أفكار وآراء

عن منازعات الطوائف والطائفية في المشرق العربي

04 مايو 2019
04 مايو 2019

ماجد كيالي -

أضحت الطائفية إحدى سمات التشقّقات الاجتماعية في المشرق العربي، وهذه مشكلة كبيرة، بيد أن المشكلة تكمن، أيضاً، في أن ذلك التشقّق لم يعد يتعلق باختلاف الدين، فقط، بل بات يتعلق بالاختلاف بين أتباع هذا المذهب في الدين ذاته، أيضاً، ناهيك انه يتعلق بالتعريف الهوياتي، فبعد أن كانت الأغلبية تعبّر عن نفسها بالانتماء العروبي، أضحى التعريف ضيقاً، ومحصورا بالطائفة المذهبية.

بيد أنه، فوق ما تقدم، فإن تلك التشقّقات لم تعد تدور، على الأغلب، بسبب الاستقطاب أو الاختلاف في شأن اجتهادات دينية أو مذهبية أو فقهية، وإنما حول قضايا سياسية بحتة، تتعلق بالنفوذ والسلطة والنظام السياسي والدور الإقليمي، وكلها شؤون دنيوية، وليست دينية، وشؤون تخص البشر، ولا تخص السماء، ما يفضح مقاصد الطابع الطائفي لهذا الصراع، ويبين زيفه.

نخلص من ذلك إلى ثلاثة نتائج مهمة، الأولى، أن ثمة قوى سياسية، أو أن المنازعات السياسية، على السلطة والموارد، هي سبب ما يحصل، وأن الفكرة الطائفية مجرد غطاء لكل ذلك.

والثانية، أن هذه القوى السياسية تسعى بشكل حثيث لتطويع الدين للسياسة، أي المقدس للمدنس، أو الفكرة الدينية للمصالح البشرية، في إطار من التلاعب والتوظيف والتزييف، على عكس ادعاءاتها أنها تسعى إلى إعلاء شأن الدين.

والثالثة، أنه ينبغي التمييز في كل ذلك بين الطوائف والطائفية، فالطوائف هي معطى ديني/‏‏ثقافي/‏‏ اجتماعي، تبلور عبر التاريخ، وهذا أمر طبيعي، في حين أن الطائفية هي معطى سياسي ينشأ من نوازع قوى وعصبيات سياسية مغلقة، تتأسس على نفي الأخر أو إزاحته أو استبعاده وتهميشه.

إذاً ثمة منازعات وصراعات طائفية، على ما يظهر، بيد أن تفحّص الوضع بصورة موضوعية يفيد بأن تلك النظرة تنم عن تعسّف وسطحية وتسرع، كما تنمّ عن لعبة الحجب والمواربة، سيما إذا كشفنا طبيعة تلك المنازعات والتشققات ودلالاتها واستهدافاتها السياسية.

أيضا، يمكن أن نلاحظ أن ثمة في كل «طائفة»، نسبة لأي دين أو مذهب، تنويعات واختلافات وتباينات، كما ثمة المتدين العادي واللامتدين، المعتدل والمتطرف، المسيس واللامسيّس، المتــــصوف والجهادي، إضافـــة إلى العلماني والديمقراطي واليساري والليبرالي والقومي، وهي حال يصعب معها تصنيف كتل اجتماعية وفق تنميطات طائفية أو مذهبية فقط، بمعزل عن المصالح السياسية والاقتصادية والخلفيات الثقافية، لجمهور كل واحدة من الطوائف أو المذاهب.

والمعنى أن الحديث عن كتل اجتماعية تبعا لهويتها الطائفية/‏‏المذهبية، أنى كانت، ليس وضعاً مسلماً به، فلا توجد حقائق مطلقة، والظواهر الاجتماعية تخضع في صيرورتها، ومع التحول في المعطيات السياسية والثقافية والديموغرافية إلى تغيرات.

القصد هنا أن الطوائف، وليس الأمم فقط، يجري اختراعها، أو يجري تخيلها، أيضاً، حتى ولو كانت قديمة، سيما في صراعات الهوية، التي تغطي أو تحجب صراعات وانحيازات الهيمنة والسلطة.

وباختصار، ثمة هنا مسألتان ينبغي التنويه إليهما، في هذا السياق، أولاهما، عدم وجود تطابق بين الطوائف، بوصفها ظاهرة دينية، تاريخية واجتماعية وطبيعية، وبين الطائفية، أو العصبية الطائفية، كظاهرة مصطنعة تنتج من حيازة جماعة سياسية عناصر القوة والهيمنة، ما يسهل لها التحكم بمجالها المجتمعي، والوصاية على مرجعياتها الدينية، ما يوجب التمييز بين طائفة ما، أو غيرها، بوصفها طائفة، وبين القوى السياسية المهيمنة عليها.

وثانيتهما، أن الطوائف ظاهرة عادية، وقديمة، كونها انعكاساً طبيعياً للتعددية والحيوية الدينية والمذهبية، أما الطائفية فيجري «اختراعها»، وتخيلها، كونها تتأتى من محاولات إضفاء بعد ديني/‏‏مذهبي على الصراعات السياسية، وفي مجال الصراع على الموارد والسلطة، وفي إطار محاولات السيطرة على جماعة ما، وفق عصب ما أو أيدلوجية ما سواء كانت بادعاءات دينية أو دنيوية.

على ذلك فإن الطوائف ستبقى، أما الطائفية فهي مرهونة بمآلات الصراعات السياسية، ولا سيما بالتحول، أو عدم ذلك، نحو الدولة الديمقراطية الدستورية، دولة المواطنين الأحرار والمتساوين.