الملف السياسي

شرم الشيخ.. حوار وجوار بين العرب والأوروبيين

04 مارس 2019
04 مارس 2019

إميل أمين - كاتب مصري -

حين يجلس الجانبان الأوروبي والعربي، بتراثهما وتلاحمهما المشترك، فإن هناك من النقاط المضيئة التي تظهر على خارطة الأمم والشعوب في بلاد العرب والأوروبيين سوية، ولهذا فإن الاتفاق على مكافحة عدم التسامح الثقافي والديني والتطرف وتجنب القوالب السلبية والوصم والتمييز المؤدي الى التحريض على العنف ضد الأفراد بناء على دياناتهم أو معتقداتهم.

كيف يمكن للمرء أن يصف ما جرى على أرض مدينة السلام، شرم الشيخ، الأيام القليلة المنصرمة؟

بالقطع ما جرى أكبر وأهم من مجرد مؤتمر، سيما أن المنطقة الشرق أوسطية تموج بالعديد من تلك المؤتمرات صباح مساء كل يوم، ومن جراء الملفات الساخنة والمتلاحقة، غير أن مؤتمر شرم كان له مذاق خاص، مذاق يبدأ من عند جزئية التنظير الفلسفي للأمور والسياقات السيسيولوجية، وصولا إلى المفاهيم والصدامات السياسية، تنظير يبدأ من عند «روديارد كبلنج» الشاعر الانجليزي الأشهر ومقولته المثيرة.. «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا»، وصولا إلى «صموئيل هنتنجتون»، ورؤاه عن «صدام الحضارات»، المقولة الأقرب إلى التنبؤات الذاتية التي تسعى إلى تحقيق ذاتها بذاتها.

كانت رؤية «كبلنج»، أن هناك فواصل زمنية وإنسانية لن يمكن تجسيرها بين الشرق والغرب، وهي رؤية قريبة من أزمنة الاستعمار الأوروبي للعالم العربي، وفي هذا الإطار يمكن تفهم الأمر، وقد كانت إحدى اللبنات الرئيسة التي زخمت لاحقا برنارد لويس في رؤاه للمنطقة الشرق أوسطية، وصولا إلى عالم الاجتماع السياسي الأمريكي هنتنجتون الذي وضع العالم أمام تقسيم حدي، بين شرق وغرب، ليس فقط لا يلتقيان، بل بالضرورة يتصادمان ويتصارعان، فقد أوجد في مخيلته أول الأمر وآخره معسكرين، احدهما مسيحي يهودي، والآخر إسلامي كونفوشيوسي، وآن عليهما الاقتتال ثقافيا بداية، وبالتالي عسكريا لاحقا، وكانها حتمية قدرية، مع أن سياقات وأزمنة العولمة بالضرورة واقع حالها مغاير ومخالف لما يقول به، فلم تعد مسألة النقاء أو الصفاء العرقي قائمة، فقد يسرت وسائل الاتصالات المادية والمعنوية التقاء البشر من كل الأمم وكل الشعوب وكل القبائل في الحال والاستقبال.

كانت أوروبا عبر التاريخ الجار الجغرافي الأقرب إلى العرب، عطفا على أنها الصديق الديموجرافي الأرفع، وكثيرا ما كانت الصداقة موصولة بين البشر على جانبي الأطلسي، حتى وان عرفت بعض مفاصل التاريخ عينه صراعات أو حروب، من قبيل التفاعل الإنساني في كل الأزمنة.

جاءت قمة شرم الشيخ وكما تحدث المضيف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وفي حضور رفيع المستوى من الجانبين وصل إلى نحو 28 دولة أوروبية و22 دولة أوروبية ليؤكد على أن ما يجمع المنطقتين، يفوق ما يفرقهما، كما يعكس الاهتمام المتبادل لدى الطرفين العربي والأوروبي، على تعزيز الحوار والتنسيق فيما بينهما بصورة جماعية، تدعيما لقنوات التواصل القائمة بالفعل على المستوى الثنائي، وأملا في الوصول لرؤية وتصور مشترك، لكيفية التعامل مع الأخطار والتحديات المتصاعدة، التي باتت تهدد الدول والمنطقة بعدما صار التغلب على تلك التحديات بجهود فردية أمرا يصعب تحقيقه.

