الملف السياسي

الذكاء الصناعي وشراكة السياسة الدولية

18 فبراير 2019
18 فبراير 2019

إميل أمين -

كاتب مصري -

على هامش إعلان الرئيس ترامب الأخير الخاص بالذكاء وما حوله، جرت تعليقات عديدة من شركات وخبراء في مجال الصناعات التكنولوجية العقلية، وتساؤلات كلها مثيرة للقلق حول المخاوف الأخلاقية بشأن التحكم والخصوصية وأمن الإنترنت، وببساطة العبارة يمكن القول: إن نشوء وارتقاء مثل هذا النوع من الذكاءات سيقلل ويقلص مساحات الخصوصية التي كانت قائمة من قبل، ويعطي الميزة للآلة على الإنسان.

قبل بضعة أيام كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوقع أمراً تنفيذياً ينص على تخصيص مزيد من الموارد والاستثمارات من قبل الوكالات الاتحادية لدعم البحوث والتدريب في مجال تكنولوجيا الذكاء الصناعي، وبموجب المبادرة الأمريكية للذكاء الصناعي، فإن الإدارة الأمريكية الحالية ستوجه الوكالات لمنح الأولوية للاستثمار في الأبحاث وجهود التطوير الخاصة بالذكاء الصناعي، وزيادة إمكانية الحصول على البيانات الاتحادية والنماذج المطلوبة لهذه الأبحاث، وإعداد الموظفين للتكيف مع عصور الذكاء الصناعي.

ولعل السؤال الأولي الواجب طرحه: «ما الذي تهدف إليه الولايات المتحدة من وراء مثل ذلك القرار؟».

الجواب يعود بنا إلى فهم عقلية الرئيس ترامب ووعوده للشعب الأمريكي منذ زمن حملته الانتخابية بداية، فالرجل قد وعد بأن يضحي الأمريكيون وهم رقم واحد حول العالم، وأن تعود أمريكا لتتسيد الجميع مرة جديدة. في هذا السياق تهدف المبادرة إلى ضمان تفوق الولايات المتحدة في أبحاث وتطوير الذكاء الصناعي والمجالات المرتبطة به، مثل الصناعات المتقدمة والحوسبة الكمية.

هل باتت قضية الذكاء الصناعي مرتبطة بالسياسات الداخلية للدول الكبرى قبل غيرها، بمعنى أنها باتت شريكا في عملية رسم آفاق المستقبل السياسية للأمم والشعوب؟

في خطابه عن حالة الاتحاد الأسبوعي الماضيين كان الرئيس ترامب يبدي استعداداً واضحاً لتهيئة الأرضية الداخلية الأمريكية للعمل مع المشرعين لضخ استثمارات جديدة ومهمة في البنية التحتية للدولة، وبما في ذلك الاستثمار في الصناعات المستخدمة في المستقبل، ووصف ذلك بأنه ضرورة.

والشاهد أن الذكاء الصناعي شيء يمس كل جانب من جوانب حياة الناس، وهذا ما تحاول المبادرة الأمريكية الأخيرة القيام به، أي جمع كل هؤلاء تحت مظلة واحدة وإظهار كيف هي واعدة هذه التكنولوجيا للشعب الأمريكي.

لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية فقط هي المهمومة أو المحمومة بمسألة الذكاء الاصطناعي، بل بقية دول العالم، حيث باتت هذه التكنولوجيا بما لها وما عليها قاسما أعظم مشتركا في رسم سياسات الكثير من الدول....

ماذا عن هذا الذكاء بداية؟

أقرب مفهوم يقدم لنا تعبيراً مختصراً: إنه العمل الذي تقوم به الآلات، وفي مقدمته أجهزة الكمبيوتر، ولا شك عوضاً عن البشر، ما يعني أنه عند لحظة بعينها يمكن للآلة أن تفكر وتخطط وتصل إلى قرار وتنفذ بدلاً من الإنسان، وهي قضية مثيرة للجدل، وبخاصة حال تجاوز الملكات الفكرية لهذه الآلات مقدرة الإنسان نفسه.

