adel
adel
أعمدة

ثرثرة العتم

16 أبريل 2019
16 أبريل 2019

عادل محمود -

«ستنتهي الحرب...

ويتصافح القادة، وتبقى تلك العجوز تنتظر ولدها الشهيد، وتلك الفتاة تنتظر زوجها الحبيب، وأولئك الأطفال ينتظرون والدهم البطل...

وأنا لا أعلم من باع الوطن،

ولكنني رأيت من دفع الثمن».

محمود درويش، ضيف هذا العالم الموحش، من فرط الأذى، كاد ينهض من مخبئه في الحياة ليطلّ على مأساة السوري الذي أصبح فلسطيني العصور الحديثة للجوء والنزوح وللخراب.

السطر الأخير يغلي في إناء الشاي: كل يوم أرى مَن دفع الثمن.

ـ نادي العكازات: يضم مبتوري الأرجل والأيدي.

ـ أطفال الحاويات: يبحثون عن شيء يؤكل... فيجدون في الحاوية أطفالاً بعمر اليوم والأسبوع، لقطاء أيام العتم الطويلة والمستمرة.

ـ ليالي العتم: يقول أمين معلوف، وهو يسمع الأنين: «يجب أن نصمت عندما ينام الأطفال، لا عندما يذبحون».

ـ أيام الحمير: بدلا من السيارات التي لم تجد البنزين، والحمير نادرة لأنها طحنت لصنع المرتديلا.

ـ نادي مطاردة الموت: أمشي في شوارع دمشق يومياً هرباً من مطاردة الموت وفكرة الموت، أتحايل عليه في الهروب الذكي، كجندي نفذت ذخيرته، وعليه أن ينجو مستعينا بأداة النجاة الوحيدة... القدمين.

ـ في المقهى جلسنا في حضرة الحرب خلف نافذة المقهى. نحن آمنون الآن. كانت تتحدث بلا انقطاع، وكنت أقشر الفستق السوداني وأتركه في الوعاء الخزفي. اليوم في المقهى فعلت الشيء نفسه ولكن دون فتاة تتحدث طوال الوقت... وقد تذكرت أنها صارت في كندا، وأنا استمع إلى ثرثرتها وأقشر الفستق السوداني للا أحد.

ـ قال للطبيب: لدي إحساس غريب في قدمي المبتورة. ليس ألماً وإنما تنميل وخدر وحكة ممتعة في نهاية المنطقة المبتورة.

قال له الطبيب: هذا نداء الحنين يصدره العضو رسالة إلى الجزء المبتور... الساق والقدم مجهولي الإقامة الآن. لا تقلق ستنقطع الرسائل بمرور الزمن.

في نادي العكازات تحوير لأغنية شعبية: «يابو العكازه يابو العكازه...» بدلا من «يابو المرجله» يرقصون على إيقاعاتها دون أرجل وإنما بالعكازات، وفي مكان ما تضحك الأجزاء المبتورة في المنفى.

الآن أكتب على ضوء الشمعة. لقد انتهت الحرب ولم تبدأ الكهرباء. كنت قد عدت في الساعة الثانية فجراً من رحلة بحث خائبة عن البنزين. فأنا بلا سيارة. ولا داعي للقول بأنني منذ قليل كتبت عن «البلا قدمين». أردت اختراع جملة ذكية، أكتبها، لكنني أحسست بفوات الأوان، كان ثمة فراغ يشبه الذهول. وفجأة (لا أدري من أين) بزغت، كوردة بين الركام، هذه الجملة: «ينبغي أن تحبّ وطنك مهما حاولت الحكومة عرقلة ذلك».

لكن جملة إنشائية من هذا النوع لن تدعك تفرح بشعارٍ صكّته من الحطام إرادة الحياة... فتمضي، بجلال، إلى وصية الشاعر الروسي «يسينين»، الذي لم يكن سعيداً بحكومته: اكتبوا على شاهدة قبري:

«هنا يرقد شاعر أحب وطنه، كما يحب الحانة السكير».

ستنتهي الحرب...

وأنا لا أعلم من باع الوطن

ولكنني رأيت من دَفَع الثمن.