الملف السياسي

أبعد من التجارة : السياقات العالمية للحرب التجارية

25 فبراير 2019
25 فبراير 2019

د. صلاح أبو نار -

مع اقتراب الأول من مارس سينتهي الموعد الأخير لهدنة التسعين يوما التجارية، التي اتفق عليها الرئيسان الأمريكي والصيني في 30 نوفمبر في قمة بيونيس إيريس لمجموعة العشرين. الآن يقف الجميع موقف الترقب: ما الذي سوف يحدث إذا أخفقت جولة المفاوضات الجارية الآن على أعلى مستوى في واشنطن؟

هل سيطلق الرئيس ترامب العنان لحربه التجارية مجددا؟

أم أنه سيشتري المزيد من الوقت بحجة المزيد من المفاوضات قبل استئناف معركة آثارها وخيمة على الجميع؟

لا أحد في مقدوره أن يجزم.

في الأسبوعين الأخيرين من فبراير صدرت تصريحات لترامب، تقول انه لا توجد مواعيد مقدسة واذا تأكد تقدم المفاوضات وإمكانية الوصول للصفقة المستهدفة، ستمتد الهدنة ومعها المفاوضات. في كل الأحوال تبدو الأزمة الراهنة مرشحة للتصاعد. سوف تتصاعد وإن امتدت الهدنة الراهنة لأجل طويل، وإن انتهى هذا الأجل إلى تسوية ما للصراع التجاري الراهن. لماذا؟

سنجد الإجابة في البنية الحقيقية للأزمة، وليس في منطقها الذي أعلنه الطرف الأمريكي. يمكننا اكتشاف تلك البنية الحقيقية عبر عمليتين. الأولى والبديهية نجرد فيها المعركة كمعركة خاصة ومحددة من أسبابها المعلنة بحثا عن أسبابها الحقيقية.

هذه العملية لا تفترض عبثية المعلن، بل تسعى إلى وضعه في حجمه الحقيقي وإبراز ماهو غائب. وفي الثانية والجوهرية نضع المعركة الخاصة في سياقاتها العالمية الأعم، لكي نرى إلى أي مدى تشكل تجليا الأزمات وصراعات أخرى، تغذيها وتعيد إنتاجها عبر أشكال ودرجات مختلفة.

تطرح واشنطن ثلاثة أسباب للحرب التجارية.

الأول العجز الهائل في الميزان التجاري. في 1980 صدرت أمريكا للصين ما قيمته 3,8 بليون دولار، مقابل واردات قيمتها 1,1 بليون، بعجز صيني 2,7 بليون دولار. وفي عام 2017 ارتفعت صادرات أمريكا للصين إلى 130,4 بليون دولار، مقابل واردات قيمتها 505,6 بليون، بعجز أمريكي قيمته 505,6 بليون. وفي تفسيرها لهذا العجز تتهم واشنطن بكين بالحمائية والسياسات التفضيلية.

والثاني هو الاعتداء على حقوق الملكية الفكرية. ويكتفي الاتهام بالإشارة إلى شكلي الاعتداء الأساسيين. سرقة المبتكرات التكنولوجية الأمريكية عبر الاختراقات السيبرناطيقية، والسياسات التي تجبر الشركات المستثمرة في الصين على نقل التكنولوجيا كشرط لعملها.

والثالث هو خسارة الوظائف الناتجة عن التدفق السلعي الصيني، والتي قدرتها دراسة لمعهد السياسات الاقتصادية الأمريكية بـ 3,2 مليون وظيفة فيما بين عامي 2001 و2013.

هذه الأسباب تتعرض لانتقادات كثيرة.

