الملف السياسي

الكرة الآن في الملعب الأمريكي

11 مارس 2019
11 مارس 2019

رشا عبد الوهاب -

والسيناريو الذي يطرح نفسه الآن، أن الكرة في الملعب الأمريكي، فكوريا سعت إلى اتفاق وتقديم تنازلات، دون أن تكون هناك رغبة حقيقية من قبل واشنطن في فرض شروط واضحة من أجل إنجاز اتفاق تاريخي.

بعد فشل قمة هانوي بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والزعيم الكوري الشمالي في التوصل إلى اتفاق يمكن تلخيصه في عبارة «النووي مقابل العقوبات»، تثار التساؤلات حول من المسؤول عن الفشل؟ وما موقف بيونج يانج بعد محاولاتها اليائسة في الحصول على تنازلات أمريكية؟

والمعادلة الغريبة، أن ترامب اختصر القمة وأعلن فشلها، إلا أن هذا ما لم يحدث على الطرف الآخر، فقد استكمل كيم يومه الثاني في العاصمة الفيتنامية، وزار ضريح الزعيم «هو شي منه»، وهو الرجل الذي أسس لعلاقات صداقة مع النظام الكوري الشمالي منذ 70 عاما.

وأجمع المسؤولون الكوريون والإعلام الحكومي على أن كيم خرج من هذه القمة فائزا، دون أدنى إشارة إلى عدم التوصل إلى اتفاق. واعترف مسؤول كوري رفيع المستوى بأن «الزعيم الأعلى كما يطلق عليه»، فقد الإرادة للدبلوماسية.

أمريكا رفضت «العرض الكوري» بإغلاق كافة المنشآت النووية، مقابل تخفيف الحصار أو العقوبات الدولية المفروضة عليها، وهرع ترامب عائدا إلى واشنطن بعد إلغاء حفل التوقيع على اتفاق بهذه الصيغة، كما لم يصدر عن الجانبين أي بيان مشترك. وقال ترامب: «نعرف ماذا يريدون، ويعرفون ما يجب أن نحصل عليه»، لكن كوريا الشمالية أصرت على رفض تبريرات واشنطن للفشل، وهو ما دفع ري يونج هو وزير الخارجية الكوري الشمالي إلى القول: إن بلاده طالبت بتخفيف بعض العقوبات، وأن عرضها إغلاق «جميع المنشآت النووية» في مجمع «يونجبيون» كان الأفضل الذي يمكن تقديمه. الولايات المتحدة ترى أن لا اتفاق أفضل من اتفاق سيئ، بينما تحاول كوريا إنقاذ ماء وجهها بعد فشل «رجل الصواريخ»، كما وصفه ترامب قبل أن تتحسن العلاقات بينهما بعد ذلك، في إنهاء العقوبات التي فرضها مجلس الأمن الدولي في 2016، بعد سلسلة من التجارب الصاروخية التي أثارت غضب العالم باعتبارها تحديا صارخا للقوانين والأعراف الدولية وتهديدا صارخا للسلام في شبه الجزيرة الكورية ولآسيا والعالم. وتضمنت العقوبات خضوع كل الشحنات التي تدخل إلى أو تخرج من كوريا الشمالية للتفتيش، وطرد الدبلوماسيين الكوريين المتورطين في أنشطة غير مشروعة. وبعد فترة من تبادل التصريحات النارية بعد صعود ترامب إلى البيت الأبيض، تراجع كيم وحاول وقف استراتيجيته «حافة الهاوية»، التي تتضمن المخاطرة بكل شيء من أجل إظهار القوة العسكرية الكورية، في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعانيها بلاده، وبعد قمتين لم يعد لديه ما يقوله لشعبه، فالموقف الداخلي شديد الصعوبة. ولم يتوصل الطرفان خلال القمة الأولى، التي عقدت أيضا في سنغافورة سوى إلى توقيع إعلان غامض حول نزع السلاح من شبه الجزيرة الكورية، حيث لم يتم الاتفاق على إجراءات واضحة للقيام بهذه الخطوة.

