أفكار وآراء

هل تؤجج أزمة «بوينج ماكس» التنافس في عالم صناعة الطيران؟

24 أبريل 2019
24 أبريل 2019

طارق الحريري -

هل تكون تداعيات وتحديات ما بعد أزمة البوينج ماكس دافعا لازدياد حمى التنافس في عالم صناعة الطيران في العالم؟ وإذا ما اتسعت قاعدة المنتجين فلا شك أن هذا سيكون لصالح المستهلكين.

تمثل صناعة الطيران أحد أذرع الافتصاد ذات التأثير القوي والمباشر بالنسبة للدول المنخرطة في هذه الصناعة والتي تقتصر على عدد قليل من دول العالم وتحديدًا الدول الكبرى المتقدمة في مجالات التكنولوجيا والتصنيع وظل سوق طائرات الركاب مقتصرًا لعقود طويلة على شركتي بوينج وإيرباص في صيغة أقرب للاحتكار الكامل وفي الواقع فإن هذا السوق يتجاوز البعد الاقتصادي إلى جوانب سياسية في بناء العلاقات والمصالح والصراعات بين الدول المسيطرة على هذه الصناعة وباقي دول العالم المستهلكة لها وتحرص الدول المنتجة على إحاطة جوانب التصنيع بالحماية والتكتيم وبلغ من أهمية السرية في هذا المجال أن الدول المنتجة تقوم أجهزة الاستخبارات فيها بالسعي إلى غزو قلاع بعضها البعض للسطو على التصميمات الدقيقة والتطوير الذي يجري، وفي عالم الجاسوسية الجديد هذا أخذت عمليات القرصنة من أجل الحصول على أسرار الإنتاج تؤدي إلى مشكلات وتقاضي أحيانا بين الدول وفي جانب آخر تعمل شركات الطائرات على إجراء عمليات بحث شديدة التعقيد في حالة سقوط إحدى الطائرات ومع غموض أسباب السقوط تستمر عمليات لملمة الحطام وإعادة تركيبه مرة أخرى لسنوات طويلة دون كلل لاكتشاف الأخطاء والمشكلات التي تسببت في السقوط كي لا تفقد الشركات سمعتها وكي تحافظ بالتالي على استمرار قدرتها التسويقية بتحاشي وقوع حوادث بسبب أخطاء التصنيع.

أدى حادث تحطم طائرة الخطوط الجوية الإثيوبية الأخير إلى حدوث زلزال في قطاع الطيران العالمي وألقى بظلال قاتمة على طراز طائرات «بوينج ماكس» المميز الذي كان من المخطط أن يبقى نشطا في التشغيل والتسويق لعقود وقد ضاعف من الأزمة وقوع حادث مشابه لطائرة من الطراز نفسه تابعة لشركة «ليون إير» بعد الإقلاع من العاصمة الإندونيسية جاكرتا في أكتوبر 2018 وبحسب تسجيلات بيانات الرحلة فإن قائدي طائرة «ليون إير» واجها صعوبات في السيطرة على الطائرة بسبب نظام «أم سي إيه إس» الذي هبط بمقدمة الطائرة مرارا وأفقد السيطرة عليها بعد الإقلاع ونتيجة لهذين الحادثين تراجعت أسهم شركة بوينج وحققت خسائر قياسية لم تحدث منذ هجمات 11 سبتمبر 2001 بعد أن قامت أغلب الدول بإيقاف تشغيل الطائرة «بوينج 737 ماكس» في شركات الطيران المسجلة لديها وحظرت الكثير من الدول طيرانها في مجالها الجوي.

تسببت الحادثتان في تحديات ضخمة للشركة المصنعة انعكست في إجراءات أوضحها «دينيس مويلنبرج» الرئيس التنفيذي لشركة بوينج بإعلانه بيانا جاء فيه: إن الشركة تخطط لخفض معدل إنتاج طائراتها 737 إلى 42 طائرة في الشهر بدلا من 52 طائرة نتيجة تنفيذ تعديلات وسعيا لإنهاء وقف طيران أسطولها من هذا النوع في أعقاب الحادثين اللذين أوديا بحياة أكثر من 340 شخصا ونال من سمعة الشركة قال مويلنبرج: إن بوينج تتبعت سلسلة المشكلة التي تسببت في حادثي ليون إير والخطوط الجوية الإثيوبية وأن تفعيلا خاطئا لبرنامج الكمبيوتر الذي يمنع التوقف المفاجئ للمحرك كان ذا صلة مشتركة بين الحادثين.

وأضاف: إن الشركة حققت تقدما في معالجة برنامج الكمبيوتر بالطائرة 737 لعدم تكرار مثل هذه الحوادث مرة أخرى بصورة نهائية ونوه مويلنبرج إلى أنه طلب من مجلس المديرين إنشاء لجنة لمراجعة سياسات وإجراءات الشركة لتصميم وتطوير الطائرات مشددا على أن الشركة تضع اللمسات الأخيرة على مواد تعليمية برامج تدريبية تكميلية لزبائن ماكس حول العالم.

