112
112
إشراقات

الإسراء والمـعراج :دلالات الاخــتيـار الرباني.. الزمـن والمكان الذي منه انطلق وإليه انتهى

28 مارس 2019
28 مارس 2019

واصطبر عليها -

فوزي بن يونس بن حديد -

[email protected] -

«الصلاة هي العنوان الأبرز في هذه الرحلة وهي المحور التي تقوم عليه هذه الحادثة، لأنها تربي الإنسان على اليقين أنه مع الله، والإيمان بأن الخالق هو المعبود لا سواه، والصبر على الطاعة وإكراه النفس على ما لا تريد، لذلك كان القرآن الكريم مليئا بالآيات التي تحث المؤمنين على إقامة الصلاة والعناية بها من كل جوانبها، استعدادا ونيّة ونظافة وتطهّرا ووضوءًا وإقامة وتوجّها للقبلة واستحضارا للقلب والعقل والروح والوجدان، وسكينةً وطمأنينةً للجوارح، يسلّم فيها المؤمن نفسه لله، يصاحبها تفريغ تامّ للروح، فتشعر حينئذ بالانتشاء ولذة اللقاء الحميمي وطعم الصلاة الحقيقي».

حينما يأتي شهر رجب، تعود بنا الذكرى إلى حادثة عظيمة في التاريخ الإسلامي، حادثة استثنائية لم يشهد التاريخ مثلها، لأنها وقعت في عصر النبوّة ولأفضل خلق الله على الإطلاق ولأنها متصلة بالسماء، إنها حادثة الإسراء والمعراج، التي هزّت العالم آنذاك ومازال صداها يتردد إلى اليوم، بل ما زال من يشكّك في حدوثها، ومن أيقن أنها كانت حادثة مفصليّة في التاريخ الإسلامي، فهي ليست حدثا عابرا كطيف النسيم وإنما هي تاريخ متجذّر وعُمق إيماني سكن النفوس ويبقي خالدا إلى يوم الدين، من عاش تفاصيلها مع سيّد المرسلين استمتع بالسّرد من نبي الله العظيم، ومن سمع عنها وقرأ حيثياتها في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة اشتاق إلى تلك الأيام الجميلة على عهد النبي الأمين.

ولم يفصّل القرآن الكريم الحديث عنها، بل جاءت الحادثة في بضع آيات وكلمات لخّصت مضامينها، فقد افتتح بها الله عزّ وجل سورة الإسراء عندما قال: «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» وهنا إثبات أن الله تعالى أسرى بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، لكن متى؟ وكيف كانت الرحلة؟ وعلى متن ماذا؟ وماذا رأى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في رحلته؟ وهل فعلا صلّى بالأنبياء والمرسلين جسدا وروحا في المسجد الأقصى المبارك؟ وكيف رجع النبي عليه الصلاة والسلام في ليلته؟ كل ذلك لم يتحدث عنه القرآن الكريم، أما المعراج فقد جاء تلميحا في سورة النجم حيث قال عز وجل: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى، مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى، لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) رغم اختلاف علماء التفسير في المقصود من هذه الآيات. ولحكمة أرادها الله تعالى من خلال عدم ذكر القصة كاملة في القرآن الكريم، كما كان يسرد بعض القصص بتفاصيلها، لئلا ينشغل الناس بهذه التفاصيل التي لا تهمهم في حياتهم كثيرا بقدر ما يهمّهم المحتوى والمضمون والجوهر، لأن الحادثة في الأساس كانت تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بعد ما لاقاه من معاناة نفسية وجسدية إبان وفاة زوجه وعمه في عام واحد، وتعرّضه للسخرية والتهكّم من أصحاب الطائف الذين رموه بالحجارة حتى سالت الدماء من جسده الشريف، فأراد الله تعالى أن يكرم نبيه على صبره وتحمله الأذى وتمسكه بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها من خلال هذه الرحلة الإيمانية إلى القدس الشريف أولى القبلتين وثالث الحرمين، ومنها إلى السماوات العلا، حيث سدرة المنتهى والملائكة الكرام البررة، لا يعصون الله أبدا ويفعلون ما يؤمرون، هذه الرحلة أحدثت فرقا في نفس الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- وغيّرت مجرى حياته رغم الألم الموجع والمُفجع، وبدّلت مفاهيم كثيرة في حياة المسلم عموما. والملفت في هذا الأمر، ليس الرحلة ذاتها رغم ما تحمله من مفاجآت وحقائق مبهرة للجميع قديما وحديثا، وإنما بما تحمله من معان بقيت خالدة إلى اليوم بل وإلى يوم القيامة وتصبح رمزا يتمسك به المسلمون ويعتقدون أنه أداة الوصل بينهم وبين ربهم، ففي هذه الرحلة الإيمانية المجيدة كان التواصل بين الله تعالى وبين نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، وكان التميز حينما أمر الله تعالى رسوله بأداء الصلاة لتكون الرباط المقدس بين العبد وربه، ولعظمة العبادة كان الأمر في السماء، ولأهمية هذه الفريضة فقد خصّ بها النبي صلى الله عليه وسلم ليكون الرسول المبلّغ لأمته، الحريص على قيامها في وقتها دون تأخير، المحافظ عليها على الدوام في كل الأحوال، فكل عبادة يمكن أن تسقط لسبب أو لآخر إلا الصلاة فإنها لا تسقط حتى في حال الاحتضار، لأن الله يريد أن تكون آخر ما يفعله المسلم في حياته قبل الرحيل، ففيها معنى العبودية والألوهية والإقرار بالعظمة والوحدانية لله تعالى وحده، ويفرح المولى عندما يرى هذا المشهد من عبده.