لا أحد يشكك في أرقام العجز التجاري، ولكن ثمة اختلاف واسع حول مسؤولية السياسات الصينية عنه، ومدى تعبيره عن فائض صيني حقيقي. يرى محللون أن العجز مع الصين هو جزء من عجز عام ومتواصل على مدى أربعين عاما، ويرجع جزء كبير من أسبابه إلى اختلالات في بنية الاقتصاد الأمريكي، أهمها الخلل بين المدخرات القومية والاستثمارات القومية. تتخطى الاستثمارات المدخرات بنسبة عالية، وعلى سبيل المثال انخفض معدل الادخار العائلي على مدى عشرين عاما من 8% إلى 1,75% في 2006. ويضيفون أن العجز مع الصين يتضخم من واقع مزايا الصين النسبية في التبادل الدولي وليس سياساتها التفضيلية، فالصين لديها مزايا في الصناعات كثيفة العمل مع امتلاكها لقوة عمل رخيصة، بينما أمريكا مزاياها موجودة في الصناعات كثيفة رأس المال عالية التقنية وقوة عملها مكلفة. ويستطردون أن أرقام العجز لا تعبر بدقة عن فائض صيني حقيقي مع أمريكا لو نظرنا إليه عبر سلاسل القيمة المضافة، ووفقا لدراسة وصل نصيب الواردات الأجنبية في 2011 من القيمة المضافة لصادرات الصين عامة إلى 32,2%، وكانت قيمتها في صادراتها إلى أمريكا35%.

وفيما يتعلق بالتأثير على الوظائف يرى الناقدون وجود مبالغة في تقييمه.

في دراسه لبنك سان فرانسيسكو الفيدرالي تناولت الإنفاق الشخصي للمستهلك الأمريكي عام 2011، جاء 88,5% من إجمالي الإنفاق اتجه إلى سلع منتجة داخل أمريكا، وان 11،5% فقط اتجه للمنتجات المستوردة. ووجدت نصيب السلع الصينية من هذه النسبة 2,7% من السلع والخدمات، وبعد خصم النسب التي لا تتعلق بشراء السلعة بل بعناصر أخرى سينخفض نصيب الواردات من الصين إلى 1,9%. ويورد نفس النقاد أرقام دراسة أمريكية أجريت 2017، تفيد أن 88% من الوظائف المفقودة مرجعها الاتمتة والتغيرات الهيكلية، و13% فقط مرجعها التأثير العام للتجارة الخارجية وليس الصينية حصرا.

وفيما يتعلق بتهمة الاعتداء على الملكية الفكرية. لن نجد ما يمكن الاعتماد علية بشأن السطو السيبرناطيقي، وما سنجده يتعلق بالنقل الإكراهي للتكنولوجيا. لا ينكر النقاد وجود نقل إكراهي، لكنهم يفسرونه عبر أسباب تنزع عنه قدرا من صفة الإكراهية، لتجعله نقلا إراديا مبنيا على حسابات سوقية. فهو نقل لا ينتهك قواعد منظمة التجارة الدولية، وضمن الصلاحيات التنظيمية الشرعية للسلطات الصينية، ويقدم إغراءات للشركات الأجنبية مصدرها مزايا الحجم الاقتصادي الصيني، ويستغل التنافس بين الشركات على السوق الصيني بكل مزاياه.

ولن نجد السبب الاقتصادي الرئيسي في الأسباب السابقة بل في أمرين.

الأول نمط النمو الصيني. تنتهج الصين نمطا للنمو يمزج بين المركزية والتخطيط وملكية الدولة والحماية الاقتصادية، والسوق الحر والمشروعات الخاصة والانفتاح والعولمة. هذا النمط حتى الآن يعطي اليد العليا للدولة، ولكنه تدريجيا يبرز قوى السوق ويقلص من دور الدولة. وهذا النمط نفسه هو المسؤول عن معجزة النمو الصيني والآفاق التي تتفتح أمامها. وما تريده الولايات المتحدة أساسا هو تفكيك هذا النمط وتحويل الصين إلى النمط الرأسمالي الحر النقي.

والثاني يتعلق بالحجم الهائل للسوق الصيني، الذي في حال انفتاحه بلا أي قواعد تنظيمية سيمنح الاقتصاد الأمريكي فرصا هائلة للنمو.