وفي كل الأحوال لا يمكن القول: إن الذكاء الاصطناعي مجرد رؤية مستقبلية، ولكنه بالأحرى شيء موجود في عالمنا اليوم، حيث يدمج ويستخدم في مجموعة متنوعة من القطاعات، تبدأ من قطاع المال والأعمال والأمن القومي والرعاية الصحية، ويصل إلى العدالة الجنائية والنقل والمدن الذكية، وهناك العديد من الأمثلة التي يؤثر فيها الذكاء الاصطناعي بالفعل على العالم، ويعزز القدرات البشرية بطرق ملموسة.

والشاهد أنه بسبب تفاعل قضية الذكاء الاصطناعي مع الواقع العالمي السياسي، فقد صدر في أواخر شهر أكتوبر الماضي تقرير عن مؤسسة «تشا ثام هاوس» في لندن، شارك فيه عدد من المتخصصين من أجل استشراف مستقبل الأمر، وقد جاء عنوان التقرير: «الذكاء الاصطناعي والشؤون الدولية: الاضطراب المنتظر»، وفي محاولات جادة لقياس التأثيرات والتجاذبات التي ستنشأ من وراء نشوء وارتقاء الذكاء الاصطناعي، ولا نغالي إن قلنا إن الثورات التي يمكن له أن يفجرها، في سياقات ومسارات السياسة الدولية، سواء كان ذلك في الأجل القصير أو المتوسط، إلى جانب الانطباعات السلبية أو الإيجابية التي سيخلفها على أحوال الأمن العالمي، وخاصة في أطر مثل الشؤون العسكرية، والأمن الاقتصادي والإنساني.

السؤال الأول الطبيعي والمنطقي الذي يراود عقل الباحث والقارئ للتقرير: «هل سيكون الذكاء الاصطناعي عاملاً محفزاً للجنس البشري من أجل حياة أكثر يسراً وسهولة، أم أنه عند نقطة زمنية معينة يمكن له أن يقوم بعملية إزاحة مرة وإلى الأبد للإنسان، كما رأينا في فيلم (IT) للممثل الأمريكي العالمي «ويل سميث»، وذلك حين استولت الآلات على مقدرات الجنس البشري؟

من الواضح أن المسالة معقدة للغاية، غير أنه وفي كل الأحوال وحتى الساعة لا يمكن تصور أن تحل الروبوتات محل العقول البشرية في صنع القرار في المدى القصير، غير أن المخاوف يمكن أن تنتاب الإنسانية من جراء الاعتماد المتزايد على الآلة، وهي التي باتت تلعب دور المعاون لصانعي القرار في اتخاذ القرارات بطريقة سريعة وفعالة.

وفي كل الأحوال تكمن الميزة النسبية لأدوات الذكاء الصناعي في قدرتها على هيكلة عدد كبير من البيانات، والاحتفاظ بها بصورة تفوق العقل البشري، إلا أنه قد يصاب بالخلل في حالة وجود شئ غير مألوف عما تمت برمجته عليه على عكس العقل البشري، لذا فكل منهما يعمل كمتمم للآخر.

على أن هذا لا يمنع من الإشارة إلى المزايا التي يمتلكها هذا النوع من الاقتصاديات، فهو يقدم مساعدة كبيرة لصانع القرار؛ لأنه يوفر له قدرة فائقة على تحليل أي حجم من المعلومات في وقت قصير بدقة كبيرة، ما يعني فهمه لها بشكل أعمق وأشمل، ولأنه يتيح له قدرة كبيرة على التعرف على الأفكار والتوجهات الشعبية، وتحليلها وتوقع مساراتها من خلال تحليل نشاطات الناس في وسائل التواصل الاجتماعي، أو محركات البحث على الإنترنت، أو حتى هواياتهم، وطرق حياتهم.