يعن لنا أن نتساءل وأن نشاغل عقل القارئ: «ما هو البديل الحضاري للحوار والجوار على الأرض برمتها، لا سيما في منطقة المتوسط بضفتيه، ومع امتداده الجغرافي والديموجرافي في منطقة الخليج العربي؟

الجواب الشافي الوافي هو ان كل مربع تعايش وتعارف وتعاون إنساني يتم تفريغه من محتواه الإيجابي، هناك من يقوم بملئه بكل ما هو سلبي، وعلى غير المصدق ان ينظر إلى نموذجين واحد في الغرب والآخر في الشرق، أما الغرب فهناك تيارات اليمين القومي المتطرف، تلك الرافضة للتعايش مع الآخر، والماضية في طريق الأحادية الذهنية، والتي عانى الأوروبيون من جراءها أهوالا كثيفة، في زمن الفاشية والنازية.

وعلى الجانب العربي نجد كارثة الأصوليات الدينية والإرهاب المتصاعد، ذاك الذي أذاق الجميع ويلات غير مسبوقة، ولا تزال خلاياه منتشرة، ويخطئ من يظن أن الإرهاب يمكن القضاء عليه من خلال المواجهات الأمنية، دون السبل والآليات العقلية والميكانيزمات الذهنية التي تمهد الأرض للسلام لا للخصام.

يلفت النظر في قمة شرم الشيخ أن المجتمعين من الجانبين قد أدركوا وبقناعات حقيقية لا زيف فيها ولا رياء أو كبرياء ان هناك حاجة ماسة للقاء، حاجة قبل ان تنبع من النوازل والمستجدات والتحديات، تستلهم التاريخ الغني بالتفاعلات الثقافية والشراكة القوية، بين الجانبين، وفي هذا المنطلق أساس قوي لتعزيز التعاون الإقليمي، ما يعد المفتاح الرئيس للتعاطي مع التحديات المشتركة التي تواجهها دول الاتحاد الأوروبي والدول العربية.

اعتبر المنطلق المتقدم من قبل كافة المشاركين في مؤتمر شرم الأساس المبدع الذي بنى عليه الجميع عزما قويا ثابتا من اجل التشارك في الخبرات القادرة على تعميق الشراكة العربية الأوروبية بغية تحقيق الآمال المشتركة، ودعم السلام والاستقرار والازدهار، وضمان الأمن وتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية، وخلق فرص مشتركة من خلال نهج تعاوني واضعين شعوب منطقتنا وخاصة النساء والشباب في قلب جهودنا ومدركين الدور الهام في هذا الصدد.

جاء لقاء شرم الشيخ في وقت حساس ومثير حول العالم، فلا نظام دولي واضحة معالمه، أو أبنية أممية ناصعة ملامحها، بل تكتلات إقليمية، وقارية كل منها يسعى إلى تعظيم مصلحته دون النظر إلى الآخر، ومن هنا بدت الحاجة للجيران الجغرافيين والتاريخيين من اجل وضع النقاط على الحروف، وبخاصة في ظل حالة السيولة العالمية الآنية ان جاز التعبير، وكيفية مواجهة ما يطرا وما هو قائم من إشكاليات يصعب القيام بأعبائها من جانب دون الآخر، ولعل هذا ما يوضح لنا المعنى والمبنى وراء شعار القمة «الاستثمار في الاستقرار».

أفضل ما اجتمع عليه الجانبان العربي والأوروبي في شرم الشيخ، الالتزام بالعمل الفعال متعدد الأطراف وبنظام دولي مؤسس على القانون الدولي بهدف التعاطي مع التحديات العالمية، بما في ذلك من خلال زيادة التعاون بين جامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي.

هذا التوجه يفيد بأن هناك خطوط طول وعرض لكثير من القضايا المشتركة التي تتطلب تفاعلا إيجابيا عوضا عن سياقات التصادم، ولعل قضية الهجرة والمهجرين كانت واحدة من أهم القضايا التي طرحت على موائد النقاش، سيما وأنها تمثل كتلة ملتهبة ومتدحرجة من النيران المادية والمعنوية على حد سواء، وان لم يتم التعاطي معها بمهنية وإنسانية في الوقت ذاته، يمكنها ان ترفع درجة الكراهيات في العقول والنفوس والقلوب بين الجانبين.

هذا التفاهم الثنائي حكما سوف يرشد الجهود المشتركة الرامية لتحقيق حلول عملية بالنسبة لقضية الهجرة وحماية دعم اللاجئين بموجب القانون الدولي، واحترام كافة حقوق الإنسان الدولي، وإدانة كافة أشكال التحريض على الكراهية، وكراهية الأجانب وعدم التسامح وتعزيز مكافحة الهجرة غير النظامية، وزيادة الجهود لمنع ومكافحة تهريب اللاجئين واستئصال الاتجار في البشر ومكافحة من يستغلون الضعفاء والجهود الدولية الرامية للتعامل مع الغير وخاصة اتفاقية «باريس».

