الملف السياسي

واشنطن وبيونج يانج .. طريق الأشواك النووية

11 مارس 2019
11 مارس 2019

إميل أمين - كاتب مصري -

مهما يكن من شأن الجواب فإن هناك عدة حقائق ينبغي أن نشير لها، وفي المقدمة منها أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت وستظل مهمومة ومحمومة بقضية الانتشار النووي حول العالم، وتريد قطع الطريق على القوى الدولية الساعية لحيازة أسلحة نووية، وذلك بكل الطرق التي تمتلكها، والبداية عادة من عند العقوبات الاقتصادية، وصولا الى حالات الغزو المسلح كما جرى مع العراق عام 2003.

إلى أين تمضي اتجاهات الرياح بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية كوريا الشمالية، بعد اللقاء الأخير الذي جمع بين رئيسي الدولتين وفي جولة من المفاوضات كان المنتظر من ورائها ان يتوصل الطرفان الى اتفاق حول نقاط اختلاف طالت نحو عقدين أو اكثر بين الدولتين؟

شيء ما مثير في واقع الأمر جرت به المقادير بين البلدين، ولا يزال سره غير متاح أو مباح، فمن تهديدات أمريكية كورية شمالية متبادلة بشأن إسقاط النار والدمار من كل واحدة على الأخرى، ظهرت فجأة إرهاصات التفاهم الذي تبلور في لقاء سنغافورة بداية الأمر، وتاليا في قمة هانوي الأيام الأخيرة، ولم يعلم أحد حتى الساعة ما الذي جرى؟ ومن الوسيط؟ وكيف بدأت سياقات ونطاقات المباحثات تعمق جذورها بين طرفين كانا الى حد قريب عدوين لدودين.

مهما يكن من شأن الجواب فإن هناك عدة حقائق ينبغي ان نشير لها، وفي المقدمة منها ان الولايات المتحدة الأمريكية كانت وستظل مهمومة ومحمومة بقضية الانتشار النووي حول العالم، وتريد قطع الطريق على القوى الدولية الساعية لحيازة أسلحة نووية، وذلك بكل الطرق التي تمتلكها، والبداية عادة من عند العقوبات الاقتصادية، وصولا الى حالات الغزو المسلح كما جرى مع العراق عام 2003.

والثابت ان منطقة شرق آسيا على نحو خاص تعد بؤرة الاهتمام الأمريكي في القرن الحادي والعشرين، وقد اشرنا في كتابات سابقة اكثر من مرة الى ان الدولة الأمريكية العميقة ماضية قدما خلف وثيقة القرن الأمريكي، أي جعل القرن الحادي والعشرين قرنا أمريكيا بامتياز، وقد تبلورت هذه الوثيقة باستراتيجية الاستدارة نحو آسيا عام 2010، وجل تركيزها على قطع الطريق على أي قوة آسيوية في طريقها لأن تحتل مكانة أمريكا حول العالم.

في هذا الإطار تضحى كورية نووية، وذات قدرات صاروخية باليستية تطال الولايات المتحدة الأمريكية أمر غير مقبول من جانب الامبراطورية الأمريكية المنفلتة كما يسميها المؤرخ الأمريكي بول كيندي.

على الجانب الآخر يعرف القاصي والداني أن كوريا الشمالية تعاني معاناة مريرة من العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، وكذا بقية القوى الغربية الأوروبية واليابان، أي مثلث الرأسمالية العالمية الشهير، وتزداد معاناة مواطنيها، حال قارنوا انفسهم مع الأوضاع الاقتصادية التي يعيشها نظراءهم في كوريا الجنوبية والمتقدمة للغاية.

هناك جزئية أخرى ينبغي الإشارة إليها، وهي ان كوريا الشمالية في تقدير البعض لا سيما اليابان تمثل تهديدا لوجستيا خطيرا جدا، فصواريخها تطال قواعد اليابان العسكرية والبحرية بنوع خاص، ناهيك عن الأمريكية المتواجدة على أراضيها.

ولا تتوقف تهديدات صواريخ بيونج يانج عند اليابان، بل تمتد الى استراليا، وهناك في القرب اكبر واهم حاملة طائرات ثابتة وليست عائمة تخص الولايات المتحدة الأمريكية، تلك المعروفة بجزيرة «غوام»، وهذه بدورها يمكن ان تكون عرضة لاعتداءات كورية شمالية، تكلف العم سام خسائر هائلة، وربما تذكره بمأساة «بيرل هاربور» في زمن الحرب العالمية الثانية.

