azza-al-qasabi
azza-al-qasabi
أعمدة

أسرار «نوح العين» دفنت في غياهب «الجب»

24 أبريل 2019
24 أبريل 2019

د.عزة القصابية -

عندما تهل العين دمعا على فراق الأحبة، فإن القلوب تضعف وترق خوفا وكمدا، وعندما يقع ظلم الإنسان على أخيه، فإنه يحمل على عاتقه ذنب ارتكاب الخطيئة الأولى، منذ مقتل هابيل على يد أخيه قابيل، وقيام أخوة يوسف (عليه السلام) بإلقائه في غياهب الجب.

ظل ظلم الإنسان لأخيه، مثارا للجدل عبر العصور، فهو من أصعب أنواع الظلم الذي يتسبب في قطع صلة القرابة، ويفرق بين الأهل والأخوة، وتصبح القلوب قاسية، مقارنة بالإحساس بالألم من ظلم الغرباء، والذي على الأغلب يكون أقل وطأة وتأثيرا.

مسرحية «نوح العين» للكاتب المسرحي البحريني جمال صقر، وأخرجها أحمد علي ، والتي عرضت مؤخرا في مهرجان الشارقة الخليجي، انفردت بموضوعها الاجتماعي التراثي المأخوذ من مفردات البيئة الخليجية قديما، بكل تفاصيلها وحكاياتها وشخصياتها وأحداثها المرتبطة بمصدر الحياة «البئر»، الذي وأدت فيه أسرة خزنة وزوجها وابنها حسن منذ خمسة وعشرين عاما، وظل أنينها بمثابة الصرخة التي تدين القاتل، يتردد في قعر الجب!.. ظل صداها صامدا في أروقة الحي «الفريج» يسمعه الأهالي ليلا:

« آه ... يا عين هلي ونوحي بالدمع أسلاف ...وابكي على ما مضى ذاك الزمان أسلاف...عزّي لقلبٍ عدى دَينٍ وفيه أسلاف »

وبات ذلك الصوت لغزا محيرا للناس، ولا يعلم أحد مصدره، سوى الحاج مبروك الذي قام بتربية ورعاية (الساقي). ذلك الشاب الذي ظل يمد الأهالي بالماء من البئر، ولا أحد يعرف شيئا عن أصله ونسبه.

وفي العديد من المسرحيات العربية نجد «البئر أو الجب» مخبئا لأسرار الناس، كونه بمثابة خزانة للقصص والحكايات وأسرار الناس في القرية أو الحي، ففيه تكمن قصصهم، وأحلامهم، كما يمكن أن تكون مكانا لارتكاب الجرائم مثل القتل، والعنف، والاختطافات، الصراعات والحروب الدامية.

وظل البئر رمزا لمفردات عديدة ارتبطت بحياة الإنسان العربي، إذ كانت «البئر» على موعد مع الحياة والأمل والموت والميلاد. وكثيرا ما نسمع عن الحروب التي شنت نتيجة انقطاع المياه، بغية السيطرة على منابع وقنوات المياه ، ومحاولة مصادرتها واحتكارها، لأضعاف الجبهة المعادية والانتصار عليها.

لقد نسج المؤلف جمال الصقر أحداث مسرحية «نوح العين» بين الساقي وأهالي الفريج، حيث كان ارتباط (الساقي) بالبئر كمصدر للمياه يقوم بتوزيعها على بيوت الحي، وأهمها منزل التاجر عبدالرحمن والد(نجمة) أجمل بنات الحي، التي يتنافس الشباب للاقتران به، بدءا من الفقير وانتهاء بالغني.

ولقد زرع المؤلف شخصية مسعود في ثنايا الحدث بإحكام، وجعلها عاملا مؤثرا لحدوث الصراع وتحريك الحدث الدرامي، وكانت بمثابة المفتاح السحري لفهم شخصية الساقي، وفهم أصله ونسبه. وخاضت هذه الشخصية صراعا ظاهرا مع الساقي، عندما كان مسعود معجبا بنجمة، ويريد الزواج بها.

وبعد تناقل الأخبار عن علاقة نجمة بالساقي الفقير، قرر مسعود التخلص منه، حتى تصبح نجمة زوجة له... ونشب عراك بينه وبين الساقي، تعرض الساقي للضرب والعنف من قبل مسعود. ووقفت نجمة مع الساقي بعد تعرضه للعنف من مسعود، ولكن والدها استشاط غضبا عندما شاهدها تسعف الغريب الساقي، حتى كاد يقتله !

وفي ظل تنامي الأحداث وتصاعدها، نجد مسعود يسعى لخطبة نجمة، ويذكر والدها التاجر عبدالرحمن بالديون التي عليه، ويقدم له عرضا بأسقاطها في حالة تزويجه من ابنته.. يستفيق الحي على أنباء جفاف البئر الذي يمد الأهالي بالماء، وهو مكمن سر الصوت الذي يتردد صداه، ويحمل برهان حقيقة الساقي.

تتصاعد الأحداث لتكشف السر، عندما تحدث الحاج مبروك، إحدى شخصيات المسرحية، والذي كان صامتا لسنوات عديدة، كاتما السر في قرارة نفسه، لاجما لسانه، حتى خرج فجأة أمام الناس، ليبوح بالسر، ويضع حدا لظلم مسعود وتسلطه، إذ أفصح الحاج إن الساقي هو شقيق مسعود، وإنه هو من انقذ حياة الساقي حسن بن عبدالله ، عندما قام الأعداء بالتعاون مع أخيه سند لقتل والدهم عبدالله، عقب ذلك قاموا بإلقائه في غياهب الجب، ظلما وحسدا، وبقي صوت خزنة والدة الساقي «حسن»، يتردد صداه في أروقة الفريج «الحارة».

ورغم تبين الحقيقة أمام مجتمع الحي «الفريج»، إلا أن مسعود يثور ويتمرد ويتكبر على أخيه الساقي، وينفي صحة ما قيل!. نافيا قول الحاج مبروك، ويعتبره مجرد هراء لا صحة له، وإن الساقي مجرد شخص فقير لا أصل له... ولكن بعد استيضاح البراهين والأدلة، ثبت أن الساقي هو شقيق مسعود بالفعل، وهو بذلك يشاطره في الثروة التي ورثها عن والديه.

قدم المخرج أنور أحمد هذه المسرحية برؤى جمالية التمست تفاصيلها من أهالي الفريج «الحي»، مع التزامه بالديكور الواقعي الذي يجسد الحياة بكل تفاصيلها الدرامية، وتتزامن مع صدى الأحداث وإيقاع العرض، التي كانت بمثابة الخيط الفاصل بين الحق والباطل، الليل والنهار، الحلم والحقيقية، والحب والكره.

واقترنت الموسيقى التصويرية بتحول مجرى الأحداث، والكشف عن باطن الشخصيات وصراعها مع الآخر. واستطاعت أن تبرز جماليات الثراء القصصي والمعرفي الذي يحكى لنا أحداثا عشنا تفاصيلها المؤثرة، برؤى الواقع الاجتماعي الخليجي.

كما تمكن فريق الأداء التمثيلي من السير قدما بخطى الحدث والصراع بين الخير والشر، بين الساقي ومسعود، محفوفا بلمسة حب، تبعث الأمل في القلوب التي شابها الطمع والجشع، ولا يزال تاريخ البشرية ينوء بأوجاع ظلم الناس لبعضهم بعض، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.