أفكار وآراء

أخلاق الشركات الكبيرة

15 مايو 2019
15 مايو 2019

مصباح قطب -

[email protected] -

نشرت وكالة بلومبرج الاقتصادية خبرا يوم الأحد الماضي يقول إن 40 ولاية أمريكية قررت مقاضاة شركة دواء إسرائيلية بسبب تآمرها، مع آخرين، في الولايات المتحدة لرفع أسعار الأدوية الجنيسة اي المثيلة بمعدلات بلغت احيانا عشرة أضعاف، وان ذلك شمل عشرات الأصناف من تلك الأدوية ، وأشار تقرير « بلومبرج» إلى أن مثل تلك الممارسة تفسر سبب ارتفاع تكاليف الخدمة الطبية فى الولايات المتحدة.

الأمر الطبيعى لقارئ عربي هو الارتياح الى كشف ممارسات بشعة لشركة إسرائيلية من منطلق أنه ما اكثر ما عانينا ونعاني من إسرائيل كلها على بعضها. لكن ما أود التوقف عنده هو اتخاذ هذه القصة كنقطة انطلاق إلى مناقشة أوسع حول الشركات الكبيرة واخلاقها وممارساتها وسمعتها وقواعد عملها وكيف نحدد موقفا من كل ذلك في النهاية بغض النظر عن جنسية الشركة. نسمع كثيرا فى المحافل المهنية الخاصة بالمحاسبة والإدارة وسوق المال وحماية المستهلك أن الشركات الكبيرة تخاف على سمعتها وان عندها «رولز» أي قواعد ونظم رقابة داخلية صارمة ثم انها كلها تقريبا مدرجة في بورصات وملزمة بافصاحات دورية كافية.

ويميل المرء غالبا الى الاعتقاد في ذلك لأن هناك منطقا فيه ولكن الحياة لا تتركنا الى اعتقادنا المريح هذا طويلا ، فبين وقت إلى آخر تنفجر فضيحة تبين كيف أن على المرء أن يكون حذرا في عالم اليوم ، والا يبتلع بسهولة الكلام المزوق أو كلام « البروشورات» عن الشركات وسماتها ونظم عملها والتزامها، مهما كان رونقه. ويبين من القصص الصحفية ومن مطالعة أوراق قضايا أو دعاوى قضائية احيانا كيف أن القصة لم تعد أخلاق الشركات الكبيرة بقدر ما غدت قصة كيف ترتكب المخالفات بما فيها الكبرى منها دون أن يتم اكتشافك. لنتذكر مع هذا القول حكاية الشركة الأوربية الكبرى العاملة فى مجال الطاقة حين تم اكتشاف تقديمها رشاوى وكيف قررت من باب التوبة إنفاق ١٠٠مليون دولار على عدة سنوات لتدعيم الشفافية ومكافحة الفساد. كما لازلنا نذكر بالتأكيد ممارسات البنك السويسرى العملاق الذى ساعد امريكيين على التهرب من الضرائب وكيف تم تغريمه بمليارات الدولارات ، وكذا شركة السيارات الألمانية التي كشف الأمريكيون وجود تلاعب في برنامج نوع من سياراتها لرصد التلوث لتقليل القراءات او حتى تبدو الانبعثات مقبولة واحسن من المعايير الموضوعة.

سأتحدث عن أمثلة أخرى لكن اريد التوقف قليلا هنا لأشير الى حقيقة ماثلة لكن لا يتم التطرق إليها كثيرا الا وهي: من اشطر من الثاني في أعمال الاستخبارات وله عيون وعملاء في كل موقع مهم ليكشف عيوب منافسيه اي منافسي شركات بلده دون أن يتمكنوا هم من كشف عيوب شركاته أو ممارساتها؟ . ان النظر إلى هذه الزاوية سيوضح بالتأكيد بعض ملابسات اعلان أمريكا كشف مخالفة في سويسرا أو المانيا أو غيرهما. نعود إلى ممارسات الشركات الكبرى لنتذكر معا قصة تهرب اكبر الاسماء في العالم من الضرائب او لجوء الكثير منها إلى جزر النعيم الضريبي أو تحايلها على المؤسسات الضريبية بحيث أصبح التجنب الضريبي أو تآكل الوعاء خطرا يهدد الديموقراطية الغربية والاستقرار الاجتماعى كما اكد كثيرون واكدت من قبل في أكثر من مقال. ان كشف التلاعب بتكاليف واسعار الدواء كما جاء فى خبر بلومبرج هو بمثابة لمس زر تفجير لأن من الملاحظ أن الشكوى من افعال الكثير من شركات الدواء فى العالم وبامتداداتها الظاهرة أو الخفية في الدول النامية أصبحت تتعالى يوما بعد اخر ، على اعتبار ان تلك الشركات تتغول على المرضى والمستهلكين عموما بكل الأساليب وتمارس ضغوطات هائلة ومستمرة على صناع القرار لتغيير اي سياسيات تحد من نمو مكاسبها او للتعمية على سلبياتها، وقد اذهب الى القول إنها لا تتعفف احيانا عن تقديم رشاوى هي وشركات المستلزمات الطبية حين يتعلق الأمر بتوريدات كبيرة.

