الملف السياسي

واشنطن- بكين.. اتفاق أم افتراق؟

25 فبراير 2019
25 فبراير 2019

إميل أمين - كاتب مصري -

المؤكد أن تباطؤ الاقتصاد الصيني العملاق قد أثار حالة من القلق لدى المستثمرين في جميع أنحاء العالم، وقد يزداد الأمر سوءا إذا فشلت بكين وواشنطن في التوصل إلى اتفاق تجاري خلال الأيام القادمة لاسيما بعد أن حملت العديد من الشركات الأمريكية الكبرى وعلى رأسها أبل الصين مسؤولية انخفاض أرباحها لمستوى مخيب للآمال.

الى أين يمضي الخلاف التجاري بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين؟ وهل هو بالفعل خلاف منطلقه اقتصادي أم سياسي ؟

المعروف جيدا لقراء تاريخ الامبراطوريات حول العالم، هو أن القوة والتمكين الاقتصاديين عادة ما يسبقان نشوء وارتقاء الامبراطوريات، بمعنى انه كلما اشتد عود الدولة اقتصاديا وكثرت ثروتها مهد ذلك الطريق لها ليتجاوز نفوذها حدودها الإقليمية هذا الأمر حدث مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب، وقد أضحت لذلك القطب الأكبر اقتصاديا، وتاليا انتصرت في صراعها مع الاتحاد السوفيتي عبر وفرتها المالية، وبإدخال السوفييت في صراع سباق أسلحة لم يقدر لهم مجاراته من منطلقات اقتصادية.

أدركت الصين الجار الجغرافي والعدو التقليدي الديموغرافي للروس هذه الحقيقة، ولهذا عملوا بجد واجتهاد عظيمين لتعظيم مكاسبهم المالية، وقد قرأوا رأس المال لماركس جيدا، وكذا ثروة الأمم لـ آدم سميث، ومن خلالهما بلورا نسقا جديدا وواضحا من النظام الاقتصادي الاشتراكي، الذي حقق نموا غير مسبوق، انعكس في فوائض مالية هائلة، غالبا ما يتم استخدامها كودائع في البنك الاحتياطي الأمريكي، ومن هنا استطاعت الصين إغراق الأسواق الأمريكية بمنتجاتها من جهة، وإدراك نوع من أنواع التهديد غير المسبوق والتوازن غير المعلن مع الجانب الأمريكي، توازن يقوم على منظومة الردع النقدي لا الردع النووي.

هل كان المشهد السابق ليغيب عن أعين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؟

الشاهد أن الرجل ومنذ أن كان مرشحا يسعى للرئاسة لم يوفر أبدا توجيه الاتهامات للصين، لا سيما تخفيض قيمة عملتها اليوان في مقابل الدولار، لتحقيق أفضل مزايا نسبية لها ولتجارتها مع الولايات المتحدة، ومع وصوله إلى البيت الأبيض، بدأ في تحويل تهديداته الى قرارات نافذة بالفعل أزعجت الصينيين بقوة.

قبل نحو أسبوع كان الرئيس ترامب يصرح بأن المباحثات التجارية مع الصين تمضي على نحو جيد، وألمح الى انه منفتح على تمديد الموعد النهائي لإتمام المفاوضات، والذي يحل في الأول من مارس المقبل.

تصريحات الرئيس الأمريكي تأتي بعد احتدام الصراع في السادس من يوليو من العام الماضي، حين دخلت الرسوم الجمركية المتبادلة لهاتين الدولتين حيز التنفيذ، وفرضت الولايات المتحدة الأمريكية رسوما بنسبة 25% على استيراد 818 منتجا من الصين، وذلك بحجم 34 مليار دولار أمريكي سنويا.

وبحلول الشهر القادم، وإن لم يتوصل الجانبان الى اتفاق اقتصادي ستواجه الصين رسوما جمركية على سلعها بقيمة 200 مليار دولار الأمر الذي دفعها الى فرض رسوم جمركية بنسبة 25% على استيراد كمية مساوية من البضائع الأمريكية.

لماذا العالم مهتم بالحرب التجارية بين الصين وأمريكا ؟

الجواب عند عدد كبير من الاقتصاديين حول العالم، هو أن تلك المواجهات الاقتصادية يمكنها حال تصاعدها تفكيك النظام العالمي الاقتصادي برمته، انطلاقا من أن اقتصاد أمريكا يتعاطى مع نحو 38% من التجارة العالمية، والصيني يلاحقه بسرعة كبيرة وخطوات واثقة يوما تلو الآخر.

