أفكار وآراء

النكبة.. النكسة.. السير عكس التاريخ

24 مايو 2019
24 مايو 2019

محمود التميمي -

خلافاً للمدلول المعبر عن المأساة والضياع الذي مثلته الخيمة كرمز لطرد الفلسطينيين خارج وطنهم ولحياة البؤس والحرمان في مخيمات اللجوء والنزوح، فإن الخيمة قبل النكبة، مثلت على النقيض من ذلك، رمزاً للفرح والابتهاج والاحتفالات الشعبية العارمة، وشاهداً على التسامح والتآخي بين الأديان السماوية الثلاثة، وحالة الاستقرار والانسجام الاجتماعي التي سادت فلسطين لعهودٍ طويلة.

فإلى جانب الاحتفالات الدينية والحشود الضخمة للحجاج والزوار التي شهدتها باحات وأروقة الكنائس في الأعياد المجيدة، وتلك التي استقطبت المصلين والزائرين وشادي الرحال إلى رحاب المسجد الأقصى، عرفت فلسطين المواسم الدينية الشعبية التي جمعت المؤمنين بالديانات الثلاث (الإسلام والمسيحية واليهودية) من أهل البلاد معاً، كموسم النبي موسى قرب القدس وموسم النبي شعيب قرب الرملة، وموسم النبي روبن بن يعقوب جنوب يافا، وما رافقها من مشاهد نصب الخيام والمخيمات على مساحات شاسعة، بلغ استيعابها في موسم النبي روبن 40 - 50 ألف نسمة.

كما أعطى تبني أنظمة الحكم و المؤسسات الدينية الإسلامية تلك المواسم واحتفاءها بأضرحة الأنبياء والأتقياء اليهود منذ القرن الثالث عشر واعتبارها أعيادا ومواسم للمسلمين وللسكان كافة دليلاً على احتضان الأديان وعدم التفرقة والتمييز بحسب العرق والدين والطائفة، على نحوٍ عام، وشاهداً على الحياة الرغيدة لليهود الفلسطينيين، خاصة، وهو الواقع الذي لمسه «ديفيد بن غوريون» (صار فيما بعد أول رئيس وزراء إسرائيلي) و«يتسحاق بن تسفي» (صار فيما بعد ثاني رئيس إسرائيلي)، ودوناه في كتاب صدر قبل ثلاثين سنة من النكبة، بالملاحظة التالية: «الدين الإسلامي كان ديناً ديمقراطيا، ألغى جميع القيود السياسية والمدنية وسعى إلى محو الفوارق الاجتماعية»..

بل إن (بن غوريون– بن تسيفي) بلغا حد الاقتناع بأن: «سكان البلاد الفلسطينيين العرب ينحدرون بأصولهم من الفلاحين اليهود القدماء» وبأن القسم الأكبر من سكان البلاد الأصليين وخاصة الفلاحين في القرى والبلدات، لم يبرحوا بلادهم قط، وآثروا أو اضطروا للانتقال من الوثنية إلى اعتناق اليهودية ثم المسيحية ثم الإسلام تباعاً، إيماناً واعتقاداً أو للمحافظة على وجودهم وللتمسك بأراضيهم وحقولهم، وهو الاستنتاج الذي ربما يكون بقدر منه صحيحاً إذا أرجعنا المسألة إلى أساسها وأدركنا أن الوجود الأول والحقيقي، المستمر والأكثف للسكان في هذه البلاد كان أبداً ودائماً للعرب الكنعانيين..

ابتدأت المشكلة عندما تأسست الحركة الصهيونية بدعوى إيجاد حل لـ «المسألة اليهودية» المتفاقمة في أوروبا والغرب حصرياً، وبدأت السير عكس التاريخ، وطرحت مشروعاً خالف مضمونه التعاليم السائدة والمتوارثة للديانة اليهودية، الحاضة على الارتباط روحياً بأرض الميعاد وتحريم الهجرة الجماعية إليها، واستبدلت ميثولوجيا «خراب الهيكل» بميثولوجيا «خراب المنفى» وحولت الوجهة عن الدعوة لاندماج اليهود في مجتمعاتهم الأصلية، باتجاه فصل اليهود عن أوطانهم وتجميعهم في «دولة اليهود».