التئم شمل الأوروبيين والعرب وخلف الباب قضية طال بها الزمن، أي القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، والطرفان يدركان أن أوروبا كانت تاريخيا سببا رئيسيا في الإشكال الذي نحن بصدده اليوم، وإذ كانت على هذا الحال منذ بضعة عقود إلا أنها في حاضرات أيامنا لم تعد كذلك، وبدت أنها شريك غير فاعل، وأن كافة أوراق اللعبة تسربت من بين أياديها إلى الجانب الأمريكي.

غير أن مراجعة بعض الأوراق في العقود الثلاثة الفائتة تبين لنا أن الأوروبيين حين يريدون الانخراط بقوة وفاعلية، فان لهم السبق على الجانب الأمريكي، وما نقوله قد جرت به المقادير على الأرض، إذ لا أحد ينكر أن اتفاقية أوسلو كانت نتاج تعاون أوروبي فلسطيني إسرائيلي ناجز، حدث من وراء ظهر العم سام، ومع إرهاصات ما يسمى صفقة القرن مؤخرا، وما تم الإعلان عنه في مؤتمر وارسو الأخير، يبدو من الواضح للغاية ان هناك مشروع شبه إلزامي، قد لا يجد أي تعاون من العالمين العربي والإسلامي، وهنا سيكون السؤال ما هو موقف الطرف الأوروبي، والذي تأثر كثيرا بالمد والجزر اللذان تعرضت لهما الإشكالية طوال سنواتها؟

الواضح ان اللقاء كان مثمرا بالفعل إذ عبر الجانبان على مواقفهما المشتركة من عملية السلام في الشرق الأوسط، بما في ذلك بشأن وضع القدس وعدم شرعية المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفقا للقانون الدولي، كما أعادا التأكيد على الالتزام بالتوصل إلى حل الدولتين، وفقا لكافة قرارات الأمم المتحدة ذاتها بوصفها السبيل الواقعي الوحيد لإنهاء الاحتلال الذي بدا العام 1967، والذي يشمل القدس الشرقية والتوصل إلى سلام عادل وشامل بين الإسرائيليين والفلسطينيين عبر مفاوضات مباشرة بين الأطراف تناول كافة قضايا الحل النهائي.

إحدى القضايا التي نجح الحوار والجوار في طرحها على موائد النقاش مسالة التعاون الاقتصادي، وليس سرا ان العالم معرض في هذا العام 2019 تحديدا إلى نوع من أنواع الكساد والتضخم الاقتصادي، ذلك الذي يهدد الجانبين، ويمكن أيضا ان يقود إلى حالة من حالات الاضطرابات السياسية، فالشعوب تمشي أيضا على بطونها، وليس الجيوش فقط كما قال الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت ذات مرة.

من هنا يمكن للمرء أن يثمن أهمية تعزيز التعاون الاقتصادي التي تم الاتفاق عليها بين الطرفين، وإرساء شراكة قوية مبنية على الاستثمار والتنمية المستدامة، والتأكيد على تطوير برنامج عمل تعاوني إيجابي خاصة في مجالات التجارة والطاقة بما فيها امن الطاقة والعلوم، والبحث والتكنولوجيا والسياحة ومصائد الأسماك والزراعة والمجالات الأخرى، التي تحقق المصلحة المشتركة، وكل ذلك بهدف زيادة الثروة ومعدلات التنمية وخفض البطالة استجابة لاحتياجات الشعوب.

حين يجلس الجانبان الأوروبي والعربي، بتراثهما وتلاحمهما المشترك، فان هناك من النقاط المضيئة التي تظهر على خارطة الأمم والشعوب في بلاد العرب والأوروبيين سوية، ولهذا فان الاتفاق على مكافحة عدم التسامح الثقافي والديني والتطرف وتجنب القوالب السلبية والوصم والتمييز المؤدي إلى التحريض على العنف ضد الأفراد بناء على دياناتهم أو معتقداتهم، يضحى قيمة إيجابية حقيقية مضافة نتجت عن هذا اللقاء الكبير، وبالقدر نفسه فإن إدانة ترويج الكراهية الدينية سيما عبر وسائل التواصل الاجتماعي يعد لبنة استقرار حقيقية حول العالم.

إن مؤتمر شرم الشيخ يعبر عن لقاء للاتفاق عوضا عن الافتراق.