أفكار وآراء

طرق الأبواب المفتوحة والموصدة

10 أبريل 2019
10 أبريل 2019

مصباح قطب -

البحث عن مفاتيح تفض مغاليق الأبواب الموصدة، تلك هي المهمة الصعبة في أي رحلة ذات طبيعة سياسية أو اقتصادية أو اقتصادية سياسية بمعنى أدق إلى الولايات المتحدة الأمريكية. السهل بطبيعة الحال أن تطرق المفتوح، لكن من الخطر أن تطمئن إلى أن المفتوح سيظل مفتوحا إلى الأبد، وعليه لا يجب إغفاله، فهو يحتاج أيضا إلى جهد و لغة خطاب خاصة. ولمناسبة وجودي حاليا في الولايات المتحدة لأكثر من عشرة أيام أستطيع القول إن لغة الرئيس ترامب الصفقاتية أصبحت لغة عامة في الأوساط السياسية الأمريكية على تباينها. لا أعني بذلك أن الأمريكيين أهملوا يوما لغة المصالح، لكن طريقة التعبير عنها اختلفت وأصبحت أكثر مباشرة. المرء على دين خصومه حقا فمن فرط المخاشنة من الديمقراطيين وإعلامهم ضد ترامب اكتسبوا لغته في النهاية.

أصبحوا يتحدثون مثله تقريبا. الجديد أيضا أن ما هو استراتيجي أو بعيد المدى يتراجع إلى حد كبير لصالح ما هو آني أو قصير المدى بحيث يمكنني القول إنه لا توجد قضية استراتيجية يتم العمل عليها في أمريكا حاليا بما تستحقه من حيث طول الأجل والتخطيط بعيد المدى إلا قضية الصين. الزيارة التي أقوم بها تتم في سياق المشاركة في بعثة لطرق الأبواب إلى واشنطن تنظمها الغرفة الأمريكية للتجارة بالقاهرة بشكل سنوي. تشكلت البعثة من ٣٦ من قادة الشركات العاملة بمصر سواء كانت أمريكية أو مشتركة أو مصرية ولها مصالح مع الولايات المتحدة. وتلتقي البعثة قبل مجيئها بقيادات المجموعة الاقتصادية المصرية والوزراء السياديين لتتعرف منهم على توجهات السياسة العامة في مجال الإصلاح الاقتصادي والسياسي والاجتماعي ولتستطيع نقل وجهة نظر دقيقة إلى الجانب الأمريكي عن القضايا التي تخص الشأن العام في علاقات البلدين أو تخص متطلبات ورؤية مجتمع الأعمال.

فواشنطن وطبقا لتخطيط مسبق تقوم مجموعات من أعضاء البعثة (الوفد الصحفي له جدول زيارات خاص) بمقابلة أطراف من خماسية التأثير المعروفة في أمريكا : الإدارة وأساسها البيت الأبيض والبنتاجون والخارجية ومجلس الأمن القومي، ثم الكونجرس بغرفتيه، والميديا، ومنظمات الأعمال، ومراكز الثنك تانكس. وفى النهاية تقوم بتجميع كل الملاحظات والخلاصات في تقرير واحد. أهم ما يمكن كتابته في ضوء الاقتراب من تلك الخبرة هو وجوب أن تلتقى الخصم قبل الصديق فأعضاء البعثة يلتقون مثلا بقيادة «الايباك» أشهر وأقوى وأغنى المنظمات الموالية لإسرائيل في أمريكا وقس على ذلك حيث هناك مراكز ومؤسسات داعمة لليهود وإسرائيل وحتى متشددة ضد مصر طوال الوقت ويتم اللقاء كذلك مع قياداتهم مثل «مشروع الشرق الأوسط للأمن» أو «اللجنة الأمريكية اليهودية» ويتم اللقاء أيضا بقيادات معهد« ودرو ويلسون » ومنهم جانب موال لجماعة الإخوان الإرهابية طوال الوقت. أقصد من هذه النقطة أنه في أمريكا لا يجب أن تترك الساحة لغيرك مهما كان الأمل ضئيلا في إحداث قدر من التفاهم أو التقارب.

