الملف السياسي

كل الطرق تؤدي إلى الصين..!

06 مايو 2019
06 مايو 2019

رشا عبدالوهاب -

من رحم فكرة قديمة، تولد وتتبلور الأفكار الجديدة لرسم خريطة لمستقبل عالم متعدد الأقطاب، نظام عالمي جديد لا يتحكم فيه سيد البيت الأبيض.

ومن قلب التاريخ، استلهم الرئيس الصيني شي جين بينج إحياء فكرة «طريق الحرير» مجددًا عبر مبادرة الحزام والطريق أو «حزام واحد.. طريق واحد» التي اقترحها خلال جولة بكازاخستان وإندونيسيا لبناء الطريقين البري والبحري الذي يتسع من أوراسيا إلى إفريقيا وأمريكا اللاتينية والكاريبي ومنطقة المحيط الهادئ. المبادرة جاءت من الماضي، لتواجه تحديات الحاضر، وفي مواجهة مستقبل غامض. المبادرة تركز بشكل أساسي على التنمية المستدامة والتعاون، تكتل دولي جديد في وجه السياسات الأحادية التي يشهدها النظام العالمي من قبل الولايات المتحدة.

وعندما وضع الرئيس الصيني بذور هذه الفكرة الطموحة، بدأت أنظار الكثير من الدول النامية والاقتصادات الناشئة في التوجه إلى ثاني اقتصاد في العالم بحثا عن المستقبل وآفاقه، خصوصًا في ظل الأوضاع الاقتصادية التي شهدها العالم منذ الكساد العالمي في 2009، والذي لم يرحم حتى أقوى الاقتصادات في أمريكا وأوروبا، ومع الوقت بدأت دائرة المبادرة تتسع لتضم دولًا جديدةً وأفكارًا طازجةً مثل تأسيس البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية لدعم المبادرة، ليكون منافسًا للمؤسسات الاقتصادية التقليدية التي تدعمها واشنطن مثل صندوق النقد والبنك الدوليين.

وفي وقت لاحق، عزز التوقيع العالمي التاريخي الذي شهدته الأمم المتحدة على أجندة التنمية المستدامة 2030، والتي تستهدف القضاء على الفقر بكافة أشكاله، ودعوة جميع الدول إلى اتخاذ جميع الإجراءات اللازمة من أجل تعزيز الرخاء والاهتمام بالاحتياجات الاجتماعية مثل: التعليم والصحة والحماية الاجتماعية، وأخير مكافحة التغيير المناخي، هذه الأجندة نفسها صبت في صالح «الحزام والطريق».

وأكدت ماريافرناندا إسبينوزاجا رسيس رئيسة الجمعية العامة للأمم المتحدة أن» المبادرة نموذج للتعاون الدولي الفعال من أجل التنمية المستدامة»، وأشارت إلى أن «هناك دراسات تؤكد على أن هذه المبادرة يمكن أن تسهم في انتشال حوالي 9 ملايين شخص من الفقر المدقع، و34 مليونًا من الفقر المعتدل».

أما العامل الأهم الذي صب في صالح مبادرة شي، فيتمثل في سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي بدأ منذ يومه الأول داخل البيت الأبيض في شن الحرب التجارية وإتباع سياسات حمائية للاقتصاد الأمريكي ضد عدو مجهول، قطب العقارات السابق اتخذ هدفًا مباشرًا بشن حرب تجارية ضد الصين، ومازالت جولات المفاوضات من أجل التوصل إلى هدنة بين واشنطن وبكين مستمرة. لقد مهدت سياسة «أمريكا أولا» التي ينتهجها ترامب أمام الصين «طريقًا مفتوحًا» لتقدم نفسها كقوة عظمى بديلة.

وتعتبر مبادرة الحزام والطريق الصينية مجهودًا طموحًا لتطوير التواصل والتعاون الإقليمي على أعلى مستوى عبر قارات العالم القديم. المبادرة تهدف إلى دعم علاقات الاستثمار والتجارة والبنى التحتية بين الصين و72 دولة، يشكلون مجتمعين 30% من حجم إجمالي الناتج المحلي العالمي، و62% من سكان العالم، و75% من احتياط الطاقة. ولا يزال نطاق المبادرة في مرحلة التبلور، خصوصا بعد تأكيد بكين على أنها مفتوحة لجميع البلدان وكذلك المنظمات الإقليمية والدولية. وبشهادة البنك الدولي، فإن مبادرة الحزام والطريق يمكنها أن تغير البيئة الاقتصادية التي تعمل عبرها اقتصاديات المنطقة، فالتعاون الإقليمي لإنشاء بنى تحتية جديدة ومتطورة. يتكون بشكل أساسي من الحزام الاقتصادي لطريق الحرير، والذي يربط الصين بوسط وجنوب آسيا باتجاه أوروبا، وكذلك طريق الحرير البحري الجديد، ويربط الصين بدول جنوب شرق آسيا ودول الخليج وشمال إفريقيا إلى أوروبا.

وتلعب الصين دورًا مهمًا في دعم والتركيز على قضية محورية، ألا وهي التنمية، وإطلاق إمكانات النمو، بل وتنفيذ الاندماج الاقتصادي والتنمية العابرة للقارات بحيث يستفيد وينتفع الجميع. ومن المحتمل أن تجد الدول المستفيدة العناصر الجاذبة الأساسية للمبادرة في توفير أساسيات البنى الأساسية، كما أن «الحزام والطريق» تمنح الصين الفرصة لاستخدام قدراتها الاقتصادية لتمويل هذه المشروعات حول العالم، ورجح بنك التنمية الآسيوي أن الدول النامية في آسيا سوف تحصل على 26 تريليون دولار من استثمارات البنى الأساسية للحفاظ على النمو.

