أفكار وآراء

«عصر جديد» يبدأ بين العرب وأوروبا

06 مارس 2019
06 مارس 2019

هاني عسل -

فما تم الاتفاق عليه، وما ستظهر آثاره التطبيقية على أرض الواقع في الفترة المقبلة، سيلقي حجرا في المياه الراكدة، وبخاصة على الجانب الأوروبي، الذي ظل لسنوات طويلة يتبنى مواقف متساهلة حيال السماح للمحرضين ودعاة الفتن ولفوضى والكراهية بالعمل من خلال أراضيه، أو يسمح للإرهابيين باستغلال الانفتاح غير المسؤول لعالم السوشيال ميديا.

من العدل والإنصاف، الاعتراف بأن قمة شرم الشيخ التي التقى فيها قادة العرب وأوروبا للمرة الأولى حققت اختراقا غير مسبوق على صعيد العلاقات العربية الأوروبية.

ومن الغبن والتجني، قراءة ما جرى من أحداث ومناقشات في هذه القمة وما ورد في بيانها الختامي من تفاهمات على أنها مجرد «اجتماع وانفض»، شأنه شأن اجتماعات وقمم أخرى مشابهة. ومن السطحية أيضا، عدم الربط بين أسرار وتفاصيل ما جرى في «شرم» وبين ما جرى من تفاهمات ومناقشات و«تربيطات» ومطالب و«شروط» في تجمعات إقليمية ونوعية أخرى سبقت، وبخاصة مؤتمر ميونيخ الأمني، والقمة الأفريقية الأوروبية.

ونظرة متعمقة للبيان الختامي الصادر عن قمة شرم الشيخ تؤكد لنا بوضوح أن قادة العرب وأوروبا لم يلتقوا في مدينة السلام فقط من أجل الاستمتاع بسحرها ومياه بحرها وسمعتها السياحية، ولكن للاتفاق على بدء «عصر جديد» من التفاهم والتعاون الحقيقيين بين الإقليمين، كما ورد في صيغة البيان الختامي، حتى وإن كانت أبرز لقطات هذا الحدث التي اهتمت بها الميديا الغربية هي صورة مباراة البلياردو بين رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي ونظيرها الإيطالي جوسيبي كونتي، أو لقطة تلقي يان كلود يونكر رئيس المفوضية الأوروبية مكالمة عاجلة على الهواء من زوجته في أثناء حضوره مؤتمرا صحفيا مع عدد من القادة، ففي عبارة «عصر جديد» اعتراف غير مسبوق بأن لغة الهيمنة وفرض المفاهيم والتدخل في شؤون الغير لم تعد مقبولة في عالم اليوم، وسبق أن أهدرت وقتا طويلا على المنطقتين العربية والأوروبية اللتين تشكل شعوبهما نحو 12% من سكان العالم.

وبهذه المناسبة أيضا، أحسن القادة المشاركون عندما أوردوا عبارة تتحدث عن الروابط التاريخية القديمة التي تربط المنطقتين ببعضهما البعض منذ قديم الأزل، باعتبارها نقطة انطلاق معنوية وأدبية مناسبة لمرحلة «العصر الجديد»، عصر يسوده التعاون والتفاهم وتقريب وجهات النظر، والاحترام المتبادل.