وعلقت وكالة الأنباء الكورية الشمالية، لسان حال النظام الكوري،على الفشل في هانوي بالإشارة إلى أن الزعيمين أجريا «مشاورات صريحة وبناءة»، ولكن، وتحتها ألف خط، العلاقات بين البلدين «طبعها انعدام الثقة والعداء» على مدى عقود.

وعلى الرغم أنه لم يكن كافيا أن يقول الرئيس الأمريكي إنه «وقع في حب» الزعيم الكوري الشمالي، فإن بيونج يانج واصلت تبرير الفشل، وسعت إلى تلميع صورة القائد، حيث بث التلفزيون الرسمي فيلما وثائقيا أكد أن علاقة ترامب وكيم قوية كافية لتنجو من الفشل الذي لاحق قمتهما الأخيرة في سنغافورة. وتماشيا مع محاولات كوريا الشمالية مداراة الفشل، لم يأت الفيلم على ذكر النهاية المبكرة لقمة سنغافورة والخلافات غير القابلة للمساومة بين الدولتين حول العقوبات أو الأسباب المتضاربة حول انصراف ترامب وكيم من دون اتفاق.

وبدلا من ذلك، فقد أظهر الفيلم الذي بثه التلفزيون الرسمي أن ترامب وكيم يبتسمان ويصافحان بعضهما البعض خلال تجولهما في حديقة الفندق التي شهدت انعقاد القمة، وأنهما وافقا على الجلوس وجها لوجه وأنهما سوف يكملان الحوار البناء. ووصف المعلق على الفيلم القمة بأنها حدث آخر له أهمية كبيرة حول قضية السلام في العالم، وأن الولايات المتحدة وكوريا الشمالية يمكنهما التغلب على التقلبات والخلافات والتجارب السيئة، والمضي قدما إذا قدم الطرفان مقترحات عادلة تستند إلى مبادئ يقبلها الجانبان ويحترمانها بشكل مشترك، والانخراط في مفاوضات متوازنة وسط رغبة في حل المشكلات.

رسم الفيلم صورة لطيفة لترامب بعيدة كل البعد عن «الشيطنة» المعتادة للرؤساء الأمريكيين وحلفائهم اليابانيين والكوريين الجنوبيين، وكانت شيطنة هؤلاء رأسمال ماكينة الدعاية لكوريا الشمالية. وعلى الرغم من التقارير التي أشارت إلى أن النظام الكوري الشمالي يعيد بناء أجزاء من موقع إطلاق صواريخ كان قد تعهد، في وقت سابق، بتفكيكه، إلا نغمة الفيلم تشير إلى أن كيم عقد أملا في التوصل إلى اتفاق. وتم تكريس غالبية الفيلم الوثائقي، الذي يمتد على مدار 75 دقيقة، لإبراز أوراق اعتماد كيم كرجل دولة قوي، حيث أظهره مسافرا على متن القطار الحديدي عبر جنوب الصين إلى فيتنام، ويلوح من سيارته السوداء في الطريق إلى مقر انعقاد القمة في هانوي حيث اصطف مواطنون كوريون شماليون على طول الطريق يلوحون بالأعلام الكورية والفيتنامية.

صناع الفيلم أيضا قدموا نقدا ساخرا لصقر السياسة الخارجية الأمريكية أيضا، ففي الوقت الذي يظهر الرئيس الأمريكي ومساعدوه يضحكون، فإن جون بولتون مستشار الأمن القومي الأمريكي، الذي أغضب كوريا الشمالية بتحذيرها من مصير ليبيا، فقد ظهر وعلى وجهه تعبير أنه موجود في أي مكان لكن ليس في هانوي.