أما «دولة اليهود» تلك فلم يتم حسم النقاش بشأن موقعها ومكانها إلا في المؤتمر الصهيوني السابع 1905م عندما صوتت الأغلبية برفض العرض البريطاني لإقامتها في أوغندا واستقر الأمر على فلسطين.

وما لبثت الصهيونية أن تحولت من أفكار وأطماعِ راودت بعض الأفراد من غير اليهود، والحركات الصغيرة المنبوذة من الأوساط الشعبية اليهودية وهيئاتهم التمثيلية، إلى مشروع استعماري دولي، تقاطع مع مصالح الدول الكبرى، فأصدر وعد «بلفور» وزير الخارجية البريطاني في عام 1917م بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، تلاه وعد الرئيس الأمريكي ويلسون في عام 1918م، ثم صودق في مؤتمر سان ريمو 1920م على وعد بلفور وتم تضمينه في صك انتداب بريطانيا على فلسطين من عصبة الأمم في 24 يوليو 1922م ووضع موضع التنفيذ في 29 سبتمبر 1923م، وهكذا جرى سن القوانين ووضع الأسس والمقومات وتأمين الوسائل والأدوات لزرع المستعمرات في فلسطين وتنظيم هجرة اليهود إليها وتسليح العصابات الصهيونية وتدريبها لتشغل مواقع الجيش البريطاني المنسحب على حين غرة من فلسطين، قبل الموعد المعلن، لتحل بالشعب الفلسطيني نكبة عام 1948م، ثم نكسة عام 1967.

وبرغم كل ما وقع من أحداث فاجعة وطرأ من تبدلات وتغيرات جسيمة، منذ ذلك الوقت وحتى الآن، وإلى أن يتم إنهاء الاحتلال، واستعادة الشعب الفلسطيني لحقوقه، سيظل بالمقدور، دحض الحجج والذرائع التي قام عليها المشروع الصهيوني، وإثبات بطلانه، وتهافت كل ما بني وترتب عليه من عواقب وآثار.

ولعل ما يعنينا هنا تحديدا، في الذكرى الـ 71 للنكبة، هو نقض الأسس السياسية والقانونية التي تم بها سلب فلسطين، وتثبيت الدعائم الراسخة، التي تستند إليها، بقوة ورسوخ الحقوق الفلسطينية، وفيما يلي بعض منها:

الشعب الفلسطيني شعبٌ معترف به وباستقلاله، كغيره من الشعوب التي كانت خاضعة للدولة العثمانية، ونالت حريتها واستقلالها، وقد تكرس هذا الاعتراف قانونياً بموجب المادة (2) من ميثاق الأمم المتحدة في عام 1919م، وبموجب معاهدة لوزان 1923م.

وفلسطين دولة معترف بها بموجب المادة (22) من ميثاق عصبة الأمم، التي صنفت فلسطين نصاً، ضمن «المجتمعات التي وصلت إلى مرحلة من التطور، بحيث يمكنها التواجد كدول مستقلة معترف بها، وتخضع بصورة مؤقتة للمساعدة والنصح الإداري من قبل الانتداب إلى أن يحين الوقت الذي تصبح فيه قادرة على النهوض وحدها»، وإخضاع فلسطين للانتداب من الدرجة الأولى، يعزز هذا الاعتراف ويؤكده.

- لم ينص وعد بلفور وكذلك صك الانتداب على إقامة «دولة قومية» للشعب اليهودي في فلسطين، بل على إقامة «وطن قومي» بمعنى تجميع اليهود وإيجاد مأوى لهم مع احتفاظهم بحقوقهم المدنية والسياسية في أوطانهم وعدم فقدانها. كما أنه تعهد بصيانة الحقوق المدنية والدينية لجميع سكان فلسطين بقطع النظر عن الجنس والدين.

وبموجب المادة «30» من معاهدة لوزان 1923م وبموجب المادة (7) من صك الانتداب سُنت القوانين المحلية التي تنظم إصدار الجنسية الفلسطينية والحصول عليها، وتلك أيضاً، علامة من علامات الدولة.