وكما قال الجنرال الصيني صن تزو في كتابه الشهير «فن الحرب» منذ 2500 عام «أولا.. فلتحسب التكلفة»، فأنه بالتأكيد تعود المبادرة بالنفع على الصين، وعلى الدول المشاركة فيها، واعترف الساسة الصينيون أن «الحزام والطريق» سوف تحقق مكاسب اقتصادية وسياسية لبكين، مثل توسيع سوق الصادرات الصينية، ودعم الرنمينبي كعملة دولية، والحد من الاحتكاكات التجارية مثل فرض الرسوم الجمركية وتكاليف النقل، كما أن تنمية وربط البنى التحتية مع دول الجوار سوف يساعد في تقليص زمن وتكاليف النقل، كما ستعمل الصين أيضا على تعزيز النمو في مقاطعاتها الغربية ذات الدخل المنخفض من خلال بناء روابط اقتصادية برية مع آسيا الوسطى. وعلى الرغم من الشكوك التي تدور حول نوايا الصين من إحياء هذه المبادرة، إلا أنها تملأ فجوة موجودة في الكثير من الدول، ألا وهي تمويل مشروعات التنمية. أما على المستوى السياسي، فالصين تريد أن تهيمن على آسيا «حديقتها الخلفية»، وعلى الصعيد الإقليمي، فإن توقعات النمو الاقتصادي لما كان يعرف بالمملكة الوسطى والكثافة السكانية والإنفاق الدفاعي تشير إلى أنها ستتفوق على الولايات المتحدة بحلول 2030، أي خلال حوالي 10 سنوات. أما بالنسبة للتأثيرات الاقتصادية للدول المشاركة في المبادرة، فإن قارة مثل إفريقيا، تحتاج إلى هذه التمويلات لدعم بناها الأساسية وتعزيز صادراتها.

فقد كشفت دراسة للجنة الاقتصادية بالأمم المتحدة عن أن صادرات شرق إفريقيا يمكن أن تصل إلى 192 مليون سنويًا إذا تم تنفيذ مشروعات «الحزام والطريق». الصين تربط دول إفريقيا وآسيا عبر «ممر اقتصادي أزرق» يربط الصين المحيط الهندي بالبحر المتوسط. الحديث عن النفوذ الصيني في إفريقيا ليس جديدًا، وأصبح معلنًا مع سعى دول القارة باتجاه بكين لتنمية ولاستكشاف الموارد والإمكانات خصوصا مع إطلاق أجندة 2063 الإفريقية للتنمية، وتعد مصر، الرئيس الحالي للاتحاد الإفريقي، من بين الدول التي سعت للاستفادة من المبادرة في عدد من مشروعات البنية الأساسية، ومن بينها مشروع عملاق لتنمية محور قناة السويس. ليس إفريقيا وحدها التي سعت إلى المشاركة في المبادرة الصينية، فروسيا، والتي تربطها مع الصين حدودًا عملاقة، وهي قوة عظمى ومنافس قوى للولايات المتحدة، كانت من أوائل الدول التي انضمت للمبادرة. ودعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى إنشاء طريق عالمي، عبر ربط الطريق البحري الشمالي بطريق الحرير.

كما تمكنت بكين من اختراق أوروبا عبر بوابة إيطاليا، إلى جانب جولة أوروبية قام بها الرئيس الصيني الشهر الماضي للترويج لمبادرته، حيث كسرت ألمانيا وفرنسا الحاجز أيضا لتوطيد علاقات أوثق مع الصين، فإلى جانب أهمية ملفات التجارة والاستثمارات، فبكين لاعب أساسي في عدد من القضايا الدولية مثل كوريا الشمالية وإيران وفنزويلا وأفغانستان، كما يوجد تقارب في الرؤى باتجاه الملف الإيراني تحديدًا على العكس من الموقف الأمريكي الرافض لتقديم أي تساهلات مع طهران. فأوروبا تبحث عن ما يمكن تسميته «ثقة استراتيجية» في الصين، ولكن الأهم فتح الأسواق أمام الشركات الأوروبية واحترام مبدأ المعاملة بالمثل. واختارت إيطاليا في البداية الخروج عن الصف الأوروبي، والعلاقات المقيدة، لتعلن انضمامها إلى الحزام والطريق، وهو ما شجع دولا أخرى في القارة العجوز على السعي نحو الانضمام. هذه المعادلة التي تمكنت الصين من تحقيقها عبر ضم أوروبا وآسيا وإفريقيا إلى مشروع طموح، يكشف عن انقلاب جديد قد يشهده العالم خلال السنوات القليلة المقبلة، خصوصًا في ظل الأزمات التي تشهدها التكتلات الكبرى مثل الاتحاد الأوروبي خصوصا بعد البريكست وتهديد دول أخرى بالانسحاب من الكتلة الموحدة وأزمات الموازنة والأزمات الاقتصادية، والخلافات التي يشهدها حلف الناتو، فأمريكا تطالب بالمال من كل حلفائها في كل اتجاه. الحلم أوسع من الطريقين البري والبحري، فقد أصبح هناك «طريق الحرير الفضائي»، وذلك إعلان الصين نجاحها في إطلاق القمر الصناعي «الكومسات 1» الجزائري للاتصالات، في سابقة تعاون بين الصين والعالم العربي في المجال الفضائي.

وهكذا، فأن «طريق واحد» يقدم بديلًا جديدًا ويضخ روحًا في تكتل عالمي ضخم من نوع جديد تقوده الصين.