الملف السياسي

لماذا الإخفاق؟.. أصابع بلتون أم الصفقة المستحيلة؟

11 مارس 2019
11 مارس 2019

د. صلاح أبو نار -

ليست مشكلة واشنطن مع هذا الإدراك الكوري أنها لا تدركه. فهي تدركه جيدا لكنها ترفضه، وتطلب من بيونج يانج التخلي عنه وهو مطلب مستحيل. ولهذا لم تكن توافقات سنغافورة سوى تسوية ظاهرية صيغت بغموض عمدي، وتوافقات سطحية تخفي تناقضات عميقة بين طرفين يبحثان عن تهدئة مؤقتة في لعبة صراعية طويلة.

انتهت قمة ترامب - كيم في هانوي بالفشل. فشلت كما فشلت من قبلها القمة الأولى في سنغافورة، غير أن فشل سنغافورة لم يظهر واضحا وعاريا كما ظهر فشل هانوي. ففي سنغافورة كان هناك قبل القمة تأثير مزيج من وقع المفاجأة والمسيرة الدرامية السابقة عليها، وبعد القمة كانت هناك افتراضات بوجود توافقات سرية وراء المسرح السياسي لتفسير صورية وغموض التوافقات المعلنة. ولكن في هانوي لم يكن هناك أي شيء من هذا. اختفت المؤثرات الصوتية والبصرية السياسية التي صاحبت استعراض سنغافورة الكبير، وبدلا منها ظهر المشهد فقيرا عاريا: انسحاب أمريكي من المفاوضات قبل نهايتها وإلغاء لغداء عمل بين الرئيسين وعدم صدور إعلان مشترك للقمة. ولم يعد لفكرة التوافقات السرية مجال للحضور والتأثير، بعد حصيلة فقيرة لمسيرة المفاوضات المكثفة على مدى شهور متصلة، ومع تصريحات لترامب بعد القمة نقرأ فيها عمليا من خلف ضباب التفاؤل: «ليس وراء تلك الأجمة ما وراءها».

جرت وقائع القمة يومي 27 و28 فبراير الماضي، وكان من المقرر لها أن تتواصل يوم 28 عبر جلسات وغداء عمل، ولكن فجأة ومن دون مقدمات أعلن الجانب الأمريكي قرار الانسحاب وعدم مواصلة المفاوضات، ثم صدرت تصريحات لترامب ومايك بومبيو تفسر الانسحاب ببساطة بعدم الاتفاق على ما يعتبرونه «الصفقة الصحيحة»، بينما كان الموقف الكوري الشمالي أكثر ميلا لالتزام الصمت. طرح الجانب الأمريكي رسميا التفسير السابق دونما تفاصيل، ولكن مجمل ما صدر عنه يمنحنا عدة مؤشرات. التشديد على أن ما حدث ليس نهاية للتفاوض إنما مجرد صعوبة مؤقتة، والحرص على إظهار إعجاب ترامب بشخص كيم وقوة العلاقة بينهما.

كيف نفسر تلك المسافة الواسعة بين الفشل الصريح والتبرير المسرف؟

هناك أكثر من عامل محتمل. من شأن الاعتراف بمأزق المفاوضات الحقيقي، إلقاء مزيد من الوقود فوق نيران مأزق ترامب الداخلي. وانتماء ترامب لنمط من القيادات يدعى بالتسلطية الشعبوية، وتتبدى خصائصها في ظواهر كثيرة في سياساته، ما يهمنا منها رؤيته للزعماء الآخرين التي تجعله لا يتحفظ في إظهار إعجابه بشخصيات من نمط بوتين والزعماء الشعبويين الأوروبيين ويميل للثقة بها، بالمقارنة مع نفوره المعروف من قيادات ديمقراطية ليبرالية عتيدة مثل أنجيلا ميركل. ولم يكن من شأن التطورات التي جرت بين سنغافورة وهانوي أن ترشح القمة لما هو أكثر. خرجت قمة سنغافورة بإعلان مشترك من 400 كلمة احتوى أربعة توافقات، صيغت الثلاثة الأولى والأهم بعمومية تحتمل تفسيرات مختلفة.