فالصلاة هي العنوان الأبرز في هذه الرحلة وهي المحور التي تقوم عليه هذه الحادثة، لأنها تربي الإنسان على اليقين أنه مع الله، والإيمان بأن الخالق هو المعبود لا سواه، والصبر على الطاعة وإكراه النفس على ما لا تريد، لذلك كان القرآن الكريم مليئا بالآيات التي تحث المؤمنين على إقامة الصلاة والعناية بها من كل جوانبها، استعدادا ونيّة ونظافة وتطهّرا ووضوءًا وإقامة وتوجّها للقبلة واستحضارا للقلب والعقل والروح والوجدان، وسكينةً وطمأنينةً للجوارح، يسلّم فيها المؤمن نفسه لله، فيتحرك الجسم وفق ما بينه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من وقوف وركوع وسجود وتشهّد وغيرها، يصاحبها تفريغ تامّ للروح وهي حلقة من حلقات التواصل مع الله تعالى دون حجاب ولا واسطة، فتشعر حينئذ بالانتشاء ولذة اللقاء الحميمي وطعم الصلاة الحقيقي، وعندما نطوف في حنايا الكتاب العزيز نرى أنه تزيّن بهذه الآيات الكريمة التي تحث المسلمين على إقامة الصلاة في وقتها والحرص على أدائها بكل إتقان، وترك كل ما في اليد أو ما يشغل العقل أو الجسم والاتجاه إلى الله في الموعد المحدد لأداء هذه الفريضة العظيمة منها قوله تعالى: «وأقيموا الصلاة» ومرة «وأقم الصلاة» وأخرى «وأقاموا الصلاة» تنوع الفعل بين الماضي والأمر المفرد والأمر الجماعي، وقد ذكرت كلمة الصلاة 67 مرة في 62 آية، للتأكيد على أهميتها في حياة المسلم ودورها في تغيير جذري لكل ما يتعلق به. والصلاة هي المفتاح التي يبدأ بها المسلم يومه، فإن حافظ عليه استطاع أن يلج كل الأبواب بكل سهولة ويسر، وإن أهملها وأضاعها يعسر عليه فتح أي باب، وهي عمود الدين كما سماها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهي التي تأمر المسلم بالطاعات وتنهاه عن المعاصي والسيئات لأنها تجعل المسلم يعيش حالة من الخوف والرجاء، يؤديها وهو لا يعلم أن الله سيقبلها أم سيرفضها، وفي الوقت نفسه يرجو منه رحمته ورضوانه وغفرانه، وهي الملاذ الآمن للنفس عندما تصطدم بالحياة ومشاكلها وصعوباتها ومعوقاتها، يتفرغ فيها المؤمن للمناجاة ويفرغ فيها الهموم والغموم التي تصيبه، فيجد الراحة والسكينة والطمأنينة، لذلك علينا أن نفهم معنى الصلاة التي نؤديها وحقيقة العبادة التي نقوم بها، ومن هناك كان مدح الله تعالى لسيدنا إسماعيل عليه السلام الذي كان حريصا على أن يكون أهله من أهل الصلاة كما يفعل هو عندما قال تعالى: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا» ومدح سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام عندما أمره قائلا: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ» اقتداء بالنبي إسماعيل عليه السلام.

وفي الآية لفتة كريمة، وهي أن الناس عادة يؤدون الصلاة في عجلة من أمرهم، ويفكرون أنها تحدّ من إنتاجهم، وربما كانت سببا في خسارة تجارة أو تأخير رزق أو ضياع فرصة، فجاءت الآية الكريمة تفند هذا الزعم، وتقضي على هذا الوهم، وتحدث في النفس كثيرا من اللوم، وتجعلها تهاجر النوم، وبالتالي تتجدّد هذه النفس كل يوم، وتنشط في مجالات الحياة بكل عزم، فتنزل البركة في الرزق وتعم السعادة في البيت ويفتح الله تعالى جميع الأبواب التي تعود عليك وعلى أبنائك بكل الخير، كل ذلك يكون فقط عندما تصطبر على الصلاة، وتُكره نفسك على أن تجلس بين يدي الله تعالى خمس مرات في اليوم مُنقادة لا مُكرهة، مُطيعة لا عاصية، هادئة لا مستعجلة، لا تفكر في رزق ولا تجارة أثناء ذلك لأن كليهما بيد الله تعالى، يسيّرهما وييسّرهما لمن يشاء ويمنعهما عن من يشاء ووقت ما يشاء.

الصلاة مفتاح الثبات والنجاح، وليست أداة للتخلص من ديْن علق بها، هي ركن الحياة الأساس والرئيس، هي الملاذ الأخير قبل فوات الأوان، وهي صَنعة التفوق في كل المجالات إذا فقه المسلمون دورها في زيادة الإنتاج وتوفير فرص العمل وازدهار الاقتصاد والعيش بأمان، لذلك كانت خاتمةُ الآية «لا نسألك رزقا، نحن نرزقك، والعاقبة للتقوى» بيان واضح أن الاعتناء بهذه الفريضة من كل جوانبها وأداءها بإخلاص وإتقان بعيدا عن أي سُمعة أو رِياء ستؤدي حتما إلى الانتقال إلى دورة جديدة في الحياة قوامها الاعتماد والتوكل على الله وعنوانها العمل وحسن الأداء ونتيجتها التميز والتفوق والتألق والبهاء.