هل يعني ذلك ان واشنطن لا يمكن ان تقبل بقوة نووية مهددة لها ولوجودها ونفوذها القطبي في القارة الآسيوية بأي حال من الأحوال ؟

الجواب نعم ذلك كذلك، ولهذا فإن الجانب الأمريكي وعلى مدار العقدين الأخيرين قد جرب كافة الوسائل المتاحة له، بدءا من التهديد الى الوعيد، ومرورا بالعقوبات، لكن مع الأخذ في عين الاعتبار جزئية مهمة للغاية وهي ان كوريا الشمالية ليست كيانا سياسيا منفصلا عن بقية المراكز الآسيوية المتقدمة، ويمكن اعتبارها من التخوم، أما المراكز فموصولة بالصين أولا، ثم بروسيا الاتحادية ثانية... ما الذي يعنيه هذا الحديث؟

تدرك واشنطن جيدا ان بيونج يانج لا يمكنها ان تعيش بمعزل عن الصين، فالأخيرة تزود الأولى بالوقود ثلاثة أيام بثلاثة أيام، ولهذا يدرك الأمريكيون جيدا مدى التأثير الذي يمكن لبكين أن تمارسه على حكومة كوريا الشمالية، وفي الوقت نفسه يدركون أن موسكو لا تفضل أن تكون هناك قوة نووية أخرى في المنطقة تسبب لها في لحظة بعينها إزعاجا عالميا.

غير أن العلاقات الكورية الشمالية مع الروس والصينيين، تعطي الولايات المتحدة الأمريكية إشارات قوية الى أن تعريض تلك الدولة لضربات نووية أمريكية هو أمر غير ممكن، وان تبعاته يمكن ان تجر المنطقة برمتها الى مواجهة نووية عالمية.

ما الذي دفع الطرفين في طريق التفاوض واللقاءات الأخيرة ؟

يمكن القول ان لكل فريق من الفريقين منطلقاته البراجماتية المطلقة، فالكوريون ربما قد ملوا من الضائقة الاقتصادية التي يعيشونها منذ عقدين على الأقل، وربما باتت القيادة السياسية هناك تخشى من المقاربات الاجتماعية التي تعقدها الأجيال الجديدة مع أشقائهم في كوريا الجنوبية من جهة، أو في بقية دول النمور الآسيوية من جهة ثانية، سيما وأن الأخيرة حققت طفرات إيجابية للغاية، ووفرت لشعوبها مستويات متقدمة من الحياة الإنسانية، ومع التغيرات والتطورات الجيوبوليتكية حول العالم، ربما يخشى كيم ان يتسرب داء التمرد الى شعبه او جيشه، الأمر الذي يمكن ان يتسبب له في أضرار بالغة قد تؤثر مستقبليا على نظام حكمه.

هل الجانب الأمريكي أقل اهتماما من الجانب الكوري في البحث عن مسارات سلمية للخروج من تلك الأزمة؟

من الواضح للغاية أن واشنطن مصممة على إنهاء الإشكالية منذ فترة وعبر عدة إدارات بدأت من عند بيل كلينتون، مرورا ببوش الابن، ثم باراك أوباما، والآن وصلت الكرة الى ملعب إدارة دونالد ترامب، وهي إدارة تعاني من إشكاليات عديدة على الصعيد الدولي، وتحاول أن تحقق أهدافا استراتيجية حول العالم، لا سيما المتصلة بحالة السلم والأمن الدوليين.

أما عن الرئيس ترامب بنوع خاص، فيمكن الإشارة الى ان الرجل يتطلع الى تحقيق انتصارات سياسية خارجية، علها تحيد النظر عن الوضع الداخلي المأزوم بالنسبة إليه، حيت تلقي أزمة «روسيا جيت» بظلالها عليه.

والآن ما الذي يريده كل طرف من الآخر ؟

باختصار غير مخل، يريد الكوريون ان يرفع الأمريكيون العقوبات مرة واحدة كافة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليهم من قبل الأمريكيين، فيما الأخيرون يريدون إنهاء شامل وكامل للوجود النووي سواء صاروخي أو مفاعلات وتجارب، بمعنى أن كلاهما يطالب الطرف الآخر بالحد الأقصى، هل لمثل هذا السيناريو أن يصل الى نهاية مفرحة بشكل سريع؟

مؤكد أن الطرفين يعيان جيدا أنه لا يمكن التسليم بحسن النوايا مرة واحدة، فالأمريكيون واستخباراتهم يدركون أن لدى كيم اونج أوراقا لم تظهر بعد للعلن، أوارق تتعلق ببرامج نووية وصاروخية وربما مفاعلات احكم الكوريون إخفاءها عن الأعين، كما ان الكوريين لديهم هواجس من قصص سابقة لدول تخلصت من ترسانتها النووية، ولاحقا تعرضت لحالة من حالات الامتهان غير المسبوق من الأمريكيين، كما جرت الأقدار مع النظام الليبي على سبيل المثال.