ولعل ما يلفت النظر هنا أن وجود اتفاق مصري إسرائيلي قبرصي يوناني على التعاون في مجال الغاز المنتج من حقول البحر المتوسط كان من أكثر الموضوعات التي أثيرت من الجانبين الأمريكي والمصري معا وفي دوائر مختلفة ومتعاكسة بل وقال لي مسؤول في الخارجية الأمريكية إنه من أهم الموضوعات التي تعمل الولايات المتحدة على تشجيعها ودعمها وقد دخل الصندوق الأمريكي للاستثمار عبر البحار بالفعل على الخط العملي لمساندة إقامة أنبوب لنقل الغاز بين مصر وإسرائيل. المصلحة هنا «تقش» بلغة أوراق اللعب بيد أن ما لا ندركه كما يجب في العالم العربي هو أن المصالح قد تتبدل في لحظة وعليك إما حمايتها أو تغيير طبيعتها أو الانتقال إلى «تشبيكة» مصالح أخرى أو جعل مكاسب التعامل معك أعلى من غيرك. المعروف أن إسرائيل تحاول عمل أنبوب في قاع البحر لنقل الغاز إلى قبرص وتركيا وهو عمل يواجه من البداية صعوبات فنية جمة ويحتاج تكاليف ضخمة لكن بافتراض انه تم النجاح في ذلك يوما ما وقتها ستتغير معادلات ولذا يجب أن تكون جاهزا بسيناريو بديل وهكذا.

المناقشات في الدوائر المختلفة لا تمضي بيسر في كل الحالات فكما هو معروف تثار عادة ملفات حقوق الإنسان وحرية التعبير وتطرق الحديث في أكثر من لقاء إلى التعديلات الدستورية في مصر بل وإلى العاصمة الإدارية الجديدة ومدى سلامة الدراسات التي قامت عليها. كان لدى الوفد المصري ما يقوله عن المفهوم الشامل لحقوق الإنسان الذي يضم أيضا الحق في السكن والصحة والعمل وكيف قطعت مصر شوطا واضحا في توفير ومحاولة توفير تلك الحقوق في السنوات الأخيرة وتم إيضاح لماذا يطلب الناس في مصر الاستقرار ولا يمانعون في مدة أطول مع الرئيس الحالي لأن الجمهور العام تحمل عبئا ضخما منذ ٢٠١١ بسبب عدم الاستقرار وقيل كذلك إن العاصمة الإدارية هي إحدى أهم أدوات الإصلاح الإداري في مصر لأنه معها سيتم اختيار افضل الكوادر للعمل في الدولة بما يحد من البيروقراطية التي هي أصل الداء في مصر. وهكذا أعود للتذكير بأن واحدة من أهم أسس النظام السياسي الأمريكى هي «تشيك اند بالانسيس» بمعنى التقييم المستمر والنظر الى الجانب الآخر من الصورة، ولهذا فهناك مواقع تأخذ مواقف ليست مريحة لمصر لكنك تدرك أن السبب هو توزيع الأدوار أكثر منه الموقف لذاته وهناك جهات تكون ضدك على طول الخط ومهما فعلت لكن كما أسلفت لا مجال لترف عدم مخاطبتها، وإن كنت قد شهدت منذ عامين وفي السنة السابقة لرحيل السيناتور الجمهور المحافظ «جون ماكين» أن بعثة طرق الأبواب قررت وقتها ألا تقابله مع أنها اعتادت أن تفعل طوال عشرات السنين وكان السبب أنه ربما لا توجد جدوى من الحوار معه فهو متمترس خلف قناعة لا يغادرها. مرة أخرى الجميع في أمريكا أصبح يتحدث عن المصلحة بشكل مباشر والجميع يقدر ذلك الذي يبتكر مصالح جديدة لم تكن في الحسبان أو يطور بطريقة دراماتيكية مصالح قائمة والشعار المرفوع طوال الوقت هو :لا وقت لنضيعه في التمويه والمناورة. طبعا هناك ظلال أخرى للصورة فلا أحد يستطيع أن يختزل أمريكا في جملة. هدف الوفد المصري طوال الوقت كان في النهاية مساندة أمريكا لبرنامج الإصلاح المصري، وضخ مزيد من الاستثمارات، والاقتناع يوما ما بأن اتفاق تجارة حرة مع مصر مفيد البلدين. ما تقدم كله كان أهم ما وددت لفت نظر القراء إليه من واقع إقامتي في تلك الفترة.