النظام الكوري الشمالي يستند في الحكم على مبادئ أو فكرة «زوتشيه» التي وضعها الجد المؤسس كيم إيل سونج عام 1965، وترتكز على ثلاثة أسس، وهي استقلال في السياسة، واكتفاء ذاتي في الاقتصاد، وأخيرا دفاع ذاتي في الدفاع الوطني، والتي طورها الأب كيم جونج إيل بدمجها مع سياسة «سونجون» أو الجيش أولا عام 1996.

وفي خطابه الأول أمام شعبه، لدى تسلمه السلطة في 2012، قال كيم: إن أولويته الأولى والثانية والثالثة تعزيز قوة الجيش، وأن التفوق في التكنولوجية العسكرية ليس احتكارا في أيدي القوى الإمبريالية. وبعد هذا الخطاب، شهدت كوريا الشمالية أكبر عرض للأسلحة يتضمن صواريخ عرضت للمرة الأولى.

لكن وطأة الضغوط الاقتصادية، ومعاناة أكثر من 11 مليون كوري من نقص الغذاء، كانت عامل ضغط على النظام الذي يبدو قويا من الخارج، في ظل حالة التعتيم والانعزالية التي يمارسها، إلا أن رغبته في تقديم تنازلات، يعكس حجم مخاوف من هذا الضغط والغليان الداخلي.

وشهد العامان الماضيان لأول مرة، خروج كيم من قوقعته وقيامه برحلات خارجية تضمنت رحلة تاريخية إلى العدو اللدود كوريا الجنوبية. كيم كان يريد من القمة الثانية «إجراءات مقابلة» تتضمن نوعا من تخفيف العقوبات وبعض الضمانات الأمنية مثل الإعلان رسميا عن انتهاء الحرب الكورية.

ويرى مراقبون أن كوريا الشمالية لن تتخلى عن أسلحتها النووية، لأنها تعتبرها ضرورية من أجل البقاء، وأن كيم لن يخضع للإملاءات، والعقوبات الأمريكية سوف تجعله أكثر عدائية وغير قابل للتوقع.

الفيصل هنا أن أمريكا تريد إغلاق مركز الأبحاث العلمية النووية «يونجبيون»، المنشأة النووية الرئيسية في كوريا الشمالية، التي شغلت مفاعلاتها النووية الأولى، وتقع على بعد 100 كيلومتر من العاصمة، وانتجت المواد الانشطارية في التجارب النووية الست التي أجرتها كوريا في الفترة من 2006 حتى 2017.

العقوبات أرغمت الزعيم الذي يعمل من دون أن ينام أو يستريح، حسب وصف صحيفة «رودونج سينمون» الرسمية على اتخاذ تدابير «حسن النية»، وفي رسالته بمناسبة رأس السنة في يناير الماضي، أكد كيم في خطابة أن «الإجراءات المتبادلة» ستؤدى إلى تقدم في العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة وبلاده، وقد أسيء تفسير هذه الجملة حيث تمت ترجمتها على أنها تعنى تقديم المزيد من التنازلات، بما في ذلك إعلان نهاية الحرب الكورية مقابل تخفيف للعقوبات. ويأتي التحدي الأول أمام تقديم هذه التنازلات من «شخصنة» الملف النووي الكوري، بمعنى أن ترامب تعامل من منطق أن الكلمات الودودة والابتسامات وتبادل الخطابات يمكن أن يكون مدخلا مباشرا لتسوية الأزمة. كما أن كوريا قررت الرد على فشل هانوي بضغوط متبادلة، حيث رصدت المخابرات الكورية الجنوبية تحركات لسيارات نقل إمدادات في موقع لأبحاث الصواريخ في سانومدونج في كوريا الشمالية، كما تم رصد هزة أرضية وصفت بالنووية بالقرب الحدود بين البلدين بالقرب من المفاعل النووي الكوري الشمالي.

والسيناريو الذي يطرح نفسه الآن، أن الكرة في الملعب الأمريكي، فكوريا سعت إلى اتفاق وتقديم تنازلات، دون أن تكون هناك رغبة حقيقية من قبل واشنطن في فرض شروط واضحة من أجل إنجاز اتفاق تاريخي.