أفكار وآراء

هل تخشى أوروبا من الصين؟

05 أبريل 2019
05 أبريل 2019

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

من يخشى صعود الصين بأكثر من الآخر... الولايات المتحدة الأمريكية أم أوروبا الأقرب جغرافياً للصين والصينيين؟ الشاهد أن التحذيرات الأمريكية من تنامي مقدرات الصين تتصاعد يوماً تلو الآخر، وهذا أمر يمكن للمراقب فهمه في إطار الصراع القطبي الدولي، لكن الأكثر إثارة مؤخراً هو ارتفاع حد ومد المخاوف الأوروبية من نهضة الصين، وتسللها إلى داخل أوروبا، الأمر الذي عكسته زيارات الرئيس الصيني «شين بينغ» الأخيرة إلى كل من إيطاليا وفرنسا.

ما الذي يخيف الأوروبيين وهل بالفعل هناك مخاوف تتهدد مستقبل الاتحاد الأوروبي الذي يبدو واقعاً اليوم ما بين فكي واشنطن وبكين؟

في الأسبوع الأخير من شهر مارس المنصرم وقعت الصين وإيطاليا مذكرة تفاهم خلال الزيارة التي قام بها الرئيس الصيني «شي جين بينغ»، لتضحى أول دولة من دول مجموعة السبع التي تشارك في مشروع «الحزام والطريق».

لم تكن أخبار هذه المذكرة أمراً محبباً أو مقرباً من قلوب وعقول الأوروبيين، لكن من الواضح أن أوروبا لم تعد وكما كانت من قلب رجل واحد، ولهذا فإن التفكك ماض مقدماً، في أوصالها، ولهذا تحدث رئيس وزراء إيطاليا «جوزيبي كونتي» مشيراً إلى أن بلاده ستستفيد من مشروع البنى التحتية الصينية المثير للجدل.

يغلب كونتي مصالح بلاده على فكرة التعاون مع بقية دول أوروبا، فهو يرى الاتحاد يتفكك ويتحلل، وها هي بريطانيا تخرج منه، وفرنسا مرشحة للأمر نفسه، ولن يفيده الأوروبيون بمقدار ما يمكن للصينيين أن يساعدوا في ضخ استثمارات مستقبلية.

في حديثه أمام البرلمان الإيطالي قال كونتي: «مصالحنا الاقتصادية والتجارية في هذه المبادرة شرعية ومبررة في ضوء مصلحتنا الوطنية»، وأن الاتفاق سيكون «اقتصادياً وتجارياً تماماً»، وليس له أي تداعيات سياسية خارجية.

أما في المقابلة التي أجرتها معه صحيفة «كورييري ديلا سيرا الإيطالية»، فأشار إلى أن المطروح على الطاولة هي مذكرة تفاهم، وليست اتفاقية دولية ملزمة، وهي تضع «إطاراً للأهداف والمبادئ وأنماط التعاون».

لكن التصريحات الإيطالية أزعجت الاتحاد الأوروبي الذي بدأ بالتهديد باستخدام الفيتو، لوقف الاتفاق بين إيطاليا والصين، فقد صرح «جونتر أوتينجر» مفوض الميزانية في الاتحاد الأوروبي لصحيفة «فونكه» أن «توسيع طرق النقل بين أوروبا وآسيا بحد ذاته أمر جيد، طالما لا يعرض استقلالية وسيادة أوروبا للخطر، ولكنه أبدى قلقه «لأنه في إيطاليا وفي عدد من الدول الأوروبية الأخرى، لم تعد البنية التحتية المهمة مثل شبكات الطاقة وخطوط السكك الحديدية السريعة والموانئ أوروبية، بل باتت في أيدي الصينيين، على حد قوله.

يخشى الأوروبيون أن تكون إيطاليا هي حصان طروادة الذي يمكن للصينيين أن ينفذوا من خلاله إلى الداخل الأوروبي، ذلك أن ميناءي «تريسيتي وجنوة» البحريين منفذان أوروبيان محتملان للبضائع الصينية القادمة عبر قناة السويس، والمبادرة الصينية تتضمن إقامة شبكة بنية تحتية وتجارية لتعزيز ربط الصين بدول وسط وجنوب شرقي آسيا وأوروبا، والشرق الأوسط وإفريقيا.

لكن السؤال هل الأمر يتوقف عند حدود إيطاليا فقط أم أنه ينسحب على دول أوروبية أخرى؟

تشير كثير من القراءات إلى أن عدداً من دول الاتحاد الأوروبي لا تأخذ في عين الاعتبار بالشكل الكافي المصالح القومية والأوروبية، ولهذا فإن أوروبا تحتاج بشكل ملح إلى استراتيجية بشأن الصين، ولهذا يفكر البعض في استخدام حق الفيتو الأوروبي، أو وضع شرط الموافقة الأوروبية.

