Ahmed-New
Ahmed-New
أعمدة

نوافذ: منطقة منزوعة السلاح

31 مايو 2019
31 مايو 2019

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

يبدو أن المصطلح أعلاه لن يكون حكرا على المسائل العسكرية البحتة، فكل أنشطتنا في هذه الحياة لن تخلو من صدام، وصدام مضاد، كيف ما يكون هذا الصدام: اختلاف في الرأي، اختلاف في الخبرة، اختلاف في العمر، اختلاف في الرؤية، اختلاف في المصالح، اختلاف في مضان النفس وتجاذباتها الخفية، فهذه الاختلافات كلها تتطلب منا أن تكون هناك مساحة فاصلة بين أي طرفين، يعاد من خلالها: التفكير، المراجعة، الحسابات، التوازنات، التعاقدات، الاتفاقات، مناخات العقد الاجتماعي، لأنه ثبت حتى الآن أنه كلما اقتربت: الأجسام، الأفكار، المصالح، التجاذبات، الرؤى، كلما أدى ذلك إلى مزيد من الشحن، الاحتقان، التنافر، وفقا للقاعدة الفيزيائية المعروفة «الأقطاب المتشابهة تتنافر، والأقطاب المختلفة تتجاذب» وكل ذلك مرجعه إلى سبب واحد وهو المصلحة الخاصة، حيث تتنازع الأنفس مع بعضها في هذه المسألة، ولا تتيح لمجموعة العقول الاقتراب من الاتفاق على مصالح العامة، فالمناخ الخاص مخيم، وبقوة في مختلف هذه العلاقات القائمة بين بني البشر.

«منطقة منزوعة السلاح» اعتبرها مساحة أمان ضرورية في كل العلاقات القائمة بين بني البشر، لأنها الوحيدة التي تتيح الفرصة للتفكير بهدوء، والوقوف على بصيرة أكثر وضوحا، وحرية مطلقة في اتخاذ القرار الصائب لكل ما يخص الفرد على حدة، دون أن تكون هناك أية ضغوطات جانبية من أطراف مختلفة، فكل الأطراف؛ في النهاية؛ لا يهمها أن تكون آمنة في ما تعمله، بقدر ما يهمها أن تحقق مصلحتها الخاصة أولا، لا غير.

أنطلق بهذه الرؤية من معايشة عميقة، وطويلة ممتدة لخمسة عقود تقريبا؛ والحمد لله؛ لم أر فيها اتفاقا ثنائيا دام فترة من الزمن تتجاوز العقد الأول أو الثاني بالكثير، وهذا في حالة الاستثناء فقط، أما في الحالات العادية فلربما أقل من ذلك، ذلك لأن الأفكار تتغير، والقناعات تتغير، والرؤى تتغير، والمصالح تتغير، والمعززات تتغير، وبالتالي يصبح في حكم المستحيل بقاء علاقات دائمة بصورة مطلقة، إلا الاستثناء، والاستثناء الوحيد هو علاقات النسب، فقط، لأنها مقيدة بعقد إلهي، والتفريط فيه يذهب إلى العقوبة والجزاء، وهنا فقط تنيخ العلاقات الثنائية أو الجماعية ركابها، أما غير ذلك، فكلها قابلة للمراجعة، بل وتجب فيها المراجعة المستمرة، لأن البقاء عليها مكلف، وأقلها أنه يورث العقد النفسية، ويؤسس قناعات خاطئة.

«منطقة منزوعة السلاح» يجد فيها الواحد منا حريته الشخصية الكاملة، دون أن يعيش حالة ترقب آثمة من الآخرين، الذين لا يهمهم؛ أصلا؛ فيك تقدمك أو تأخرك، غناك أو فقرك، جهلك أو علمك، راحتك أو شقاؤك، مرضك أو صحتك، حياتك أو موتك، فأنت في الحقيقة أنت، ولا غير، ففي هذه المساحة غير الأفقية، بإمكانك أن تعيش آمنا مطمئنا، تمارس حريتك الشخصية، دون أن تسبب أي أذى للآخرين من حولك، تنام في الوقت الذي تريد، وتأكل في الوقت الذي تريد، وتمارس أنشطتك في الوقت الذي تريد، دون أن تعيش حالة من تلصص العيون حولك، لتقيّمك، وتجرّمك وتهينك.

«منطقة منزوعة السلاح» هل المسألة سهلة لأن نعيش في هذه المنطقة، في ظل تراكمات اجتماعية معقدة تتقصى كل صغيرة وكبيرة فينا؟ أقيّم الحالة بأنها ليست سهلة، وستأتينا السهام من كل صوب، وستكال علينا التهم في شخوصنا، ولكن علينا أن نتحمل، ننقذ أنفسنا من براثن الضياع، لنكون محترمين مع أنفسنا، وهذا هو المهم.

«منطقة منزوعة السلاح» هل هذا الواقع سيخفيك عن من حولك؟ لا؛ أبدا؛ بل بالعكس ستكون أكثر قربا، ورضا، وسعادة، واطمئنانا، وقد تتضاعف مساهمتك مع الآخرين، لأنك ستنطلق من قناعاتك، ومن إيمانك، ومن رضاك، وستكون أكثر صدقا، وأكثر أمانة، وأكثر شفافية، وأكثر محبة.