ورغم اشتمال تلك المادة على نصوص سهلت منح الجنسية الفلسطينية لليهود الذين اتخذوا فلسطين مقاما دائما لهم، إلا أنها في الوقت عينه، تمثل حُجة دامغة عليهم، فتلك الجنسية، لم تُستحق، بل جرى منحها، وتلك الجنسية، هي الهوية الحقيقية للبلاد وسكانها، وقد بقيت سارية حتى بعد قيام (دولة إسرائيل) وحملها مواطنوها اليهود، حتى صدور ما سُمي بقانون الجنسية الإسرائيلية في عام 1952م.

- حين دعت الحكومة البريطانية بالبلاغ الرسمي رقم 5893 بتاريخ 9/‏‏ 11/‏‏ 1938 م حكومات عدد من الدول العربية واللجنة العربية العليا لفلسطين ووفداً يمثل اليهود لحضور «مؤتمر فلسطين» في لندن، نشأ خلاف حول موقع فلسطين من مراسلات الحسين- مكماهون سنة 1916م والعهود التي قدمت للعرب، فشكلت لجنة بريطانية- عربية مشتركة للنظر في الخلاف حول المنطقة المستثناة مؤقتاً من الدولة العربية نزولاً عند مصلحة فرنسا، ورغم اشتمال المذكرة المقدمة من الوفود العربية على أدلة وحجج دامغة بأن المنطقة المعنية، لم تكن بأي حال من الأحوال «فلسطين»، ورغم عدم توصل الطرفين إلى اتفاق، إلا أنهما ختما تقريرهما بتصريح مفصلي ومهم جداً: «حسب البيانات التي قدمت إلى اللجنة، ترى اللجنة أن الحكومة البريطانية لم تكن لها صلاحية التصرف في فلسطين دون رغائب ومصالح جميع سكانها» ما يعني بطلان وعد بلفور وكل ما بني عليه.

- الكتاب الأبيض الرابع الذي أصدرته بريطانيا في 27/‏‏5/‏‏1939م بعد فشل «مؤتمر فلسطين» في سنت جيمس نقض الأسس التي قام عليها وعد بلفور وفسره بطريقة تكفل عدم تحول فلسطين إلى دولة يهودية ونص على إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية تشمل كل فلسطين الانتدابية غربي نهر الأردن، ويتمثل فيها جميع سكانها من عرب ويهود على قاعدة التمثيل النسبي خلال عشر سنوات، وأن يتم وضع حدود للهجرة وانتقال الأراضي فلا يتجاوز اليهود ثلث سكان الدولة الفلسطينية.

- قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 الصادر في 29/‏‏11/‏‏1947م بتقسيم فلسطين إلى دولتين لا يزال يجدد كل عام ويعتد به كأساس قانوني ولم ينفذ حتى الآن الجزء المتعلق منه بإقامة الدولة العربية. إلا أن أبرز وأهم فقرة فيه هي التي تقول: «تُقام دولتان مستقلتان عربية ويهودية في فلسطين»، وهو اعتراف قانوني بليغ، ليس فقط لأنه يحفظ للفلسطينيين حقهم في دولة مستقلة، بل الأهم والأخطر، أنه يقر إقراراً مُعلناً، بأن «الدولة اليهودية» وإن قامت على جزء من الأرض، وإن اعترف بوجودها، فهي مُقامة في حيز سياسي وجغرافي هو فلسطين.

- اشترط قرار الجمعية العامة رقم 273-3 الصادر في 11 مايو 1949م قبول إسرائيل عضواً في الأمم المتحدة بتعهدها بتنفيذ القرارين رقم 181 بتاريخ 29 نوفمبر 1947 (تقسيم فلسطين إلى دولتين) ورقم 194 بتاريخ 11 ديسمبر 1948 (عودة اللاجئين إلى بيوتهم)، ولم تنفذ أياً من شرطي قبولها والاعتراف بها، ما سيجعل باب نقض الاعتراف وإبطال العضوية مفتوحاً، على الأقل فقهياً ونظرياً.