ولعل علامة الاستفهام المطروحة في هذه السطور: «هل من عوامل تدعم طرفا بعينه في طريق الفوز في هذا السباق أم أنها معادلة لابد للطرفين فيها من تفاهمات ومواءمات ثنائية، ولتحقيق معادلة الكل فائز، ولا يوجد فيها المفهوم الصفري، بمعنى أن طرفا يفوز بكل شيء والآخر يخسر كل شيء؟

بحسب تقرير لشبكة سي ان ان الأمريكية الشهيرة، فقد سجلت الصين قفزة مفاجئة في الصادرات مما يشير الى أن اقتصادها قد يكون افضل من المتوقع، في الوقت الذي تشهد عملية التفاوض على إنهاء الحرب التجارية مع الولايات المتحدة، وقد نمت قيمة البضائع الصينية المصدرة في يناير الماضي بنسبة 9% مقارنة بالعام الذي سبقه، وذلك وفقا لبيانات حكومية صدرت منذ أسبوعين، وقد أدهش الأداء القوي للصين الاقتصاديين حول العالم، خاصة أن معظمهم توقع أن تتقلص الصادرات للشهر الثاني على التوالي.

والمؤكد أن تباطؤ الاقتصاد الصيني العملاق قد أثار حالة من القلق لدى المستثمرين في جميع أنحاء العالم، وقد يزداد الأمر سوءا إذا فشلت بكين وواشنطن في التوصل الى اتفاق تجاري خلال الأيام القادمة لاسيما بعد أن حملت العديد من الشركات الأمريكية الكبرى وعلى رأسها أبل الصين مسؤولية انخفاض أرباحها لمستوى مخيب للآمال.

هل تبين الأرقام الاقتصادية بين الدولتين نوايا جدية نحو التهدئة ووقف الحرب الطاحنة بين أكبر قوتين اقتصاديتين حول العالم؟

في يناير الماضي أظهرت بيانات تجارية صينية أن الواردات من الولايات المتحدة انخفضت بنسبة 41,2% مقارنة مع نفس الفترة من العام السابق لتبلغ 9,24 مليار دولار في اقل قيمة لها منذ فبراير 2016 .

في الوقت نفسه انخفضت الصادرات للولايات المتحدة بنسبة 2.4% الى 36,54 مليار دولار في أدنى قيمة لها منذ أبريل 20,8 وانكمش الفائض التجاري الصيني مع الولايات المتحدة الى 27,3 مليار دولار في يناير من 29,87 مليار في ديسمبر.

وقد أدخلت الرسوم الجمركية الإضافية التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العام الماضي 9 مليارات دولار إضافية للخزينة الأمريكية في آخر ثلاثة أشهر من عام 2018 بحسب ما أفادت وزارة الخزانة الأمريكية.

هل هي اذا حرب تجارية مكلفة للطرفين ؟

في تقرير لها تشير مجلة النيوزويك الأمريكية الى أن العام الفائت 2018 والذي شهد اشتداد سعير الحرب بين الطرفين كان عاما سيئا لأن كليهما قد خسر فكلا البلدين عانى من الضربات المالية التي كلفتهم مليارات الدولارات في قطاعات الزراعة والتكنولوجيا والسيارات، وعند « فالي تاينز « الخبير في الاقتصاد الزراعي في جامعة بوردو، فان المبارزة على التفوق الاقتصادي بين واشنطن وبكين قد كلفت كل دولة حوالي 3 مليارات دولار في العام، وتشير التقارير الى أن هذا المبلغ الكبير يعتمد فقط على التعريفة الجمركية التي فرضتها الصين على فول الصويا والذرة والقمح والذرة الرفيعة، فقد اشترت الصين فول صويا بقيمة 12 مليار دولار العام الماضي، لكن منذ يوليو عندما فرضت الولايات المتحدة التعريفة على عدد من البضائع الصينية، ردت الصين بتعرفة بنسبة 25% على فول الصويا المزروع في أمريكا، كما عثرت الصين على مورد جديد في البرازيل، لكن خبراء الاقتصاد يشيرون الى أن البذور الزيتية البرازيلية قد رفعت أسعار العقود الآجلة للمحصول في بورصة شيكاغو التجارية، وأجبرت المستوردين الصينيين على دفع أقساط كبيرة.

تبدو المعركة بين بكين وواشنطن متشابكة بحيث يصعب على أحدهما الفوز والآخر الخسارة، ولهذا لابد من حسمها بتوافق بين الطرفين، ذلك ان من حق كل دولة أن تسعى الى ماهو في صالحها الى أن الصين وأمريكا هنا تبدو مصالحهما متقاطعة بل تتلاقى مع بقية أطراف الاقتصاد العالمي، وقد تتحطم اقتصاديات صغيرة وأخرى متوسطة على صخرة الخلاف الأمريكي الصيني، إذا مضت الأمور على مثل هذا النحو من الصدام سيئ الذكر.

