1132869
1132869
إشراقات

العدالة الاجــتماعية.. أهـم مــرتكــزات الشـريعة الإســـلامية

21 فبراير 2019
21 فبراير 2019

سواسية كأسنان المشط -

يحيى بن سالم الهاشلي -

إمــام وخـــــــطيب جـــــامع السلطان قابوس بروي -

«من صور تحقيق العدالة الاجتماعية في الإسلام أن وضع مبدأ التكافل الاجتماعي ركنا من أركانه كما في الزكاة المفروضة أو من خلال الترغيب بالبذل والإنفاق كقربة من القربات، وذلك ليتحقق الأمان الاجتماعي لأفراد المجتمع بتحقق العيش الكريم لكل فئاته، فينظر الإسلام أن من العدالة أن يعين القوي الضعيف في ضرورات حياته عند عجزه عن تحصيلها بسبب فقره أو عجزه، وإن العلاقة بين تحقيق الأمن الاجتماعي والعدالة الاجتماعية أن الإسلام يبني مجتمعا متعاطفا متعاضدا متعاونا لا ينظر أفراده لتحقق مصالحهم الخاصة فقط بل يسعى كل فرد لخير نفسه وغيره».

جاء الإسلام ليقيم العدل بين الناس ويرفع الظلم، وقد كان هذا العمل هو أساس أول من أسس دعوة المرسلين كافة كما قال سبحانه: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)، وقد ورد العديد من الآيات مؤسسة ومؤكدة لإقامة العدل، فأمر عام بإقامة العدل ونهي عن ضده البغي في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، وأمر بإقامة الحكم بين الناس بالعدل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا)، كما خص أهل الإيمان بموعظة إلهية بإقامة العدل في أنفسهم وأن ذلك من التقوى فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚإِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).

ومن صور العدل التي جاء الإسلام لتحقيقها ما يصطلح على تسميتها حاضرا بالعدالة الاجتماعية وهي تتعلق بتحقيق المساواة بين أفراد المجتمع في أداء الواجبات ونيل الحقوق وتكافؤ الفرص بينهم حسب اجتهاد كل فرد منهم والتوزيع العادل للثروات بينهم، ونجد تقريرا للمبادئ العامة للعدالة الاجتماعية في نصوص الشريعة الغراء، ففي الكتاب العزيز يقرر الحق سبحانه وحدة الجزاء بوحدة العمل لكل من الذكر والأنثى فالواجبات واحدة والحقوق كذلك - إلا فيما اختلفت فيه الفطر فاختلفت جزئيات لأجل ذلك -قال سبحانه وتعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ ۖ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ۖ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ)، وقد ورد في السنة النبوية ما يعد أعظم ميثاق للعدالة الاجتماعية والحرية المدنية عرفه الناس، فعند وصول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة وضع ميثاقا للتعايش بين أفراد ذلك المجتمع المتعدد عرف بصحيفة المدينة التي عدها كثير من المفكرين أول نظام لدولة تنظم حقوق وواجبات أفرادها، ويصف المستشرق الروماني جيورجيو الصحيفة وما تضمنته من أسس للتعايش والعدالة الاجتماعية بقوله: «حوى هذا الدستور اثنين وخمسين بندا، كلها من رأي رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، ولاسيما اليهود وعبدة الأوثان. وقد دُون هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء. وضع هذا الدستور في السنة الأولى للهجرة، أي عام 623م. ولكن في حال مهاجمة المدينة من قبل عدو عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده»، فتقرر الصحيفة التشارك في الحقوق وأداء الواجبات لكل الطوائف المتعايشة في المدينة المنورة، وقد تحقق ذاك واقعا في عصر الرسالة لا تنظيرا، وقد خلد القرآن الكريم حادثة حفظت حق يهودي في تبرئة جانبه من تهمة ألصقت به بهتانا، فأنزلت آيات من سورة النساء تقرر مبدأ الحكم بالعدل بين الناس دون نظر للفوارق الإثنية بينهم إلى أن تصل بتبرئة ساحة المتهم مما رمى به ، فكان مطلعها مؤكدا لذلك (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا)، إلى أن قال: (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا، وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ ۚ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا)، فهذا مثال واحد خالد على حقيقة ما جاء به الإسلام وطبقه من عدالة اجتماعية بين من يحيا في كنف دولته، واستمر الحال بعد عصر النبوة ترتسم الأمة ذات المنهاج، فهذا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته يرى شيخا يهوديا يتسول ليدفع الجزية -حق مالي للدولة مقابل الحماية والرعاية- فقال له: «والله ما انصفناك نأخذ منك شاباً ثم نضيعك شيخاً والله لأعطينك من مال المسلمين»، فأعطاه عمر ـ رضي الله عنه ـ من مال المسلمين وأسقط عنه وعن أمثاله الجزية، والشواهد في تاريخ الإسلام كثيرة عديدة لا تحصر، ومن الشواهد على إقامة الإسلام العدالة بين جميع من عاش في دولته بقاء العديد من غير المسلمين في البلدان التي فتحها المسلمون ينعمون بالحرية والأمن في معتقداتهم وأنفسهم وأموالهم ولم يفروا منها إلى يوم الناس هذا، بل إن التاريخ يشهد أن اليهود هاجروا مع المسلمين عند إخراجهم من الأندلس فرارا بأرواحهم من اضطهاد النصارى الإسبان، فانضموا للعيش في كنف الدول الإسلامية يقينا منهم بحفظ حقوقهم وعدم ظلمهم.