ما هذه التوافقات؟

تأسيس علاقات جديدة بين الدولتين على قاعدة السلام والازدهار، والوصول لنظام سلام في شبه الجزيرة الكورية، وتحقيق نزع كامل للسلاح النووي في شبه الجزيرة الكورية، والتعاون لإعادة بقايا الجنود الأمريكيين الذين ماتوا خلال الحرب الكورية. ومن السهل أن نرصد خلف هذه العبارات المبهمة التي تحتمل أكثر من تفسير، الأسماء الحقيقية للمشاكل الثلاث المستعصية بين الطرفين وهي: إنهاء الحصار الاقتصادي والعقوبات، وإنهاء حالة الحرب الرسمية في شبه الجزيرة الكورية منذ 1953 وتحويل الهدنة إلى معاهدة سلام، ونزع السلاح النووي. ولم تسفر الاتصالات المكثفة عن تطورات حقيقية إلا في المجال الرابع والأقل أهمية، حيث أعادت كوريا الشمالية بقايا جنود أمريكيين في 55 صندوقا في يوليو 2018، ولا يزال التعاون مستمرا. أما المجالات الثلاثة الأولى فكان التقدم فيها محدودا للغاية. واستمرت العقوبات الأمريكية كما هي، ولم تتطور العلاقات الاقتصادية بين البلدين، لأن أمريكا تربط كل هذا المجال بعمليات محددة ومبرمجة لنزع السلاح النووي. وواجهت مجموعات العمل المشترك لتنفيذ مقررات سنغافورة صعوبات في التواصل والاجتماع، حتى على مستوى وزيري خارجية البلدين والمبعوث الأمريكي لكوريا ستيفن كوهين. وكان أقصى تقدم حدث هو اجتماعات ناقشت مسائل مثل تأشيرات الدخول لمواطني البلدين والبدء في إقامة علاقات دبلوماسية. ولم تحدث أي خطوات أو مباحثات بشأن إنهاء حالة الحرب وعقد معاهدة سلام. هنا توجد صعوبات هائلة، فأمريكا لا توافق على تنفيذه هو أيضا إلا في سياق ربطه بعملية نزع السلاح النووي. ومن جهة أخرى تتطلب تلك المعاهدة موافقة من الكونجرس ومشاركة صينية ملزمة، أي ما هو أوسع من إرادات الأطراف الكورية والأمريكية المباشرة.

وما أمكن تحقيقه تخفيف التوترات العسكرية بين الشمال والجنوب، عبر إزالة نقاط الحدود العسكرية المتقدمة وفرض منطقة حظر طيران على الحدود وإزالة الألغام الأرضية، وعقد ثلاث قمم رئاسية وزيارات متبادلة لكبار المسؤولين فيهما. وأخيرا قرار ترامب تأجيل بعض التدريبات العسكرية المشتركة مع كوريا الجنوبية، الأمر الذي أضفى قدرا من الاسترخاء العسكري. أما حظر السلاح النووي فقد حدثت فيه تطورات طفيفة وظاهرية.

من البداية هناك خلاف جوهري بين مفهومي الطرفين لنزع السلاح النووي. تفهمه واشنطن بمعنى: «نزع قابل للتحقق وغير قابل للتراجع عنه لكامل سلاح كوريا الشمالية»، بينما تفهمه بيونج يانج بمعنى «نزع كامل للسلاح النووي لكامل شبه الجزيرة الكورية والمناطق والمياه الدولية المحيطة بها»، وبالتالي إخلاء تلك المنطقة من كامل السلاح النووي الأمريكي.

ومن الواضح أننا أمام تناقض جذري، لا يمكن حله إلا على مدى زمني طويل وعبر عملية معقدة وتبادلية ومتعددة المستويات، وبالتالي لو كان ثمة حل لها حاليا أو في المدى المتوسط لن يكون سوى حل جزئي وتبادلي. وكان من المنطقي ألا يتحقق هنا سوى تقدم محدود وظاهري، وسنجده في قرار تدمير موقع بيونجي ري للاختبارات النووية في مايو 2018، ثم في تفكيك جزئي لمحطة أقمار صناعية.

بدأ الحديث عن قمة هانوي منذ يناير الماضي، وخلال تلك الفترة حتى انعقادها لم تحدث تطورات ميدانية جديدة تمنح مبررا لقرار انعقادها.

