1182202
1182202
المنوعات

جــــذور زامـــبيا

06 أبريل 2019
06 أبريل 2019

سلمان رشدي ــ ترجمة: أحمد شافعي -

شيء ما يحدث في الأدب الأفريقي: النساء قادمات. منذ عقود يتدفق نهر من الكتابة المهمة الأصيلة لكاتبات إناث خارجا من القارة، فنرى كاتبات من قبيل مارلين فان نيكيرك التي كتبت ليسل شيلنجر عن روايتها الثانية في هذه الصحيفة فقالت إن «كتبا مثال آجات... هي الي تجعل الناس يقرأون الكتب»، وتسيتسي دنجاريمبجا (مؤلفة «ظروف عصبية»)، وبالطبع تشيمامندا نجوز أديتشي. والآن غمر هذا النهر ضفتيه وصار فيضانا. وتسهم نموالي سيربل براوايتها الاستثنائية المثيرة الأولى «الجيشان القديم» إسهاما قويا في هذه الموجة.

المثير للاهتمام أن كثيرا من الكتب المعاصرة تتداخل مع بعضها بعضا بل وتمثل أصداء لبعضها بعضا. فرواية بيتينا جاباه القادمة «من قلب العتمة، نور ساطع» تتناول موضوع المستكشف ديفد لفينجستن ورفاقه الأفارقة، و»الجيشان القديم» تبدأ أيضا بليفنجستن (ثم تواصل طريقها). رواية سيربل عبارة عن استكشاف عابر للأجيال لماضي زامبيا، وحاضرها، بل ومستقبلها أيضا، ورواية أولى أخرى هي «مطر هارماتان» لعائشة هارونا عطا تنظر في قصة غانا عبر حيوات أجيال من النساء. وفي سبتمبر سوف تصدر رواية مازا منجستر «ملك الظل» لتتناول موضوع غزو إيطاليا لإثيوبيا، متجاوزة التاريخ إلى لون من صنع الأساطير المعاصر، والنظر إلى التاريخ من خلال أعين النساء بالدرجة الأساسية. تدمج «الجيشان القديم» عناصر من الخرافية في تاريخ زامبيا، وتنظر هي الأخرى إلى التاريخ من خلال أعين النساء. ولقد صدرت في يناير في الولايات المتحدة رواية «منزل الحجر» لروزا توشمان فلقيت ثناء كبيرا من الجارديان لإيجازها «لا تاريخ زمبابوي وحده، بل والتاريخ الاستعماري في أفريقيا كله» وذلك زعم هائل بالنيابة عن الرواية. كما قيلت مزاعم هائلة أخرى في حق «الجيشان القديم» إذ أهال عليها كتاب العروض النقدية الأولى لها مقارنات مع توني موريسن وجابرييل جارثيا ماركيز. في حين قيل عن رواية أخرى هي «كينتو» لجينيفر نانسوبوجا ماكومبي إنها «مئة عام من العزلة» الخاصة بأوغندا. وفي أعقاب غيم المجد تأتي الروايات.

«الجيشان القديم» قطعة من الكتابة قوية واثقة قادرة أن تقف على قدميها الخاصتين وربما لا ينفعها في شيء أن توضع على أكتاف العمالقة. بنيتها تقليدية، فهي مؤلفة من ثلاثة أجزاء في كل جزء ثلاثة أقسام ـ «الجدات» و»الأمهات» و»الأحفاد». يركز كل من الأقسام التسعة على شخصية مسيطرة، جميعها من النساء في الجزئين الأول والثاني أما في الثالث فشابان وشابة. وفي الثنايا نصادف أقساما قصيرة مكتوبة بالحروف المائلة ومروية بضمير الجمع المجهول وهي بمثابة تعليق على الحدث كتعليق الجوقة في المسرح الإغريقي.

تحكى الرواية من خلال قصص متضافرة لثلاث عائلات، واحدة بيضاء وواحدة سوداء وواحدة نتاج زيجات مختلطة، مع قفزات في الزمن لسرد الحكايات العديدة للأسر الثلاث إلى أن تندمج في عائلة واحدة قرب النهاية. قد يبدو هذا للقارئ في الوهلة الأولى نتاج إفراط في التخطيط. ولكن عدم الإحساس بذلك عند القراءة يرجع إلى الطاقة التي تحكى بها القصص، والتفصيل الحيوي الذي يقام من خلاله عالم الكتاب.