لماذا تستشعر الولايات المتحدة المخاوف الجمة من الصعود الصاروخي للصين؟ يمكن القطع أن الأمريكيين ماضون قدما في خريطة القرن الأمريكي التي رسم معالمها وملامحها المحافظون الجدد قبل نحو عقدين من الزمان، وتمت عليها تعديلات في عام 2010، من خلال استراتيجية الاستدارة نحو آسيا، وباختصار غير مخل تتطلب الهيمنة العسكرية وفرة مالية غير مسبوقة.

هنا نجد الصين تحاول قطع الطريق على الأحلام الأمريكية عبر إغراقها أولا، والعالم ثانيا بمنتجات الصين رخيصة الثمن وحيث عوامل الصناعة وظروفها أرخص كثيرا جدا من الداخل الأمريكي والأوروبي معا .

في هذا الإطار نجد عملة الصين وقد بدأت في الظهور والحضور بقوة في بنوك العالم، وهذا معناه أن الدولار الأمريكي الرمز الأشهر لاتفاقية بريتون وودز سوف يتراجع ويتعرض لحالة مثيرة للقلق ومن المخاوف على مستقبل أمريكا، ومن جراء المنافسة الصينية القوية التي يمكنها أن تخل بموازين بين البلدين، الأمر الذي تخشاه أمريكا، وتحاول تعطيله بأي طريقه لضمان صداراتها للعالم، الى أن صدارات الصين الى الولايات المتحدة تبقى بدورها قضية معقدة في حاجة إلى إلقاء المزيد من الضوء على المشهد ... ماذا يعني ذلك؟

ما الذي يمكن أن يدفع الطرفين الأمريكي والصيني إلى التواصل إلى اتفاق وتجنب افتراق بعيد المدى؟

هناك في واقع الحال تشابك خيوط لا يمكن فكها في الحال أو الاستقبال فالبلدان في حاجة ماسة الى بعضهما فمن جانب الصين تدرك تمام الإدراك أن الولايات المتحدة هي أكبر وأوسع سوق له قدرة شرائية حول العام، ولهذا توجه السلع بعينها الى الداخل الأمريكي، قل أن يوجد لها نظير حول العالم وتحقق من وراءها فوائض مالية عالية الثمن.

أما الولايات المتحدة الأمريكية فبجانب أنها تعتبر الصين أيضا سوقا بشريا كبيرا يصلح لتصدير الكثير من السلع الأمريكية، إلا أن تركيزها الحقيقي متمثل في الاستثمارات والودائع المالية الصينية في بنكها الاتحادي المركزي والتي بلغت مؤخرا قرابة ثلاثة ترليونات دولار، وهو رقم هائل يدفع للأمريكيين للتفكير العميق لاسيما في حال رغبت الصين في استرداد أموالها من الجانب الأمريكي وساعتها سوف يتعرض الاقتصاد الأمريكي لهزة كبرى قد تؤثر على مساراته الاقتصادية، وبخاصة في عام 2019 حيث نخب اقتصادية عديدة ترى أن الكساد الكبير يمكن أن يعود ويضرب البلاد ثانية.

هل الصين راغبة في الافتراق عن أمريكا اقتصاديا أول الأمر وربما سياسيا وعسكريا لاحقا؟

الذين لهم دالة على فهم العقلية الصينية يعلمون علم اليقين أن الصين لا تفكر أبدا في التصادم، إنها العقلية الكونفوشيوسية الماضية قدما الى الأمام بحثا عن الوجود الكلي، إذ تتغير المراكز لكن في وجود الكل الثابت، ولهذا يفضلون النفس الطويل في المباحثات وان كان ذلك لا يعني أن أعينهم في كل الأحوال على الهدف الأبعد أي القطبية العالمية.

ومن هنا نفهم دلالة تصريحات الرئيس الصيني بينغ بأنه يأمل في أن يتمكن الجانبان من التوصل الى اتفاق مفيد لكليهما، وأن الصين ترغب في حل الخلافات التجارية والاقتصادية مع أمريكا من خلال التعاون.

لماذا على الولايات المتحدة أن تبحث آليات التعاون التجاري مع الصين لا التصادم والمواجهة ؟

يبدو جليا للناظر إلى خـــــــــارطة التكتلات الدولية أن الصين متقدمة على الولايات المتحـــــــدة في هذا الإطار، بمعنى أن الصين عضو في جماعة أو منظومة البريكس والتي تضم روسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، وهي كتل اقتصادية كبيرة وذات أوزان اقتصادية متقدمة في القرن الحادي والعشرين، ولها أن تقطع الكثير من النفوذ الأمريكي في العقد الحالي، أما الولايات المتحدة فإن السياسات أحادية التوجه تجعل من فرص تواصلها مع العالم اقتصاديا أضعف، ولهذا يبقى من مصلحتها بالدرجة الأولى التواصل مع الصين لتحقيق سياسات متوازنة لصالح البلدين ووفقا لمنهجية الكل فائز... إنها المصالح التي تتصالح دائما وأبدا في سياقات السياسة العالمية.