ولكن أليس من الممكن أن يكون القرار قد انطلق من توافقات سرية لم يعلن عنها؟

أمر وارد، وإذا صح هذا الافتراض سيظهر سؤال منطقي : ماذا حدث وعطل التوقيع على تلك التوافقات؟

حتى الآن وفي حدود اطلاع الكاتب ليس لدينا سوى تقرير كتبه توم أوكنور على موقع النيوزويك الأمريكية بتاريخ 28 فبراير الماضي، اعتمد فيه على تجميع آراء عدد من المحللين الأمريكيين، وتصريحات لوزيرين من كوريا الشمالية والجنوبية شاركا في المفاوضات. ويذكر التقرير أنه كانت هناك صفقة متفق عليها، مضمونها رفع جزئي للعقوبات، والبدء في مسيرة عقد معاهدة سلام، مقابل خطوات كورية محددة ومتفق عليها في مجال نزع السلاح، لم يتسرب منها سوى تقديم كوريا لكشوف كاملة بمخزونها النووي. وكان كل شيء جاهزا للتوقيع حتى الجلسة الأخيرة، التي تصدرها جون بولتون ودفع بستيفن بيجن إلى الهامش. فاجأ بولتون الوفد الكوري بطلب جديد لم يكن مدرجا فيما اتفقوا عليه من قبل، وهو التقدم بكشف كامل بمخزون الأسلحة البيولوجية والكيميائية، فجاء الرد الكوري في صورة تصعيد مقابل في مستوى رفع العقوبات، فرفضت أمريكا. وانهارت المفاوضات. وينسب المحللون موقف بولتون إلى شخصيته وتفكيره السياسي، فهو يميل لسياسات القوة والعنف وتغيير وقائع الأزمات ميدانيا، ثم الشروع بعد ذلك في التفاوض. ويدللون هنا بدوره في قرار غزو العراق، وانسحاب بوش الابن من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية، وتحريضه على الخروج من معاهدة إيران، ثم تحريضه في مقال نشرته الوول ستريت جورنال للحرب على كوريا، وتصريحه الشهير بعد الاتفاق على قمة سنغافورة الذي شبه فيه كيم بالقذافي وتسبب في أزمة كبرى أجلت انعقادها لفترة، وماهو معروف عنه من ميله لتدمير مالا يتفق مع آرائه. ومن المحتمل أن تكون الرواية سليمة، وفي كل الأحوال كان هناك تصور ما لخطوة جزئية يمكن للقمة أن تنجزها، على طريق تحقيق ما اتفقت عليه قمة سنغافورة. ولكن المشكلة تظل في توافقات القمة نفسها، ومدى قدرتها على معالجة التناقضات الحقيقية للأزمة الكورية. ويعاني التوافق الأساسي لإعلان سنغافورة والخاص بالسلاح النووي من مشكلة أساسية، وهي الرفض الأمريكي لرؤية بيونج يانج السياسية للسلاح النووي. وترى بيونج يانج السلاح النووي ضرورة لبقاء الدولة، وضرورة لبقاء أسرة حاكمة تلتف حولها نخبة حاكمة متحدة، تستمد سلطاتها وامتيازاتها من مؤسسات الدولة. هذا الفهم لم يولد مرة واحدة، بل تكون عبر تراكم الخبرات التاريخية. خبرات الحرب الثانية، ومن بعدها خبرات الحرب الكورية، ثم خبرات الحصار الأمريكي والغربي الاقتصادي الممتد والمفروض عليها، وخبرات الاحتشاد العسكري الأمريكي في جوارها الجغرافي المباشر، وخبرات الدولة الشيوعية المنبوذة والمقصاة داخل المعسكر الشيوعي في سنوات سطوته. ثم جاء انهيار المعسكر الشيوعي والتحولات الصينية العميقة، لكي يضفي على نظامها عزلة تاريخية كاملة، والصعود الاقتصادي الشاهق للنمور الآسيوية لكي يضيف بعدا جديدا لهذه العزلة. وفي مثل هذا الوضع لا تبدو النخبة الحاكمة مؤهلة لقرار التخلي الكامل عن سلاحها النووي، بل فقط التخفيف من هذا السلاح ووضعه تحت درجة من الضبط والتحجيم، بالتوازي مع عمليات تطبيع واسعة مع العالم الخارجي وفك للحصار الاقتصادي وتخفيض للتهديدات العسكرية الخارجية المباشرة.

ليست مشكلة واشنطن مع هذا الإدراك الكوري أنها لا تدركه. فهي تدركه جيدا لكنها ترفضه، وتطلب من بيونج يانج التخلي عنه وهو مطلب مستحيل. ولهذا لم تكن توافقات سنغافورة سوى تسوية ظاهرية صيغت بغموض عمدي، وتوافقات سطحية تخفي تناقضات عميقة بين طرفين يبحثان عن تهدئة مؤقتة في لعبة صراعية طويلة.