تمتزج الشخصيات التاريخية مع الشخصيات التخييلية في هذه الملاحم العائلية. وكانت سيربل قد نشرت قبل سنتين في نيويوركر سردا طويلا غير تخييلي لإحدى هذه الشخصيات، وهي شخصية إدوارد موكولا نكولوسو المعلم والثوري و»رائد الفضاء» أي رئيس برنامج الفضاء الزامبي العبثي، الذي كان يدرب الشباب على الذهاب إلى القمر «بجعلهم يدورون حول شجرة في علبة زيت وتعليمهم المشي على أيديهم». يلعب نكولوسو ورواد الفضاء أدوارا مهمة في «الجيشان القديم». فضلا عن ذلك، فإن اثنين من كبار عائلاتها الثلاثة الخيالية شخصيتان حقيقيتان: الفندقي بيير أو بييترو جافوزي الذي أدار فندق شلالات فكتوريا في مقره الأول قرب الشلال المعرف بـ»الجيشان القديم» ورحالة الحقبة الاستعمارية بيرسي إم كلارك مؤلف دليل المسافر إلى الشلالات المكتوب في قرابة 1910. يتاح لبيرسي أن يحكي قصته وقصة تأسيس «الجيشان الكبير» بضمير المتكلم، ثم بعد ذلك يهيمن ضمير الغائب والتخييل.

تكمن أكبر نقاط قوة الرواية في إبداع ثلاثة شخصيات نسائية لا تنسى. آجنس فتاة الطبقة العليا الإنجليزية البيضاء (وحفيدة برسي كلارك)، التي تفقد بصرها وتقع في غرام رجل أسود بدون أن تعرف أنه أسود، وتطردها عائلتها فتتبعه إلى أفريقيا وتصبح ذات حضور رقيق وعظيم على مدار الكتاب. ماثا، إحدى تلاميذ نكولوسو في ريادة الفضاء، التي ينفطر قلبها وتصاب لما بقي من حياتها بدموع منهمرة لا تتوقف ولا نهاية لها فتصبح «المرأة الباكية». والأكثر إدهاشا بين الجميع هي سيبلا، وهي من النسل غير الشرعي لعائلة جافوزي وهي تعاني حالة متطرفة من نمو الشعر، ففي كل جزء من جسمها ينبت الشعر كثيفا (ولو أراد المرء أن يمارس الشر فقد يفكر في ابن العم إيت Cousin Itt). تسيطر سيبلا وشعرها ـ ينضفر ويرقص ويتلولب ويبيض حتى الشيخوخة ـ على الرواية ويمنحها خيالها البصري الخاص وأفكارها المتنوعة بلا نهاية. فالشعر في كل مكان: آثار الشعر تترك ليعرف العشاق كيف يعثرون على بعضهم بعضا، صالونات الشعر تفتح وفي خلفياتها مشاهد حاسمة، ويحلق الشعر عن رؤوس النساء في حدادهن. وتسأل إحدى الشخصيات «من أي شيء خلقت؟» فتأتي إجابة قد تجيب بها الرواية نفسها السؤال نفسا «من الشعر».

حول هذه الشخصيات الثلاث الأيقونية تنسج سردية معقدة عن تأسيس زامبيا ونموها، وفي النصف الثاني من الكتاب تأتي المعركة ضد ما يوصف بـ»الفيروس» ـ أي وباء الايدز الذي يجتاح بحلول عام 2000 أكثر من خمسة عشر في المئة من سكان زامبيا، ويكون أكثر من نصف المصابين نساء. ولا تنجو من ذلك عائلات الرواية الثلاثة، وتمتلئ هذه الصفحات بالخراب العاطفي الناجم عن المرض.

ويرجع بنا هذا إلى الجوقة الإغريقية، إلى ضمير الجمع المجهول. يتبين أن ضمير الجمع هذا يشير إلى بعوض، يعلق على ما يفعله بنو البشر. في كثير من أجزاء الكتاب لم أكن مطمئنا إلى هذه الفقرات المليئة بالطنين، لا سيما في أقسام الفيروس، فحينما يغني البعوض أغنية «الدم الدم الدم الجليل» ساخرة من أغنية فرس النهر القديمة عن «الوحل الجليل»، فهي تخاطر بإرباك القارئ (لأن البعوض غير قادر على حمل أو نقل فيروس الايدز إلى البشر). غير أنه في القسم النهائي من الكتاب، حينما تجترئ سربيل وتجتاز الحاضر إلى مستقبل متطور تكنولوجيا واصلا إلى ذروة تجتمع فيها الثورة المأساة، يتحول مجاز البعوض ويبدأ في اكتساب المعنى.

«الجيشان القديم» رواية رائعة، تراوح بمهارة بين التاريخي والخيال العلمي وتتنقل بين الجدل السياسي والواقعية السيكولوجية والخرافية الغنية. ليست مثالية. فهي طويلة، وفيها إسهابات غير ضرورية. وليست جميع الشخصيات التسع الأساسية في مثل إثارة آجنيس وماثا وسيبيلا. وفي بعض الأحيان يثقل حضور التاريخ والمعلومات الطبية والعلمية. ولكن هذه العيوب لا ينبغي أن تصرفنا عن رواية أولى هي بكل المعايير مثيرة للإعجاب، وتضع مؤلفتها نموال سيربل على المسرح العالمي.

عن نيويورك تايمز