لأسباب كثيرة ومتداخلة لم ينفذ الكتاب الأبيض لعام 1939م ولم تنفذ (إسرائيل) تعهداتها للأمم المتحدة بشأن القرارين 181 و194 وتم التصرف بفلسطين خلافاً لرغبات ومصالح سكانها فتمددت (إسرائيل) خارج خطوط الهدنة لعام 1949م وشنت في الخامس من‏ يونيو 1967م م هجوماً خاطفاً على الدول العربية في اليوم نفسه الذي تقرر فيه أن يسافر إلى واشنطن لبحث المشكلة المتفاقمة ونذر الحرب المتلبدة، زكريا محي الدين نائب رئيس الجمهورية المصري والدكتور محمود فوزي نائب رئيس الوزراء للشؤون الخارجية، وانتزعت (إسرائيل) السيطرة على كامل فلسطين وسيناء والجولان ورفضت التعامل بجدية مع تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242 الصادر في 22/‏‏11/‏‏1967م وأهدرت ثلاث سنوات من المفاوضات والجولات المكوكية والجهود الجبارة التي بذلها «جونار يارنج» الدبلوماسي السويدي والممثل الخاص للسكرتير العام للأمم المتحدة دون طائل وردت في 2/‏26/‏‏1971م برفض مذكرته الشهيرة «Aide- Memoire» والقاضية بالبدء بتطبيق القرار على الحدود الدولية مع مصر، فيما وافقت عليها مصر في 15/‏‏2/‏‏1971م.

حاولت (إسرائيل) دائماً المراوغة والتذرع بأن النص الإنجليزي للقرار «242» تغيب منه الـ «التعريف» ويتحدث عن الانسحاب من «أراضي» وليس «الأراضي» وهي حجة ضعيفة يدحضها أن القرار في ذلك الوقت صدر بخمس لغات لها نفس الحجية والوزن القانوني (الإنجليزية، الفرنسية، الإسبانية، الروسية، الصينية) وورد في أربع منها النص بصيغة «الأراضي»، فضلاً عن أن مقدمة القرار تنص على بطلان الاستيلاء على الأراضي بالقوة، و(إسرائيل) التزمت بهذه القاعدة وهذا المعنى حرفياً عند انسحابها من سيناء والأراضي المصرية إلى الحدود الدولية، ما يفرض عليها الالتزام بنفس القاعدة في التعامل مع الأراضي المحتلة كافة.

وربما لا يعلم قادة دولة الاحتلال، أو أنهم يعلمون، أن اللورد «كارادون» مندوب بريطانيا الدائم لدى الأمم المتحدة الذي صاغ القرار بصيغته الإنجليزية أفضى لدبلوماسي عربي رفيع (بحسب ما وثق في مذكراته المرحوم أحمد الشقيري- أول رئيس لجنة تنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية) حول هذه النقطة، بأنه وبقدر ما هو ضليع باللغة الإنجليزية فهو يعلم علم اليقين، ألا فرق لغوياً وبالمعنى الحرفي للنص بين «أراض ٍ» أو «الأراضي» فهو بالحالتين يعني سائر الأراضي أي «كلها».

لم يتوانَ الشعب الفلسطيني في النضال والتضحية من أجل استعادة حقوقه، وانتزع الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، ممثلا شرعيا وحيدا، وحظي بتصويت 138 دولة على قرار الأمم المتحدة رقم 19 /‏‏ 67 في 29 نوفمبر 2012م، بالاعتراف بفلسطين، دولة غير عضو في المنظمة الدولية، وانضمت دولة فلسطين إلى أغلب المنظمات والمعاهدات الدولية، وما زال النضال متواصلاً بكل الوسائل المشروعة لدحر الاحتلال.

وبينما فشل المشروع الصهيوني في بناء «دولة اليهود»، باعتراف الوكالة اليهودية في نهاية عام 2018م بأن 57 % من يهود العالم يرفضون الهجرة لإسرائيل، وإقرار (إسرائيل) بأن 40 % من مواطنيها اليهود يحتفظون بجوازات سفر مزدوجة، فإن (إسرائيل) ما زالت تعيش بالسيف، وتتجه بسرعة نحو تكريس دولة الفصل والتمييز العنصري، ولن تنقذها من نفسها، ولا من قدرها المحتوم، لا الدول الكبرى ولا «الصفقات الكبرى» ما دامت على صلفها وغيّها، تحطم كل شيء في طريقها وتسير عكس التاريخ.