وفي الجانب الألماني ارتفع الصوت المندد بالتعاون الوثيق مع الصين من قبل الأوروبيين، فقد انتقد وزير الخارجية الألماني «هايكوماس» بشدة روما بسبب اتفاقها مع بكين، وقد صرح الوزير لصحيفة «فيلت أم سونتاغ» قائلاً: «في عالم يتواجد فيه عمالقة مثل الصين وروسيا، أو شركاؤنا في الولايات المتحدة، لا يمكننا الاستمرار، إلا إذا كنا متحدين في إطار الاتحاد الأوروبي، وأضاف: «إذا كانت بعض الدول - يقصد إيطاليا ولا شك - تعتقد أنها تستطيع القيام بالأعمال بشكل ذكي مع الصين، فستفاجأ عندما تستيقظ وتجد نفسها تعتمد عليها، لاسيما أن تعاطيها سوف يكون مع دولة غير ديمقراطية وليست ليبرالية.

كانت فرنسا المحطة الثانية للرئيس الصيني، استقبله فيها الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون»، الذي يود أن يضع إطارا لما يطلق عليه «ضبط الهجمة الصينية التجارية في أوروبا، وحض الصينيين على الالتزام بقواعد النهج التعددي، وسط أنقسامات أوروبية حيال حملة بكين الدبلوماسية - التجارية.

ينظر الفرنسيون بدورهم إلى الصينيين بأعين لا تنقصها الشكوك إذ يرون الصين تقوم بتغيير العالم على جميع الأصعدة، من الحوكمة العالمية، إلى القواعد التجارية، مروراً باحترام البيئة وعمليات الاستثمار، ومن خلال توظيف استثمارات كثيفة في جميع أنحاء العالم، ولاسيما في سياق مشروع «طريق الحرير الجديد». والمعروف أن الصين تسعى ومنذ سنوات للتقرب من دول أوروبا الوسطى في سياق شراكة (1 + 16) واستثمرت في عدد من القطاعات الإستراتيجية في بعض دول الاتحاد الأوروبي، ولاسيما في مرفأ بيرايوس باليونان، وأكبر شركة كهرباء في البرتغال، وسط تصاعد المنافسة التجارية بين واشنطن وبكين.

ماكرون بدوره أشار وقبل زيارة «شي بينغ» إلى ضرورة التنبه والدفاع عن السيادة الأوروبية بوجه بكين التي وصفتها المفوضية الأوروبية، بأنها خصم على جميع الأصعدة.

وعلى الرغم من أن تصريحات ماكرون جهة الصين قد جاءت بشكل أو بآخر مغلفة بأطر دبلوماسية، إلا أن وزير الاقتصاد الفرنسي «برونو لومير» كان أكثر مباشرة، إذ اعتبر أنه لا حل أمام الأمم الأوروبية سوى الوحدة لمواجهة حالة من حالات السحق المزدوج - على حد تعبيره - والتي تتعرض لها الشعوب الأوروبية بسبب غزو الصين التكنولوجي من جهة، وسياسات الولايات المتحدة، التي وصفها بأنها لا مبالية وعدائية تجاه أوروبا.

برونور يرى أنه لا حل آخر إلا توحيد القوى الأوروبية من أجل مجابهة التحديات الصينية الأمريكية دفعة واحدة.

وأنه يجب إنشاء مؤسسة مالية أوروبية مستقلة في الأيام المقبلة مؤلفة من بريطانيا وألمانيا وفرنسا، وتهدف المؤسسة المالية إلى التمكن من مواصلة التجارة مع إيران، في ظل العقوبات الأمريكية العابرة للحدود على إيران،، ويذهب كذلك إلى أن أوروبا قادرة على التقدم، لكنها غير قادرة على مقاومة القوة الأمريكية أو القوة الصينية ما لم تكن موحدة، ولهذا فإنه على أوروبا والمفوضية الأوروبية أن تغيرا طريقتهما في اتخاذ القرارات، خصوصاً فيما يتعلق بالإندماج بين الشركتين المصنعتين للسكك الحديد، ألستوهم الفرنسية وسمينز الألمانية.

الذين قدر لهم متابعة زيارة الرئيس الصيني إلى فرنسا بنوع خاص أدركوا أن الحكمة الصينية القديمة قائمة تحت الجلد منذ آلاف السنين، ولهذا فإنه غالباً ستمضي العلاقات مع أوروبا بشكل تربح منه الصين وأوروبا معاً، وهذه هي فلسفة الصين التاريخية في النظر إلى الوجود بوصفه وحدة مجمعة لا متفرقة، وهذه هي فلسفة كونفوشيوس لا أرسطو.

