1185860
1185860
مرايا

مراكش.. مدينة الامتداد الحضاري العربي الأندلسي في المغرب

17 أبريل 2019
17 أبريل 2019

ساحة جامع الفنا تجمع الراوي بمروض الأفاعي -

الرباط- يوسف حمادي -

لما كانت جِمال دولة المرابطين، القادة الملثمين القادمين من عمق الصحراء، تزاحم بعضها على الموارد الخصبة لوادي تانسيفت ومراعيه اليانعة، هناك بالجنوب الوسطي للمغرب سنة (1070م) كان القائد يوسف بن تاشفين يَعد خطاه على طريقة حساب المسافات، ليضرب برمحه الأرض غارسا إياه فيها ليحدد مكان بنائه مدينة من تراب أرضها الأحمر، لتبرز على خريطة العالم مدينة يرابط فيها الحُكم العادل، والعلم النافع والفن الساحر، أطلق عليها اسم “مراكش“.

بين دروب مراكش، التي ستُلقب فيما بعد باسم مدينة “البهجة“، سيعرف العابر لها، المتجول بين دروبها وأزقتها وسط مدينتها القديمة؛ حول جامع الكتبية ومنطقة “لالة رقية“، أنها فعلا مدينة “البهجة“ التي تنشر فرحتها للزائرين، فلا تجد من المراكشيين غير الضحك والابتسام ترحيبا، أما النكتة فتجري فيهم مجرى الدم في العروق، إنهم يسمون الفُكاهة “تَقْشَاب“، الذي به ينفذون إلى قلوب الزائرين لمدينتهم، عربا كانوا أم أعاجم، فبنكتهم وتقشابهم ذاك يتسرب صدى قهقهات ضحكهم من داخل الدور والمقاهي إلى الشارع، فالكل في ضحكه منخرطا، فما تكاد تخبو قهقهة حتى تتصاعد أخرى بفعل التنكيت الذكي المضحك لحد سيلان الدموع.

الراوي سينما ناطقة بلا صور

وفي ساحة جامع الفنا، المكان الاجتماعي الثقافي المتميز وسط مراكش، المسجل لدى منظمة اليونيسكو إرثا حضاريا عالميا بما يضمه مسرحه الفني المفتوح على الهواء الطلق من عجائب وغرائب، فهو في النهار مكان للفرجة والترويح عن النفس، بما يُنظم وسط ساحته من حلقات الفرجة والترويح، التي منها ما يُنشطه “الراوي“ الروائي الشفهي، الذي يجمع حوله الناس لحكي لهم حكايات عنتر بن شداد العبسي، وما لاقاه الفارس الشجاع من أهوال ومصاعب في سبيل حبه لعبلة، ففي حلقة الراوي ترى الناس مغمورين بالصمت والسكون، وكأن السينما أضحت مختزلة في شخص واحد بلا صور، أحسن الإبداع والحكي، عارف بأساليب الخطابة والإلقاء وسط ساحة جامع الفنا، حيث تنطلق لغة الراوي في فضاء مراكش حرة طليقة بأطياف الفن والإبداع.

الرحالي مروض الأفاعي

أما وأنت في حلقة “الرحالي“ مروض الأفاعي وشارب الماء الحار، فالزم مكانك وانظر ماذا يجري، إن علم سلوك الحيوانات انتهى في حلقة الرجل ذي الوفرة الشعرية الكثيفة، حافي القدمين يرقص لأفاعيه مخرجا إياها من صناديقها الدافئة، فالأفعى “السرسارة“ ذات الناقوس بذيلها، ضخمة منطوية على البساط المزركش المعروف في المغرب بـ“ الزربية “، وحولها يزحف في خيلاء الثعبان الأسود المعروف بـ “بو المرايات“، وحولهما أصناف عدة من الثعابين من مختلف الأنواع والألوان والأحجام، بينما المروض يضرب الأرض بيديه ورجليه متوعدا العُصاة من ثعابينه بالعقاب الشديد، الذي قد يصل حد الذبح والشواء والأكل، والناس حوله ساكنين خائفين، فترى النساء متمسكات بسواعد أزواجهن، خائفات يأمرنهن بإعطاء الرحالي “البركة “ بما تيسر من المال ومغادرة حلقته إلى حلقة أخرى تسر الخاطر.