ما الذي حدث في لقاء هانوي الأخير، وهل فشل بالفعل؟ والاهم الى أين تمضي القصة؟

يقول وزير خارجية كوريا الشمالية ان بلاده قدمت اقتراحا منطقيا في القمة الأخيرة ، ولكن واشنطن أصرت على ان تتخذ بيونغ يانج خطوة أخرى إضافية غير تفكيك مجمع بونجبيون النووي.

الوزير «ري يونج»، أضاف أن بلاده عرضت التفكيك الدائم لكل إنتاجها من المواد النووية، بما في ذلك البلوتونيوم واليورانيوم تحت إشراف خبراء أمريكيين، وفي المقابل طلبت كوريا الشمالية من واشنطن رفع بعض العقوبات وليس كلها، فيما يناقض تصريحات سابقة من قبل الرئيس ترامب الذي أشار الى انه امتنع عن توقيع اتفاق نووي في قمة هانوي بسبب مطالب من زعيم كوريا الشمالية برفع العقوبات التي تقودها الولايات المتحدة دفعة واحدة.

هل كسب الكوريون حتى الآن في صراعهم التفاوضي أن جاز التعبير مع الجانب الأمريكي؟

من الواضح أن كيم أراد ان ترفع الولايات المتحدة معظم العقوبات، وبالمقابل كان مستعدا للسير خطوات أخرى نحو تفكيك عدد من مواقع البرنامج النووي الصاروخي، بما في ذلك موقع الأبحاث في يونجبيون، لكن مناقشة التخلي عن تخصيب اليورانيوم، ناهيكم بالتخلي عن الأسلحة النووية أو الصواريخ، لم يكن في وارد كيم.

في هذا السياق يذهب عدد من محللي الشؤون الكورية الشمالية من الروس تحديدا إلى انه حتى اللقاءات التي لا تفضي الى نتائج مع ترامب، تصب في مصلحة كيم، لأنها في كل الأحوال تضعف الضغط الأمريكي على البلاد، ففي حين كان ترامب يشيطن كيم ويهدده، فانه الآن يسميه صديقا، كما ان صور رئيس الولايات المتحدة يلاطف الزعيم كيم، بالنسبة لشعب جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية تبرهن على نمو هيبة زعيمهم وبلدهم في العالم.

في الداخل الأمريكي وجدت أصوات مثل الكاتب «بول جريجوري» من موقع «ذا هيل» أشارت الى ان الاتفاقية التي عرضها الرئيس الأمريكي ترامب على كيم اونج، كانت تنطوي على مكافآت غير مضمونة ومخاطر كبرى، وتستند الى فرضية زائفة تقول ان كيم يرغب في بلد مزدهر يستطيع ان يستفيد منه مع شعبه.

هناك جزئية مثيرة يشير إليها، جريجوري «تتصل بتطورات الأوضاع في الداخل الأمريكي، وبصورة خاصة الانتخابات الرئاسية القادمة، فقد ارتفع صوت الاشتراكيين مؤخرا ، وبخاصة بعد الحظوظ الواضحة للمرشح الاشتراكي السابق «بيرني ساندرز»، وهنا فان الكاتب الأمريكي يرى ان كيم لا يهتم إلا ببقائه واستمرار حكم سلالته، وانه يجيد اللعب على الاختلالات السياسية الحادثة في الداخل الأمريكي، مع الأخذ بعين الاعتبار التوقعات بان يخلف ترامب رئيس يساري متشدد، وهو ما يدفع كيم لرفض توقيع أي اتفاق يعد بنمو وازدهار، مقابل نزع سلاح وانضمام الى المجتمع الدولي، لذلك يبقى الوضع الراهن افضل خيار للزعيم الكوري الشمالي.

وقت كتابة هذه السطور كان مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكي يتحدث عن أمله في إرسال وفد أمريكي جديد لكوريا الشمالية، ما يعني ان واشنطن مهتمة بالحل السلمي، أما كيم فيعرف كيف يعظم استفادته من اللعب على أوتار العود الأمريكي المكسور.