تمنحنا دراسة للكونجرس الأمريكي مثالا لكيفية تفكير النخب الأمريكية في هذا الأمر. وفقا للدراسة ساهمت صادرات أمريكا للصين من السلع والخدمات في خلق 2,6 مليون وظيفة أمريكية، و216 بليون دولار من الناتج المحلي. وتورد انه في عام 2016 كان عدد زوار أمريكا الصينيون 3 ملايين أنفقوا 33 بليون دولار، وسيصل عددهم عام 2021 إلى 5,7 مليون. وتذكر أن شركة بوينج باعت الصين 26% من إجمالي مبيعاتها عام 2017، وان مبيعات عربات جنرال موتورز للصين عام 2017 وصلت إلى 42,1% من إجمالي مبيعاتها العالمية. وتضيف أن الصين بها أوسع طبقة وسطى في العالم، التي يصل عدد راشديها إلى 109 ملايين، مقابل 92 مليونا في الولايات المتحدة. ونقلت توقعا لبروكينجز أن إنفاق تلك الطبقة الوسطى باستخدام أسعار 2011، سيرتفع إلى 4,2 تريليون عام 2015، ثم إلى 14,3 تريليون عام 2030 وهو ما يماثل ثلاثة أضعاف مستوى استهلاك الطبقة الوسطى الأمريكية.

تلك هي المعركة التجارية في واقعها الحقيقي.

ماذا بشأن السياقات العالمية المغذية لها؟

يمر العالم الآن بنظام دولي يشهد تحولات جذرية، سواء في توازناته وتحالفاته الأساسية، أو التيارات الفاعلة، أو الإجماعات السابقة المنظمة لعملياته السياسية. يبدو هذا:

أولا - في النمو الدولي العام للنزعة التجارية الحمائية. ليست الحمائية استثناء أمريكيا، بل تطرفا أمريكيا في سياق اتجاه عالمي تصاعد ردا على أزمة 2009. ويقدر انه فيما بين عامي 2009 - 2016، ارتفع عدد الإجراءات الحمائية في العالم من 1000 إلى 6500.

ويبدو – ثانيا - في التحولات الهائلة في موازين القوى الدولية. المتمثلة في ظواهر البروز الاقتصادي الهائل لدول شرق وجنوب آسيا، والتقدم الكوري الشمالي الحاسم في المجال النووي، والسعي الصيني المتواصل لتطوير قواها العسكرية في المجالين الفضائي والبحري، والعودة القوية والتدخلية للدور الروسي العالمي بعد سنوات الانزواء، ونمو الدور الاقتصادي الصيني العالمي عبر مبادرة الحزام والطريق، وتراجع الدور الدولي الأمريكي.

ويبدو - ثالثا - في التحولات الواسعة والعميقة داخل النظم السياسة، بتداعياته الأكيدة على سياساتها الخارجية، حيث تتراجع الديمقراطيات الغربية تحت ضغط الصعود القومي الشعبوي، ويصعد نجم النظم التسلطية عبر تحديثها وتوطيد شرعيتها كما في روسيا والصين ومناطق أخرى. وتبدو النزعة القومية المتطرفة في بعض مناطق الجنوب الآن في أحسن حالاتها. وكل هذا يصب في النظام الدولي خالقا ميولا محافظة وعدوانية وانقسامية.

ويبدو هذا – رابعا – في أزمة التحالف الغربي. شكل هذا التحالف على امتداد فترة ما بعد الحرب الثانية قلب النظام الدولي المحرك، وتتجلى أزمته الآن في تراجع الدور الأمريكي وتنصله من مسؤولياته القيادية، والأزمة المتصاعدة داخل الناتو بين أمريكا وأوروبا الغربية، وتفكك الإجماع الديموقراطي الليبرالي القديم داخله، والانسحاب الأمريكي من معاهدة الصواريخ المتوسطة، والدعوة الفرنسية لإنشاء جيش أوروبي مستقل عن الناتو، والخلاف الأوروبي الأمريكي حول أزمات أساسية من الشرق الأوسط إلى القدس إلى الاتفاقية الإيرانية.

وكل ذلك يعني أننا بصدد نظام دولي مأزوم، ومع تصاعد ازمته تتفكك ضوابطه ويصبح جزء من آليات إدارته القديمة مشلولا أو معطلا، وتتراجع تحالفاته القديمة المساندة والقادرة على استيعاب وضبط الأزمات. وفي المقابل تتبلور تناقضات وصراعات جديدة، وتصبح توتراته الاقتصادية قابلة للتحول إلى أزمات سياسة حادة وسريعة الإيقاع، وتتراجع قواعد الرشادة في إدارة الصراع.

ويمكننا أن نقول إن هذا السياق الدولي ساهم جذريا في توليد الحرب التجارية الراهنة، وسيمنحها استمرارية وقوة غير موجودة في عواملها الأصلية.