في تصريحاته داخل فرنسا كان «شين بينغ» منفتحاً على الفرنسيين، ومؤكداً أن بلاده تتطلع لأن يستفيد الآخرون من نموها الاقتصادي، وأن يكون مشروع «طريق الحرير»، مفيداً للإنسانية جمعاء لأن هذا هو جوهر وروح الحضارة الصينية، وبلغة أرادها أن تكون حاسمة شدد الزعيم الصيني على أن بلاده «تريد أوروبا متحدة ومزدهرة»، وقال: إنها ستدعم تطورها دوماً، وستعمل معها لبناء نظام جديد من العلاقات.

«شي بينغ» في فرنسا يذكر دوماً بأن هدفه الرئيسي والأساسي هو إسعاد الشعب الصيني، إلا أنه وفي ذات الوقت يعتبر ذلك لا يتعارض مع واجبات الصين القومية والدولية، ولهذا كان يسعى لطمأنة الفرنسيين في إطار استراتيجية شاملة، وعلى رأسها قطاعات الطاقة والفضاء والنووي المدني والإبداع والثقافة.

هل كانت تصريحات «بينغ» كافية لطمأنة الفرنسيين خاصة؟

الثابت أنه رغم تغريدة ماكرون الذي أعتبر أن زيارة نظيره الصيني ستعزز الشراكة الإستراتيجية، وتؤكد دور فرنسا وأوروبا والصين لصالح حوكمة عالمية متعددة الأقطاب، إلا أن باريس ومعها مجموعة من دول الاتحاد الأوروبي تتخوف من نمو النفوذ الصيني في أوروبا، في الكثير من القطاعات الإستراتيجية، كما أن باريس تجد في بكين «منافساً قوياً» في منطقة النفوذ الفرنسية في أفريقيا، وهو ما شدد عليه ماكرون في جولته الأخيرة في 3 بلدان في إفريقيا الشرقية «جيبوتي، أثيوبيا، وكينيا»، كذلك فإن باريس حساسة للغاية لنشاطات الصين في منطقة جنوب المحيط الهادي، حيث السيادة الفرنسية تمارس على أرخبيل «كاليدونيا الجديدة»، وأرخبيل «بولينيزيا وجزيرة كليبرتون الصغرى، وقد عبر المسؤولون الفرنسيون أكثر من مرة عن «قلقهم» إزاء نشاطات بكين العسكرية في هذه المنطقة.

هل هناك من يدفع إلى تعزيز المخاوف الأوروبية من التعاطي مع الصين؟

من المثير جداً أن نجد أحد أهم مستشاري الرئيس الأمريكي دونالد ترامب «ستيف بانون» الذي استقال لاحقاً، هو من يشيع الخوف من الصين في الداخل الأوروبي، فقد تحدث مؤخراً خلال ندوة جمعته مع «كارلو كاليندا» السياسي الإيطالي، ووزير التنمية الاقتصادية السابق مشيراً إلى أن مبادرة الحزام والطريق التي ستتم بحلول عام 2025 والمتعلقة بتطوير تصميم الرقائق والذكاء الاصطناعي والروبوتات، ومن ثم الجيل الخامس ستجعل الهيمنة للصين في التصنيع، وستجعل من أوروبا وإيطاليا وأمريكا مجرد موردين للمواد الخام، وعنصراً صغيراً في التصنيع.

لا يكتفي بانون بهذا المستوى من إشاعة الخوف، لكن يضيف أن الصينيين يستخدمون شكلا جشعا من الرأسمالية المفترسة، كما فعلت الشركة البريطانية الهندية في القرن التاسع عشر، ومشيراً إلى أن هذا النوع من العولمة ينظر إلى كل دولة سواء إيطاليا أو أمريكا على أنها دولة خاضعة وتدفع الضرائب، ومعتبراً أن الأمر لا يتعلق بالشعب الصيني، بل بكادر راديكالي من الحزب الشيوعي الصيني، الذي لا يتبع القيادة الجماعية، فهي إذن في تقديره وضعية شمولية.

هل الاختبار الصيني - الأوروبي مرشح لمزيد من التضييق في الأيام القادمة؟

من المعروف أن انتخابات البرلمان الأوروبي سوف تجري شهر مايو القادم، ومن المرشح أن يحتل أنصار التيار اليميني المتشدد غالبية كبرى فإذا قدر لهؤلاء السيطرة على البرلمان الأوروبي، فإن دعوات الإقصاء والانعزالية سوف تتصاعد، وعليه سوف يتضاءل الأمل في التعاون الأوروبي مع الصين.

وفي كل الأحوال تبقى هناك علامة استفهام: «كيف ستنظر الولايات المتحدة لهذا النوع من العلاقات الصينية - الأمريكية؟

وهل ستسمح بأن تبقى أوروبا حليف الناتو والشريك الأوثق فضاءً استراتيجياً للصين في قادم الأيام؟