Randa-New
Randa-New
أعمدة

عطر :قلب على الحياد

24 أبريل 2019
24 أبريل 2019

رندة صادق -

أقل من رمشة عين تفصلنا عن كل حدث يصادفنا، مهما تيقظت حواسنا، ومهما أعملنا عقلنا، الأمور تخرج عن السيطرة ولا يتفق حساب الحقل مع البيدر، هناك عوامل كثيرة تجعلنا نفقد السيطرة على تلك المصادفات التي ليست دائما مبهجة أو مقبولة، أحداث ومواقف تبعثرنا وتحولنا إلى شتات موزع في كل الاتجاهات، نحتاج إلى طاقة سحرية لإعادة جمعه ولملمته من تلك الزوايا المدببة.

الأمور تحدث بلا مقدمات وبلا مواعيد، تغير مسارات وتفاصيل وأماكن وجغرافيا، انقلابات بل لعلها أكثر من ذلك اندثارات تشبه إلى حد كبير الزلازل حيث تنقلب الأمور رأسا على عقب، رغم أن عند الإنسان قدرة على التكيف بمستويات مختلفة تتعلق بالشخص وقوته النفسية وإرادته في تقبل تلك الأحداث والتسليم بأنها حدثت وعلينا النهوض لنتعامل معها مهما كان حجم التحديات، إلا أن الكِبر والعمر والمرض والفقر والوحدة كلها مجتمعة تشكل عذاب الاستسلام للموت بلا أمل يرتجى.

عالقون في عالم واسع الأبعاد ضيق المفاهيم، وكأننا وجدنا لنسجن في جغرافية المكان والمفاهيم البيئية والموروثات والتقاليد والعادات وكل تلك الخصوصية العرقية التفصيلية، والأحلام المحدودة، معظمنا يعيش ويموت ضمن هذا الإطار الشخصي جدا والأحادي جدا، لذا العالم يتنافر ويتناقض ويتناحر ويتقاتل لإثبات تميز الأعراق أو الأديان أو الأوطان، فكرة التفوق ليست تنافسية ضمن أهداف الوجود البشري أوتصب في مصلحة الإنسانية، بل عدائية ضمن قانون الغاب “البقاء للأقوى” الأول الذي كان يعتمد جهرا والذي ما زال سائدا يمارس فعلا ويجمل ويمنح مسميات طنانة رنانة، هذا الجو العام يجعلنا أسرى للمصادفات الصغيرة، نخشى ما نعيشه من موت محتم وأمراض ومن خسائر مادية وفقد لأعزاء وانهزامات عاطفية، نتحرك في دائرتنا الصغرى دون أن ندرك أننا نقطة في فضاء كوني، تحركنا الأقدار عامة وتتحكم فينا نزعة البقاء.

هذا ما مر بخاطري وأنا أنظر في وجهه، انه وجه من يستعد للرحيل، شديد البياض غادرته حمرة النبض، يقف على ناصية الشارع حاملا خارطة ألمه، يرغب في أن تمنحه شفقة المارة بضعة أشهر يحتاجها ليرتب علاقته بأخطائه ويٌصلح من حاله أو لعله يريد أن يغرف من شغف الحياة، متعلقا بأمل ان نجاته ستمنحه عمرا مختلفا خاليا من الفقر والتهميش وكل تاريخه الذي تلخصه دمعة تحجرت في عين تحول لون بؤبؤها الى لون رمادي قاتم، لا يمكنك ان تحدد بأي لون عاشت تلك العيون، أعرفه ذلك اللون جيدا، انه لون من ماتوا أمام عيني وهم يتمسكون بالحياة، هذا الرجل العجوز جعلني أفكر أننا ربما نحتاج الى قلب قاسٍ يجيد الحياد العاطفي، ينظر ويبتعد لأن الإنسانية فشلت في إقامة التوازن ومنح وداع يليق بكبار السن، هذه الأمنية أمنية العاجز الذي أدرك في لحظتها ان الفقر قاتل ومذل أكثر مما كان يظن، وأن الحياة جميلة ومثيرة وشهية أكثر مما يعتقد . أجراس الرحيل تدق في مكان ما والمطر يتساقط كدمع امرأة ثكلى فقدت ابنها الوحيد، في مثل هذا الموقف العمر يا سادة وحيد أعذل مهدد بالفناء، هذا المشهد ليس عربي الهوية، كما قد يظن البعض، بل هو موجود في كل مكان على وجه الأرض، لأن الإنسانية ليست بخير، رغم المطر ورغم كِبر سنه ورغم أنه يطلب ثمن دوائه، مرّ كُثر من حوله يقودون سياراتهم الفارهة ويرتدون (برندات) جهلهم بأناقة تجاهلهم، تعمدوا قبل الوصول بجانبه الى رفع زجاجهم، لكي لا يقرأوا ولا يروا عيونه الصامتة التي تستجدي إحسانهم .

قلوبهم تجلدت وباتت مسكنا للقسوة، توحشت أحاسيسهم ونالت من إنسانياتهم، مشهد درامي مأساوي، سيبقى يتكرر، طالما أننا نعيش لنلتهم بعضنا البعض، وقد ماتت الرحمة بقلوبنا وسقطت قيم العطاء.

[email protected]