الملف السياسي

أمريكا.. وضربة اقتصادية مرتدة

25 فبراير 2019
25 فبراير 2019

مروى محمد إبراهيم -

«أمريكا أولا».. هو الشعار الذي رفعه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، واستغله في إشعال الحروب شرقا وغربا. ولكن من أكثر الحروب التي ارتدت الضربة فيها إلى الولايات المتحدة وبقوة، هي الحرب التجارية مع الصين. فالعلاقات الصينية- الأمريكية معقدة للغاية، فبالرغم من أن الخلافات الاقتصادية بين البلدين تمتد لعقود طويلة إلا أن أي ضرر يلحق بالاقتصاد الصيني ينعكس سلبا على الاقتصاد الأمريكي.

فالمسألة الأساسية تكمن في أن الاقتصاد لا يتأثر طوال الوقت بالسياسة فقط وإنما يتجه حيثما كان الربح ويسلك الطريق الذي يدر المال. وبالتالي، فإن الخلافات والمشاحنات التاريخية، بل والخلافات السياسية الطاحنة بين البلدين لم تمنع الشركات الأمريكية من إقامة علاقات شراكة تجارية قوية مع الصين. وبالرغم من أن ترامب يلعب وبإتقان لعبة المفاوضات مع الصين، أملا في جني أكبر مزايا تجارية ممكنة، إلا أن هذا لم يحمي بلاده من ضربة اقتصادية قوية.

ويؤكد الخبراء أنه لا يوجد رابح في هذه الحرب التجارية التي بدأتها الولايات المتحدة. فالدول التي تواجه تعريفات جمركية جديدة، بما في ذلك الولايات المتحدة، تعاني من تراجع حاد في صادراتها وفي إجمالي الناتج المحلي. وهناك دول أخرى تعاني من هذه الحرب بصورة غير مباشرة من خلال ضعف الطلب على صادراتها، إما بسبب القيود المفروضة على سلاسل المحلات العالمية أو بسبب ضعف النمو الاقتصادي العالمي. وهذه الخسائر تفوق أي مكاسب محتملة من تحويل التجارة لتجنب الرسوم الجمركية. فبسبب سيناريو الحمائية التجارية، الأمريكي الصنع، انخفض معدل إجمالي الناتج المحلي العالمي بنسبة 0.1 ٪ في 2018، و0.8 ٪ في عام 2019، و1.4 ٪ في عام 2020. وهكذا، فإن النمو الاقتصادي العالمي في عامي 2019 و2020 أعلى بشكل طفيف من حاجز الـ 2.0 ٪ للركود العالمي.

وفي ظل هذه الخسائر العالمية، لا يمكن أن نندهش من حقيقة أن الولايات المتحدة تشهد أكبر انخفاض في الواردات من السلع والخدمات، حيث من المتوقع أن ينخفض معدل الواردات للولايات المتحدة بنسبة 4.5٪ في عام 2020.

ويؤكد سيث كاربنتر الخبير الاقتصادي في أحد البنوك السويسرية الكبرى أن الحرب التجارية التي أشعلها ترامب تدفع ثمنها الشركات الصغيرة على أرض الواقع، فيبدو أن هذه الشركات الصناعية الصغيرة بدأت تندثر بالفعل، وهو ما سيكون له تأثير سلبي أكبر وأكبر على الاقتصاد الأمريكي ككل مع استمرار الوقت، أكثر مما يتوقعه معظم الناس.

ويتوقع كاربنتر، كبير الاقتصاديين في بنك يو بي إس السويسري، أن تفرض الرسوم الجمركية التي أقرها ترامب على السلع الصينية، والرسوم الانتقامية التي أقرتها الصين في المقابل على السلع الأمريكية، انخفاضا في سرعة نمو إجمالي الناتج المحلي في أكبر اقتصاد في العالم قد يصل إلى النصف تقريبا. وأشار إلى توقعات يوبي إس الرسمية، والتي رجحت أن تشهد الولايات المتحدة نمواً سنوياً بنسبة 1.7٪ في الربع الرابع من العام الماضي، و 1.5٪ فقط في الربع الأول من عام 2019. وكان معدل النمو السنوي في الربع الثالث، كما أفاد مكتب التحليل الاقتصادي الأمريكي، قد سجل 3.5 ٪ وهو ما يمثل بالفعل تباطؤا مقارنة بالربع السابق وأظهرت تأثير سلبي كبير من الحرب التجارية.

وحذرت توقعات البنك السويسري من أن معظم التباطؤ من المرجح أن يصيب قطاع التصنيع، نظرا إلى أنه الأكثر حساسية تجاه تغيير أسعار المواد الخام. بل وحذرت التوقعات أيضا من أن الضربة ستكون قوية، حتى أنها قد تدفع بعض المصانع والشركات الجديدة إلى إغلاق أبوابها نهائيا والخروج من سوق العمل.