ومن أبرز الدلائل على أهمية هذه النقطة كمكسب حقيقي من قمة شرم الشيخ، توافق القادة على عقد مؤتمرات قمة منتظمة مماثلة بالتناوب بين الدول العربية والأوروبية، وأن تعقد القمة المقبلة في بروكسل عام 2022، فهذا الاتفاق معناه أن آلية ما ستبدأ عملها بالفعل مع نهاية جلسات شرم الشيخ، تشمل تطوير العلاقات السياسية، والتعاون الاقتصادي، والتبادل التجاري، والقضايا الإقليمية، وعلى رأسها القضايا الرئيسية وراء عقد هذه التجمعات الأخيرة، وهي محاربة الإرهاب، والقضاء على الفكر المتطرف، ومكافحة الإتجار في البشر، ووقف الهجرة غير المشروعة، فضلا عن القضايا التقليدية مثل القضية الفلسطينية والملف الليبي، والأزمة السورية، والوضع في اليمن. سياسيا، كان من أبرز مكاسب القمة، إعادة التأكيد على مواقف الطرفين المشتركة من عملية السلام في الشرق الأوسط، بما في ذلك وضع مدينة القدس، والتأكيد على عدم مشروعية المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فضلا عن الالتزام الكامل بالتوصل إلى حل الدولتين وفقا لقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، بوصفه السبيل الواقعي الوحيد لإنهاء الاحتلال الذي بدأ عام 1967 والذي يشمل القدس الشرقية، والتوصل إلى سلام عادل ودائم وشامل بين الفلسطينيين والإسرائيليين عبر مفاوضات مباشرة بين الأطراف تتناول كافة قضايا الحل النهائي.

ولا تفوتنا هنا الإشادة بما تضمنه البيان الختامي لقمة شرم الشيخ من التأكيد على أهمية الحفاظ على الوضع التاريخي القائم في الأماكن المقدسة بالقدس بما في ذلك ما يتصل بالوصاية الهاشمية، وأيضا التأكيد على ضرورة مواصلة دعم منظمة الأونروا.

وبالنسبة لملفات سوريا وليبيا واليمن، توافق الطرفان على مبادئ عامة رئيسية، لو التزما بها حرفيا، لقطعت هذه الأزمات أكثر من نصف الطريق نحو الحل. فقد تركزت هذه المبادئ على ضرورة تحقيق المصالحة، والتوصل لتسويات سياسية مستدامة بموجب قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، والتأكيد على ضرورة الحفاظ على وحدة وسيادة وسلامة أراضي واستقلال هذه الدول، وهو ما يعد «اعترافا بالذنب» من جانب بعض الدول الأوروبية بمسؤولياتها الأخلاقية عن كثير من الأوضاع المتردية التي وصلت إليها الدول الثلاث.

وبالنسبة لسوريا تحديدا، وفي ظل استقرار الأمور لصالح الرئيس السوري بشار الأسد، وفي ضوء الانسحاب الأمريكي المرتبك من الأراضي السورية، واستمرار وجود القوات الروسية والتركية والقوات المدعومة إيرانيا على الأرض، اتفق المشاركون على أن أي تسوية مستدامة تتطلب عملية انتقال سياسية حقيقية وفقا لإعلان جنيف 2012 وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وخاصة القرار رقم 2254، ولكنهم أمسكوا العصا من المنتصف بإعلانهم إدانة الأعمال الإرهابية كافة وانتهاكات حقوق الإنسان التي تم ارتكابها في حق الشعب السوري أيا كان مرتكبوها.

وتركز اهتمام القادة على فكرة «تسوية سياسية» أولا على الأرض في سوريا قبل أن تقرر دول كثيرة مواقفها، وهو ما ظهر من خلال عبارة وردت في بيان شرم الشيخ، ونعتقد بأنها تتحدث أكثر عن الموقف الأوروبي، تقول : «سيتم تطوير سياساتنا تجاه سوريا وفقا للتقدم الملموس المحرز نحو التوصل إلى تسوية سلمية سياسية للأزمة السورية».

وبالنسبة للأزمة الليبية، واضح أن القادة سيضعون ثقلهم في الفترة المقبلة للضغط على الليبيين للانخراط في الجهود التي تقودها الأمم المتحدة للوصول بعملية التحول الديمقراطي لنتيجة ناجحة، ولإقناعهم بالامتناع عن أي إجراء من شأنه تصعيد التوتر والإخلال بالأمن وتقويض الاستقرار.

