الملف السياسي

شركة «جوال» وأكثر من دولة.. في مرمى النيران!

25 فبراير 2019
25 فبراير 2019

يسرا الشرقاوي -

يبدو الأمر وكأن شركات الاتصالات الصينية مثل « هاواوي» و»ZTE Corp» علقت مع دول مثل كندا وبريطانيا في مرمى نار الحرب التجارية الدائرة بين الصين والولايات المتحدة. وذلك الظن سليم بقدر، وينقصه في الوقت ذاته كثير من الفهم لطبيعة الصراع بين واشنطن وبكين. فحرب الاتصالات التي تفجرت بين البلدين ليست كلها تجارية وإنما يرجع بعضها إلى ثقافة الشك، والمدعومة بالأدلة والوقائع المحددة، لدى الولايات المتحدة إزاء محاولات الصين المستمرة لاختراقها على أكثر من صعيد.

وقد يعني هذا الاختراق التجسس على مسؤولي واشنطن لأغراض سياسية وخلاف ذلك.أو يعني التخطيط لقرصنة أنظمتها الحساسة، مع توالي الكشوفات عن محاولات مماثلة من جانب جهات صينية، بعضها يرتبط بصلات مباشرة مع سلكات بكين. وهناك أيضا تسريب مستجدات القطاع التكنولوجي الأمريكي في إطار قلق واشنطن الدائم حول حماية حقوقها للملكية الفكرية أمام مساعي الصين المتوالية للتسلل واقتناص الجديد.أو أنه اختراق يهدف تدعيم موقف الصين في ذلك السباق البعيد عن الرصد، ويقصد به سباق الدولتين في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. فأغلب الأدبيات التي خرجت لتحلل مستقبل العلاقة بين العملاقين الأمريكي والصيني، رصدت أرقام ومؤشرات عديدة حول أن المواجهة المقبلة ستكون في المجال التكنولوجي.

تفسر هذه الاحتمالات ما تفجر في موقعة «هاواوي» وشركات الاتصالات الصينية بين الجانبين. وتسير الموقعة على صعيدين، أولهما ما كان من مواجهة مباشرة عقب إلقاء سلطات كندا في ديسمبر الماضي القبض على مينج وانزوهو المدير المالي للشركة المصنفة بأنها أكبر مصنع لأجهزة الاتصالات في العالم. اعتقال وانزوهو، والذي تحول بعد ذلك إلى إطلاق سراح بكفالة مع حظر مغادرة كندا، جاء نيابة عن السلطات الأمريكية. وجاء بناء على اتهامات من جانب واشنطن لوانزوهو بالتورط في عدد من وقائع الاحتيال وغسيل الأموال وانتهاك منظومة العقوبات المفروضة من جانب أمريكا ضد إيران.

وقضية وانزوهو ليست وحدها التي تدفع بـــ «هاواوي» في مواجهة الولايات المتحدة. فسلطات الأمن الفيدرالي في أمريكا تجري حاليا تحقيقا جنائيا حول تورط الشركة الصينية في وقائع سرقة وتسريب أسرار التجارة التكنولوجية للولايات المتحدة، وذلك عبر بوابة التعاون مع شركاء محليين في أمريكا مثل «تي- موبيل».

واشنطن صعدت من خطابها المعادي للشركة الصينية، وذلك بشكل بلغ مستوى التحذيرات التي أطلقها مايك بينس، نائب الرئيس الأمريكي، والذي وقف أمام الحضور في منتدى ميونخ للأمن قبل أيام، مطالبا حلفاء بلاده في أوروبا بالتعامل بالجدية اللازمة مع « التهديد» الذي تشكله «هاواوي» وغيرها من شركات الاتصالات الصينية عند اختيار عواصم أوروبا الشريك الذي يساهم في تشييد وتشغيل الجيل الجديد من شبكات الاتصالات والمعروف بجيل الــ 5 جي.

وقال بينس في ألمانيا أن معدات الاتصالات الصينية تهيء لبكين ومؤسساتها الإطلاع على كافة المعلومات التي يتم عرضها على الشبكات والمعدات صينية الصنع والتشغيل. وعرف بينس التهديد المحتمل من جانب شركات الاتصالات الصينية بأنها «قضية أمن قومي».