وتحتشد السينما العالمية كما تحتشد الصحف بل والروايات بوقائع تبين فداحة الاعيب بعض شركات الدواء وقسوتها الضارية عندما يهدد طرف ما مصالحها، وما قصة احدى الشركات التي كشف عنها ويكليكس مع وزير في نيجيريا اراد محاسبتها عن استخدام دواء تبين انه ادى الى وفيات ببعيد . لقد دمروا الوزير . في مصر اذكر ايضا اني صدمت ذات يوم باكتشاف ان علمين من اعلام الاستثمار والاعمال احدهما محلي والاخر اجنبي اتفقا سرا على تجنيب جزء من الايرادات لهما دون اظهاره ودون موافقة حملة الاسهم وبقية المستثمرين ، وكيف ظلا يكابران ضد محاولة هيئة سوق المال تصويب الامر. قرانا وعرفنا الكثير من الصحافة الامريكية ذاتها عن قيام شركات كبرى باساءة استغلال الاطفال والنساء في دول فقيرة تتولى انتاج منتجات لصالح تلك الشركات او تمدها بخامات او مدخلات . مقابل ذلك اتفهم وجهات نظر مفكرين اقتصاديين ليبراليين بأهمية الشركات الكبرى وضرورة انشاء الكثير منها فى كافة المجالالات لانها الاقدر على الانفاق على البحث والتطوير وتقليل التكاليف ورفع المهارات واستيعاب التحولات ، كما انه وفى كل الحالات - بحسبهم - يمكن مراقبتها افضل كثيرا عن مراقبة مئات الشركات الصغيرة التي تقوم بما تقوم به او يمكن ان تقوم به شركة واحدة كبيرة . فهل في الامر « فزورة «؟ . ابدا ! . كل ما في الامر اني ادعو الى التيقظ الذهني في مواجهة الجميع وعدم استقبال اي خطاب من اي شركة كما هو وتكوين مجموعات من الاختصاصيين فى كل مجال تكون مهمة كل مجموعة تحليل اعمال ومنتجات وخدمات شركة من الشركات وقوائمها المالية وعرض ذلك على الجمهور المعني باستمرار ، وعدم التربص في نفس الوقت ، والحذر من الوقوع في فخ الحملات المتبادلة بشكل خفي بين المنافسين. إن امثلة اظهار صرصور في زجاجاة مياه غازية والتي شاعت في السنوات الماضية دليل واضح على تلاعبات مستترة ومدفوعة . قد لايصدق القارئ انه يتم احيانا في بعض الحالات توظيف بعض اصحاب نوع من الخطاب الديني في مثل تلك الحروب التجارية سواء بوعي منهم او لا.

لم يعد هناك مفر من ابقاء العقل يقظا في عالم اليوم ، فاشكال تمويه المخالفات والتغطية عليها او اخفائها تماما او تزويق الصورة لا تعد ولاتحصى ، ويتم توظيف كفاءات رفيعة في صناعة تلك الحيل ، بحيث يصعب على اغلبية من المستهلكين اكتشافها . ان المثل العميق الذي يقول : وظل البنك ينتقل من نجاح الى نجاح الى نجاح حتى افلس! يعبر بشكل عبقري عن حقيقة يلمسها من يقوم بتغطية ومتابعة اسواق المال لسنوات طويلة.