وفي السياق ذاته يمكن يمكن القول: إن الذكاء الاصطناعي يعد نعمة كبرى بالنسبة للقادة والمسؤولين حول العالم؛ ذلك لأن التكنولوجيا المتقدمة، تمكنهم من الرؤى والقراءات الاستراقية، وتتيح لهم متابعة ومراقبة سير العمل، واكتشاف الأخطاء ومعالجتها بدقة وسرعة كبيرتين، لا تتيحهما الآليات التقليدية المتبعة في هذا المجال، مثل الاجتماعات الدورية أو الزيارات الميدانية أو غيرها.

لكن الذكاء الاصطناعي يوماً تلو الأخير يغير أيضاً من المساقات التقليدية للسياسة الدولية، بمعنى أن شركات التكنولوجيا صاحبة تلك الآليات الاصطناعية المتقدمة، باتت شريك في عملية صناعة القرار على كافة المستويات، ففي عالم باتت المادة الخام فيه هي المعلومات وليس الموارد الطبيعية، سوف تتغير طبيعة عملية اتخاذ القرار السياسي، وسيفوز من لديه مقدرة على قراءة توجهات الجماهير، في عصر الجماهير الغفيرة كما يقال، هنا سيصبح ملاك تلك المعلومات الاقتصادية والسياسية، الأمنية والاجتماعية، سادة العالم الجدد، وستكون لديهم سطوة كبرى في التدخل في الشؤون العامة للدول والأفراد على حد سواء، سواء كانت شركات وطنية أو خارجية ... هل هذا الكلام يحمل آثاراً سلبية بنوع ما؟

بلا شك ذلك كذلك؛ لأن التأثير الخارجي لشركات الذكاء الاصطناعي، سوف يتماس ولا شك مع قضايا السيادة والمصلحة الوطنية، خاصة إذا تحولت تلك الشركات إلى أدوات في أيدي الدول التي تنتمي إليها لممارسة تأثير في سياسات الدول الأخرى وقرارتها أكبر بكثير من التأثير الذي مارسته وتمارسه الشركات. هل تذكرنا السطور السابقة بتجربة مريرة عانت منها منطقتنا العربية في السنوات الثماني المنصرمة، تلك التي عرفت بسنوات الربيع العربي المغشوش الذي لم يكن ربيعاً ولا عربياً بل شتاء أصوليا قارس البرودة؟

يذكر جميعنا أن هناك كارثة حدثت بالفعل من جراء استخدام وسائط التواصل الاجتماعي التي هي بدورها أدوات طوع أمر الآخر الذي لا تهمه مصلحة البلاد ولا العباد، وقد كانت محركات بحث بعينها لها شهرة عالمية أداة من أدوات الاضطراب العالمي، ولهذا لم يكن مثيراً أو غريباً ما جرى في روسيا الاتحادية الأيام القليلة الماضية، ونعني به قطع خطوط الإنترنت عن داخل روسيا دفعة واحدة، أي الانعزال عن السياقات العالمية، من أجل تقييم احتمالات المفاجآت أو الأزمات التي يمكن أن تجري بها المقادير سلباً أوإيجاباً مرة أخرى، حال انفصال روسيا عن العالم الخارجي، أو قيام حرب عالمية إلكترونية، يستخدم فيها حلف الناتو بدرجة خاصة التكنولوجيا المتقدمة في إطار عمليات هجومية غير مسبوقة.

في هذا السياق لا بد لنا من الإشارة إلى أحد أوجه الذكاء الاصطناعي، وهو وجه سلبي ولا شك، ذلك أن البقاء فيه للأقوى عقلياً، والأمهر تكنولوجياً، فعلى سبيل المثال إذا استطاع الناتو التحكم في الأقمار الاصطناعية الروسية أو الصينية الموجهة للطائرات، فإن كوارث جوية قد تحدث للبشر.

وبالقدر نفسه إذا استطاع جماعة من الهاكرز الروس الولوج إلى داخل المحطات النووية الأمريكية عبر الفضاء السيبراني، فإن ذلك يضمن لهم تدمير الولايات المتحدة من الداخل من دون إطلاق رصاصة واحدة، وبالقدر نفسه حال تسريب فيروسات إلى داخل الترسانات النووية لأي قوى عظمى.