وشبكة الـــ «5 جي» المنتظرة يتوقع أن تدعم الأجهزة الطبية المعتمدة تشغيليا على الإنترنت، وماكينات المصانع، والسيارات ذاتية القيادة، وغير ذلك من المعدات والأنظمة. ومع هذا التعقيد في المهام والتعددية في الخدمات، يتزايد الجدل حول الجهات المنفذة والمسؤولة عن تشغيل هذه الشبكة أوروبيا ودوليا. فمن قبل تدشينها، تثير الكثير من المخاوف السياسية والقلق حول التكلفة الاقتصادية والأمنية لأي اختراق أو حتى تهديد لها.

تحذير بينس قد يكون من الأحدث لكنه ليس الأوحد، فواشنطن كررت في الفترة الأخيرة مثل هذه النغمة في اتهام شركات الاتصال الصينية والنغمة نفسها أيضا في تحذير ومحاولة التأثير على الحلفاء غربا. هل هناك ترابط بين قضية وانزوهو والملاحقة الأمريكية للاتصالات الصينية؟ الإجابة أنه بقدر، لكن يجب مراعاة أن التحقيقات التي تجريها السلطات الأمريكية حاليا بشأن « هاواوي» وغيرها سبقت بفترة قضية وانزوهو واعتقال كندا لها.

وسواء كانت كذلك من عدمه، فإن الموقف الصيني واحد وحاسم. فهناك دفاع مستميت عن سمعة صناعة الاتصالات الصينية والتي تعد الأقوى في العالم. دفاع تجدد على لسان رين تشينج في، مؤسس «هاواوي» ووالد زانزوهو، والذي أكد في أحدث مقابلة أجراها مع هيئة الإذاعة البريطانية «بي.بي.سي» أن هذه الاتهامات بالاحتيال وغيرها لا أساس لها من الصحة. وكان قاطعا في تأكيده «لا سبيل أن تتمكن الولايات المتحدة من تدميرنا».

جينج شوانج، المتحدث باسم الخارجية الصينية كان أكثر تحديدا في توجيه سهام، واصفا اتهاما أمريكا لهاواوي وصناعة الاتصالات الصينية إجمالا بأنها شكل من أشكال « النفاق، وعدم الأخلاق، والتنمر غير المنصف». وأكد في تصريحات إعلامية أدلى بها يوم 19 فبراير الجاري أن الحملة الأمريكية لا تزيد عن كونها مدفوعة سياسيا وتستهدف « كبح النمو الشرعي للصناعة الصينية».

وهذا ما كان من المواجهة المباشرة والتي يوازيها بالطبع محادثات مكوكية هنا وهناك لدفع اتهامات التجسس وانتهاك حقوق الملكية الفكرية وطمأنة شركات الأعمال في الغرب على أن أمنهم لا مساس به. وهناك ورقة إضافية، كان الضغط الصيني على كندا. فبعد إعلان كندا إلقاء القبض على مسؤولة «هاواوي» بدأ تقليب بكين في قديم دفاترها. فتم استدعاء قضية مواطن كندي كان معتقلا لدى بكين بتهمة الاتجار في المخدرات منذ سنوات، وعوضا عن الحكم الذي صدر في 2016 بسجنه 15 عاما، تم إعادة فتح القضية وإجراء محاكمة عاجلة والحكم عليه بالإعدام. كما تم اعتقال كنديين آخرين في قضايا مختلفة.

هذه الضغوط وغيرها تبرر اللهجة الواثقة التي تحدث بها مؤسس «هاواوي» في مقابلة الــ «بي.بي.سي» بعد أن كانت يؤكد في تصريحات سابقة فور تفجر الأزمة على ثقته بالأنظمة القضائية للولايات المتحدة وكندا، وأنهما «أنظمة منفتحة وعادلة ونزيهة». ويحق له الثقة ويحق للصين أيضا. فقد بدت بوادر تعثر الخطة الأمريكية. فقد نقلت صحيفة «فايننشال تايمز» عن مسؤولي «المركز القومي للأمن الإلكتروني البريطاني» عن أن التهديدات الأمنية التي يمكن أن ترتبط بشبكة جيل الــ«5 جي»، محدودة. وزادت على ذلك السلطات البريطانية بالتأكيد أنها تتباحث مع الحلفاء الأوروبيين والذين يقومون حاليا بتقييم شبكة الاتصالات لديهم. ويفترض أن تنتهي سلطات بريطانيا من تقييم سياساتها لتأمين الــ «5 جي» إما في مارس أو أبريل القادمين. وكان مكتب رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي قد أكد أن حتى هذا الحين، لم يتم اتخاذ أي قرار بشأن الــ «5 جي» والشركات المقرر التعاون معها.