أما فيما يتعلق باليمن، كان القادة المشاركون موفقين في توخي «الحرص» لدى صياغة البيان الختامي بصورة متوازنة حول الشأن اليمني، فتم الترحيب بنتائج اتفاق ستوكهولم، والإعراب عن القلق إزاء الوضع الإنساني في اليمن، وتمت أيضا مطالبة الأطراف المعنية بالعمل البناء بهدف تحقيق تسوية سياسية دائمة وشاملة تحقق مصلحة الشعب اليمني.

ولا شك في أن القادة الأوروبيين تحديدا باتوا يدركون الآن حقائق الأمور، وكيف أن ما سمي بـ«الربيع العربي» كان له تأثير أشبه بتأثير «الدومينو» على تشكيلة متنوعة ومتشابكة من المشكلات والأزمات التي لم تكن دول الشرق الأوسط وحدها ضحية له، بقدر ما تضررت منه أيضا الدول الأوروبية نفسها، من خلال تعاقب أزمات البطالة والهجرة وانتشار الفكر المتطرف والإتجار بالبشر والسلاح.

ومن المؤكد أن الفترة المقبلة ستشهد تعاونا وتنسيقا غير مسبوقين في مجال التصدي لهذه التحديات وفقا للقانون الدولي، حيث خص القادة بالذكر مكافحة انتقال المقاتلين الإرهابيين الأجانب عبر حدود دول المنطقتين، وربما سيكون هناك أيضا منع شامل لأشكال الدعم كافة للإرهابيين، بما في ذلك الدعم المالي والسياسي واللوجيستي والعسكري، وهو ما ضغطت من أجله الدول العربية بشدة.

ومن أقوى ما تضمنه البيان الختامي في هذا الصدد، التأكيد على عزم الدول مكافحة حالات عدم التسامح الثقافي والديني والتطرف، وتجنب القوالب السلبية والوصم والتمييز المؤدي إلى التحريض على العنف ضد الأفراد بناء على دياناتهم أو معتقداتهم، بما في ذلك من خلال شبكة الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي.

فما تم الاتفاق عليه، وما ستظهر آثاره التطبيقية على أرض الواقع في الفترة المقبلة، سيلقي حجرا في المياه الراكدة، وبخاصة على الجانب الأوروبي، الذي ظل لسنوات طويلة يتبنى مواقف متساهلة حيال السماح للمحرضين ودعاة الفتن ولفوضى والكراهية بالعمل من خلال أراضيه، أو يسمح للإرهابيين باستغلال الانفتاح غير المسؤول لعالم السوشيال ميديا.

وتحت الضغط العربي أيضا، وبخاصة المصري، تضمن البيان فقرة مهمة تتعلق بحالة إسرائيل تحديدا، حول أهمية صيانة المنظومة الدولية لمنع الانتشار وفقا لاتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية وعلى أهمية هدف إخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل. واقتصاديا وتجاريا، لم يفت القادة اتخاذ بعض إجراءات التقارب الحقيقية بين المنطقتين، حيث اتفقوا على إرساء شراكة قوية مبنية على الاستثمار والتنمية المستدامة، والتعاون في مجالات التجارة والطاقة، وأمن الطاقة، وكذلك مجالات العلوم والتكنولوجيا، وأيضا في صناعات السياحة ومصائد الأسماك والزراعة، والمجالات الأخرى.

ولعل البداية تكون في صورة مبادرة مطلوبة من الجانب الأوروبي تحديدا بالتوقف عن التدخل في شؤون دول المنطقة لفرض مفاهيم الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان من وجهة نظر أحادية، بما يعيق هذه الدول عن محاربة الإرهاب، وعن الحفاظ على استقرارها، اللازم لأي تنمية اقتصادية، ويعتبر هذا الجانب شرطا أساسيا لإنجاح أي تفاهم أو تعاون مشترك بين المنطقتين في المرحلة القادمة على أساس جديد.وبكل تأكيد، وصلت الرسالة جيدا إلى جميع القادة الأوروبيين، وقد علمتهم أحداث المنطقة التي طالت بلادهم ما يكفي من الدروس.