ولعل لسؤال الذي شاغل وشاغب عقول الكثيرين في السنوات الأخيرة بشأن الذكاء الاصطناعي: «هل من علاقة بينه وبين ظاهرة الإرهاب العالمية؟

في تقرير صدر في شهر نوفمبر المنصرم عن «معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية الفرنسي» نجد تصريحات لرجل التكنولوجيا والفضاء الأول في عالمنا المعاصر «إيلون ماسك» الذي أعرب عن قلقه من إمكانية استخدام الذكاء الاصطناعي من قبل الإرهابيين حول العالم، ومشيراً إلى نيته تأسيس معهد لدراسات متخصصة في هذا المجال من أجل تطويره لصالح البشرية، وليس ضدها.

لقد مثل الذكاء الاصطناعي عاملاً داعماً لصانع القرار السياسي على المستوى المعلوماتي، ولكن على الصعيد الآخر وضع عبئاً أمنياً وعسكرياً كبيراً على وزارات الدفاع، وأجهزة الاستخبارات حول العالم، فعلى سبيل المثال بات العالم يعاني مؤخراً من الطائرات المسيرة بدون طيار Drones، وتتبدى خطورة هذه النوعية من الطائرات في قدرتها على حمل قنابل أو متفجرات خفيفة بداية، ولكنها في نهاية المشهد قد تفلح في تقديم خرائط جغرافية، وتصوير مواقع ومواضع لعمليات إرهابية قادمة، وبات السؤال: ماذا حال دون تحميل تلك الطائرات عبوات ولو صغير من أسلحة أو غازات غير تقليدية؟ وما الدمار الهائل الذي يمكن لها أن تحدثه؟

مرة أخرى تطفو على السطح السيناريوهات الظلامية الطويلة والمحددة، فمنها ما يتصل بقدرات القراصنة على اختراق الشبكات الخاصة بالبنية التحتية للدول من شبكات مياه، أو كهرباء، جسور، مطارات، وقد تساءل بعضهم مؤخراً: «ماذا لو وجد الإرهابيون من داعش تحديداً طريقاً لاقتحام بعض برامج الأقمار الاصطناعية التي تقوم على مساعدة الطيران المدني في الأجواء الدولية، وتالياً التحكم في مسارات تلك الطائرات وتوجيهها إلى حيث يريدون، فهل سنشهد ساعتها أيام أخرى من قبيل الحادي عشر من سبتمبر 2001؟

على هامش إعلان الرئيس ترامب الأخير الخاصة بالذكاء وما حوله، جرت تعليقات عديدة من شركات وخبراء في مجال الصناعات التكنولوجية العقلية، وتساؤلات كلها مثيرة للقلق حول المخاوف الأخلاقية بشأن التحكم والخصوصية وأمن الإنترنت، وببساطة العبارة يمكن القول: إن نشوء وارتقاء مثل هذا النوع من الذكاءات سيقلل ويقلص مساحات الخصوصية التي كانت قائمة من قبل، ويعطي الميزة للآلة على الإنسان.

أخيراً يبقى التساؤل المصيري والمهم بل الأهم: «هل الذكاء الاصطناعي يمكن أن يولد ثورات في وسط جموع جماهير العمال بنوع خاص؟

يحتاج الجواب إلى مقال قائم بذاته، ولكن باختصار غير مخل نشير إلى أنه من اليسير جداً حدوث ذلك، وأما السبب فيعود إلى أن تلك الآلات سوف تؤدي إلى الاستغناء عن العنصر البشري في المصانع والحقول، وسيؤدي أيضاً إلى تفاقم الفجوات الطبقية والمعرفية والمالية بين البشر، مما سيدعو البروليتاريا العالمية للعودة مرة جديدة، ومحاولة القضاء على أي بقايا للبرجوازيات المعاصرة.

الخلاصة ... قضية الذكاء الاصطناعي إحدى أهم القضايا التي ستشكل معالم وملامح العالم في العقود القادمة طوعاً أو كرها.