تحدٍ خطير آخر أصبح يواجه صناعة الطائرات لدى بوينج ليس في مجال طائرات الركاب فقط في الشركة التي تعتبر الأولى عالميا في الإنتاج إذ يتمثل هذا التحدي في أن بوينج تساهم بباع كبير في صناعة الطيران الحربي ومن المعروف أن سلاح الجو الأمريكي هو الأقوى في العالم وتعتمد الولايات المتحدة على هذا الصيت في تحقيق مكاسب خيالية نتيجة بيع طائرات القتال وبعد الأزمة الأخيرة فالذي لا شك فيه أن وزارات الدفاع في أغلب دول العالم التي تعتمد في تسليح جيوشها على المقاتلات الأمريكية سوف تتأنى عند إبرام صفقات جديدة فهذه الشركة الديناصورية في مجال طائرات الركاب تنتج بعد اندماج شركة ماكدونل دوغلاس أضخم طائرة نقل عسكري في العالم هي «بوينج سي-17 غلوب ماستر3» والمروحيات الشهيرة من طراز أباتشي وتساهم بأجزاء في بعض أنواع طائرات القتال والقاذفات المختلفة كما أن بوينج شركة رئيسية في مجال أنظمة الصواريخ لذلك لم يكن من المستغرب أن يتم اختيارها من قبل الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش لإلقاء خطابه الشهير حول الطيران سنة 2003 بمناسبة مرور 100 عام على أول طيران نفذه الأخوان رايت.

الذي لا شك فيه أن وتيرة التنافس في مجال صناعة طائرات الركوب سوف تتسارع بين الدول الراسخة في هذا المجال وهي الولايات المتحدة والدول الأوروبية المتشاركة في إنتاج طائرة الإيرباص وبين دول أخرى لا سيما أن هناك خبرات روسية ينظر إليها بعين الاعتبار في مجال صناعة الطائرات تتميز فيها شركة سوخوي وبالفعل أعلنت شركة «إيركوت» المصممة والمصنعة لطائرة الركاب «إم إس-21» منذ فترة قصيرة أن الطائرة قامت برحلة اختبار جديدة.

وأوضح بيان الشركة أن الرحلة استغرقت بنجاح 3 ساعات و7 دقائق وتسع هذه الطائرة لقرابة 200 راكب. وبطبيعة الحال لم تترك الصين ملعب طائرات الركاب يقتصر على احتكار بوينج وإيرباص وبدرجة ما سوخوي إذ قامت بتصميم وتنفيذ الطائرة «سي 919» التي قامت بعدة رحلات تجريبية ناجحة لتلحق بسوق الطيران في الصين التي هي دولة ذات قدرات فائقة في مجال الهندسة العكسية وتطوير التكنولوجيا، كما يظهر الاهتمام بمجال صناعة الطيران في دول مثل اليابان التي حققت قفزة كبيرة منذ الحرب العالمية الثانية من خلال شركة «ميتسوبيشى» وأسبانيا وإيطاليا والبرازيل وتركيا وكندا وتضاعف هذه الدول من جهودها في الارتقاء بهذه الصناعة بخطى واسعة.

ربما تثير أزمة بوينج الأخيرة شهية الدول الطامحة لكسر احتكار بوينج إيرباص في هذا المجال الصعب ذي التكلفة العالية في مجالات عمليات التصنيع وأبحاث ما قبل التصنيع التي تحتاج إلى جهد ووقت وأمام هذا التحدي قامت كل من روسيا والصين بتشكيل تحالف بينهما حيث أطلقتا مشروعا مشتركا لتطوير طائرة ركاب قادرة على القيام برحلات طويلة وتتسع الطائرة المنتظرة لقرابة 280 راكبا بمدى 12 ألف كلـم وهـذا يضعها في منافسة مباشرة مع «بوينج 787» وإيرباص «إيه «350 وفي هذا الصدد أقامت موسكو مركزا هندسيا خاصا لتنفيذ عمليات الإنتاج التقني والإلكتروني قبل نقل التجهيزات إلى الصين لتجميع الطـائرة والتي ستسمى بإطلاق رقم 929 عليها وتقدر تكلفتها المبدئية بنحو 200 مليون دولار بتقاسم التكاليف بين موسكو وبكين ويخطط البلدان أن تجرى الرحلة التجريبية الأولى بحلول عام 2023 على أن يبدأ التوريد تجاريا بعدها بثلاثة أعوام وتعليقا على هذا المشروع صرح مدير القسـم الآسيوي لمؤسسة «فلايت جلوبل» المتخصصة في شـؤون الطيران إن الهدف المعلـن لبكـين وموسكـو هـو وضع حد لهيمنة بوينج وإيرباص وهو ما لم تتمكن «بومباردييه» الكندية ولا «إمبراير» البرازيلية من تحقيقه لكن بعض الخبراء يؤكدون أن الأمر سيستغرق وقتا ويشير الخبراء أيضا إلى أنه من المتوقع أن تصبح الصين أكبر سوق للطيران في العـالم خلال سنوات قليلة وهذا ما دفع الرئيس الصيني إلى التشديد على أهمية أن تتولى الطائرات صينية الصنع الحجم الأكبر من حركة الرحلات المتنامية بقفزات هائلة وبناء على وضع السوق هذا قـدرت إيـرباص احتياجات الصـين بحوالي 6 آلاف طائرة جديدة تبلغ قيمتهـا 945 مليار دولار خلال العقـدين المقبلـين إلا أن تـوقعات بـوينج كانت أكبر إذ بلغ تقديرها أكثر من تريليون دولار في حين قدرت للشرق الأوسط قرابة 750 مليار دولار.

فهل تكون تداعيات وتحديات ما بعد أزمة البوينج ماكس دافعا لازدياد حمى التنافس في عالم صناعة الطيران في العالم؟ وإذا ما اتسعت قاعدة المنتجين فلا شك أن هذا سيكون لصالح المستهلكين.