وتتعارض هذه التوقعات مع رؤية ترامب، فالرئيس الأمريكي قد أشعل الحرب التجارية من منطق أنه سيساعد على تنشيط القطاع الصناعي الأمريكي، فبدلا من أن يعتمد المستهلك الأمريكي على السلع الصينية الأرخص سعرا، فربما يفضل شراء المنتج الأمريكي لو كانت الأسعار متقاربة بين المنتجين.

وأشار كاربتنر في تعليقه على حرب ترامب التجارية إلى أن الاقتصاد الأمريكي شهد المزيد من فرص العمل خلال العام الماضي أكثر من أي وقت مضى منذ التسعينيات من القرن الماضي، نعرف من مصادر مختلفة أن الغالبية العظمى من هذه الزيادة في التوظيف تأتي في شركات جديدة. وهي شركات جديدة للغاية بهامش ربح ضعيف جدا، وليست لديها القدرة على التعامل مع الأعباء الجديدة. وتسببت الصدمات الناجمة عن تكلفتها الصغيرة في إحداث اضطرابات كبيرة في مثل الشركات الجديدة، ونرى أن بعض هذه الشركات الجديدة قد فشلت، وبعضها الآخر فشل في التوسع بطريقة كان يمكن أن تتحقق لو أن الظروف اختلفت والأوضاع السياسية كانت تسير وفقا لنهجها السابق. إن تحذير كاربنتر إزاء الآثار السلبية للحرب التجارية هو الأحدث في مجموعة من التحذيرات حول عواقب سياسات الرئيس. وهو نفس ما أكدته شركة عالمية، على سبيل المثال، وهي شركة ميرسك أكبر شركة شحن في العالم، والتي أشارت إلى أن الحرب التجارية كانت لها بالفعل تأثير مادي على التجارة العالمية.

ولكن كاربنتر أكد أن الوضع ليس مظلما للغاية، مشيرا إلى أن «ما نعرفه عن الصناعة، وخاصة في الولايات المتحدة، هو أن لديك مخزونات ضئيلة للغاية، ولديك كيانات هشة ولكن سهلة الإصلاح». «وهكذا عندما يكون هناك ضربة اقتصادية، يكون التأرجح قويا، ولكنه قصير الأمد إلى حد ما» على حد تعبيره.

في الواقع، هذا التخبط الذي يعاني منه الاقتصاد الأمريكي في ظل السياسات الاقتصادية والحروب التجارية التي أشعلها الرئيس الأمريكي هي ما دفعته إلى تهدئة الحرب وإعلان الهدنة خلال لقائه مع الرئيس الصيني تشي جينبينج على هامش قمة مجموعة العشرين الاقتصادية التي انعقدت في الأرجنتين نهاية العام الماضي، حيث أعلن ترامب خلالها إطلاق المفاوضات لوضع حد لهذه الحرب التجارية بشروط مرضية لكلا الطرفين قدر الإمكان. وقرر تأجيل الجولة الجديدة من التعريفات الجمركية التي كان من المفترض أن يفرضها على المنتجات الصينية في يناير الماضي.

وعلى الرغم من المناوشات والتحرشات الاقتصادية المتواصلة بين الجانبين، إلا أن هذا لم يحل دون استمرار المفاوضات، بل وإعلان الجانب الأمريكي إمكانية تمديد المفاوضات لشهر إضافي، وربما حتى يتمكنا من التوصل إلى اتفاق مرضٍ يساعد على إنهاء الحرب التجارية نهائي.

والطريف، أن العلاقات السياسية بين البلدين لا تقل سخونة عن حربهما التجارية، فأمريكا تنظر إلى الصين باعتبارها منافسة سياسية واقتصادية لها. فأمريكا تتهم الصين بالتجسس الصناعي والقرصنة على أنظمتها والتلاعب بالسياسات التجارية، ناهيك عن اتهامها بتهديد حلفاء الولايات المتحدة في آسيا. وبالتالي، فإن هذا ساعد ترامب على إطلاق حربه التجارية وسط قدر محدود من الانتقادات على المستوى الداخلي.

الرئيس الأمريكي كعادته رجل أعمال عنيد لا يهتم بالخسائر طالما أنه سيحقق هدفه في النهاية، وهذا ما يحدث معه في كل مرة يقرر فيها تغيير الواقع. ففي واقع الأمر، الصين تسيطر على السوق الأمريكية والمنتجات الأمريكية تعجز عن منافستها. وهذه المرة، قرر ترامب أن يهب لحماية منتجاته وإنعاش الصناعة المحلية وتقليص الأضرار التي يتعرض لها هذا القطاع الاقتصادي الهام. ولكن على طريق تحديد الهدف، نجد أن الخسائر والإضرار التي تضرب الاقتصاد الأمريكي عنيفة ولا يستهان بها.