وعلى الصعيد الأوروبي إجمالا، يلاحظ أن مسؤولين أوروبيين اعربوا في الفترة الأخيرة عن قلقهم إزاء بعض الإجراءات التنظيمية والتي صدرت في الصين عام 2018 وتفرض على الشركات الصينية في المطلق، وليس قطاع الاتصالات وحده، التعاون مع وكالات المخابرات. ولكن لم يصدر حتى الآن أي حظر رسمي وشامل في أي من دول أوروبا بشأن التعامل مع « هاواوي» أو غيرها من الشركات الصينية الكبرى. كما أن التصريحات التي صدرت من الجانب البريطاني قد تساعد في إقناع باقي القوى الأوروبية والغربية بالتخلي عن الشكوك القائمة بشأن «هاواوي» وغيرها.

لتصريحات الأجهزة الأمنية بريطانية ثقل كبير، خاصة وأن بريطانيا جزء من من ما يسمى تحالف الــ«فايف أيز» المخابراتي، والذي يضم إلى جانبها، الولايات المتحدة وكندا واستراليا ونيوزيلاندا. ما يعني أن هناك تبادل في الإطلاع على المعرفة المخابراتية لدى الدول الخمسة المؤلفة للتحالف. وأن انتهاء جهة أمنية بريطانية إلى أن الــ «5 جي» مؤمنة ولا مانع من اعتماد معدات « هاواوي» يفترض أنه قائم في جانب منه على المعلومات الواردة من أمريكا بهذا الشأن.

ويجب أيضا الأخذ في الاعتبار بــ «الجزرة» التي تستخدما الصين في حسم مواجهة الاتصالات مع أمريكا.

مؤسس «هاواوي» في لقاء « بي.بي.ٍسي» أبدى عدم اهتمامه باحتمالية تضييق أمريكا على استثمارات شركته لديها، مؤكدا إمكانية الانتقال فورا للاستثمار في بريطانيا، علما أن استثمارات « هاواوي» هناك تجاوزت 2 مليار جنيه استرليني خلال الفترة بين عامي 2013 و2017. ويضاف إلى ذلك التعاقدات التي وقعتها الشركة الصينية عام 2018 مع بريطانيا وبلغت قيمتها 3 مليار جنيه استرليني. ولا يمكن الاستهانة بهذه الأرقام وما وراءها من علاقة اقتصادية وثيقة مع الصين، خاصة في ضوء الارتباك المتوقع والأزمات المحتملة لمرحلة ما بعد الخروج البريطاني من عضوية الاتحاد الأوروبي «بريكست».

وإجمالا ووفقا لموقع «ساوث تشينا مورنينج بوست» الذي نقل عن الصحافة الألمانية أن مصادر بالحكومة الألمانية تتجه إلى التعاون مع « هاواوي» فيما يخص شبكة الــ «5 جي». يقابل ذلك، بعض الانتصارات الصغيرة للدعاوي الأمريكية مثل ما كان من استجابة بولندا وجمهورية تشيك للحملة الأمريكية.

لكن إجمالا، دعوى أمريكا إزاء الدور السياسي والمخابراتي لشركات الاتصالات الصينية لا يوجد أدلة واضحة عليه، ما يدفع بعض المحللين إلى الاعتقاد بأن المسألة في أغلبها عبارة عن ردة فعل أمريكية على حالة القلق الدائم من سرقة بكين لأسرار واشنطن التكنولوجية وتفوق بكين على واشنطن في هذا المجال بما يجعلها على المدى البعيد ليست صاحبة اليد العليا عليه اقتصاديا وعلى مستوى دولي، ولكن أيضا يجعلها قادرة على أن تصبح منصة هجوم دائمة على المصالح الأمريكية المترابطة كلها بشبكة من الألياف الاصطناعية.