتلاقى سياسيا مع اليمين المتطرف الأوروبي. أما انتظار ما يأتي به المستقبل والتعامل بمنطق لكل حادث حديث، فإنه لن يؤدى سوى إلى أن تتحول العلاقة العربية الأوروبية من التعاون إلى الصراع، الأمر الذي لن يفيد أي من الأطراف العربية بأي حال من الأحوال.

التجاوب السريع من البرلمانات العربية مع المستجدات التي أفرزتها انتخابات البرلمان الأوروبي اختبار جديد لقدرة الأطراف العربية على قراءة الأحداث على النحو الصحيح والواقعي، نتمنى أن نرى ما يؤكده في القريب العاجل.