مطعم كبير

ومع غروب الشمس واحمرار الشفق وتداخل ألوانه القزحية طلوع أحسن لوحة طبيعية فنية في أفق مراكش، يخلو جزء كبير من ساحة جامع الفنا لتصفف فيه الموائد وأدوات المطبخ المغربي، من مجامر وقدور وطناجير وطواجين وأكواب الشرب والارتواء يصبها “الكراب“ أي السقاء، فتتحول الساحة بأدخنتها المتصاعدة برائحة الأطعمة؛ من رؤوس الأكباش المبخرة، والأسماك المقلية، ولحوم الخروف المشوية والطنجية المراكشية، والدجاج المحمر وكراوع البقر المتبلة.. والناس حول الموائد ساهرون، يأكلون ويشربون، وصدى أغاني الفنان المراكشي حميد الزهير تصل إلى آذانهم وهو يغني: “مراكش يا وريدة بين النخيل“.

وبين صوت التصفيق المراكشي، أو ما يعرف بـ“ التصفيقة المراكشية“، التي تصاحب أغاني المناسبات والأفراح، والتي أدخلها الفنان حميد الزهير ضمن إيقاع أغنياته الشعبية فأضفت عليها إيقاعا فنيا يطرب السامعين، وصوت وقع حوافر خيول جر عربة “الكوتشي“ زادها نغمة وانسجاما. فهذا “السي محمد“، الماكث في عربته قرب “عرصة البيلك“، التي هي حديقة تضم أقدم وأضخم أشجار النخيل التي تقف شاهدة على تاريخ مراكش، لدرجة أن من نزل بمراكش ولم يركب “كوتشي“ سي محمد كأنه لم يستمتع برحلته كما يجب، فالرجل يسير بركاب “الكوتشي“ وهو يدندن لهم أغانيه الشعبية الطاربة والمضحكة في آن.

مدينة الصناعات التقليدية

وفي دروب “قساريات“ الدرازين والسمارين، والنجارين والذباغين، وذوي الصنائع التقليدية بالمدينة التاريخية، تجد ما تلطفت لصنعه الأيادي، وبرعت في صقله وزخرفته الأنامل، من جلابيب مراكشية، قصيرة وعريضة، وطواقي منسوجة بالخيط الحريري الرفيع بمواصفات مراكشية، تُعرف بطولها المرتفع المتميز فوق الرأس، والتي لتثبيتها فوق الهامة طقوس وعادات؛ لها اعوجاج جانبي معروف بين المراكشيين، وعند المغاربة العارفين يعرف ب “تعراق الطاقية“.

إن لمراكش عمقا تاريخيا وامتدادا حضاريا قويا، عربي أندلسي، وذلك بما تشمله من مكوناتها سوسيولوجية وثقافية منفتحة على كل العالم، فقد منحها الله، بالإضافة إلى مكوناتها المذكورة سالفا، شمس قارية بسخونة ودفء علاجي، من بين أسبابه تلك الخطوات العارفة الأولى التي خطاها ذلك القائد الحكيم يوسف بن تاشفين، الذي أغاث المظلومين بالأندلس وآجرهم. لذلك كانت مراكش التي وضع حجرها الأساس وبناء مسجدها الأول الذي فني، أي زال، وما تبقى منه اليوم هو ساحة جامع الفنا، التي تجمع على أرضيتها أجناسا بشرية شتى من كل أرجاء الدنيا، مختلفة ألسنهم متعددة ثقافتهم، يأتون إلى مراكش الحمراء للسياحة والاستجمام، منسجمين مع أهلها، مستفيدين من أجواء بيئتها العلاجية ونسيانهم تعب الأشغال.