وإن من صور تحقيق العدالة الاجتماعية في الإسلام أن وضع مبدأ التكافل الاجتماعي ركنا من أركانه كما في الزكاة المفروضة أو من خلال الترغيب بالبذل والإنفاق كقربة من القربات، وذلك ليتحقق الأمان الاجتماعي لأفراد المجتمع بتحقق العيش الكريم لكل فئاته، فينظر الإسلام أن من العدالة أن يعين القوي الضعيف في ضرورات حياته عند عجزه عن تحصيلها بسبب فقره أو عجزه، بل ينفي النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان على من لا يقوم بواجب المعاونة فقال: (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به)، وإن العلاقة بين تحقيق الأمن الاجتماعي والعدالة الاجتماعية أن الإسلام يبني مجتمعا متعاطفا متعاضدا متعاونا لا ينظر أفراده لتحقق مصالحهم الخاصة فقط بل يسعى كل فرد لخير نفسه وغيره، فعند عجز فرد منه يعينه البقية لأن في ذلك خير لهم وله وهذا هو حق الولاية، فنجد في كتاب الله (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ويصدقه من السنة المشرفة حديث (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)،وهنا يتميز الإسلام عن غيره من المذاهب الفكرية والحركات الاجتماعية في دعوته لتحقيق العدالة الاجتماعية كحاجة جماعية تضمن سلم ورخاء المجموع لا حاجة تخص كل فرد على حدة.

وإن كان الإسلام فرض على المجتمع واجب التكافل لتحقيق العدالة فيما بينهم، فإنه من باب أولى دعا إلى العدالة في توزيع الثروات التي ترجع في أصلها لملكية المجتمع ككل، وأن لكل فرد نصيبا مكافئا لغيره فيها، ولذلك لا يجوز التمييز بين الأفراد في نيل الحقوق على أسس غير المواطنة فيستوي الجميع في تحصيلها حسب الشرائط الموضوعية التي يمكن أن توضع لتنظيم الاستحقاق ولا يمكن أن يتقدم لنيلها من لا يملك تلك الشرائط ولا يتخلف عن نيلها من ملكها، لذا جاء الأمر الإلهي في هذا الباب مبينا أسس التوزيع العادل للثروات قوله سبحانه: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)، لذلك كان من الخطر على سلم المجتمع وأمنه أن لا يعمل بالعدل في هذا الجانب، وأن تتفشى المحسوبية والرشى والشفاعة السيئة التي تعرف عند العامة بالواسطة في تقديم من لا يستحق في نيل وظيفة أو قطعة أرض أو أي حق ليس له حق فيه ويترك أصحاب الحقوق ينظرون بحسرة ذهاب حقوقهم، فهذا عاقبته وخيمة على المجتمع بأسره، فالله سبحانه وتعالى ضرب لنا مثلا بسبأ عندما رأى أغنياؤهم قدرة فقرائهم على السفر السهل للتجارة فحسدوهم في رزقهم فدعوا الله أن يبعد عليهم السفر ظلما وعدوانا فكانت العاقبة على الجميع، فقال سبحانه وتعالى (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ۖ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ).

إن السعي لتحقيق العدالة لجميع أفراد المجتمع حقيق أن يحقق النماء والرخاء للدول، وأن يكون التفاضل بين الأفراد بما يبذلون من جهد وما يحوزون من فضل لا بما ولدوا فيه من لون أو عرق أو جنس، كما ورد في الحديث (ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم).. فالناس سواسية كأسنان المشط.