أفكار وآراء

العلاقات.. في تضادها وتوافقاتها

17 فبراير 2019
17 فبراير 2019

أحمد بن سالم الفلاحي -

لعل علاقتنا بالأمكنة من أجمل العلاقات القائمة بين الإنسان وذاته، حيث تظل أقربها مودة، لأن معناها علاقاتنا: بالوطن، وبالقرية، وبالحارة، فهي مساحة متسعة من الحوار مع الذات

تتعدد العلاقات القائمة بين بني البشر، في مفاهيمها، وفي أنواعها، وفي مآلاتها، وفي غاياتها، وفي تقصيها لمختلف مجريات حياتنا اليومية، مع القريب ومع البعيد، حيث يندر أن لا تكون لأي كائن بشري علاقة ما، مع الآخر، مع المكان، مع الزمان، مع الحيوان، مع المفاهيم والمعاني والدلالات، مع الأسماء، حيث لا يتناهى- مفهوم العلاقات- بعيدا عن جميع تفاصيل حياتنا اليومية، منذ بدء الفهم بحقيقة الحياة من حولنا، ولعل أول علاقة تقوم، هي تلك العلاقة القائمة بين الطفل وأمه كأول محطة في مفهوم العلاقة الإنسانية، والتي تصنف وفق مفهوم العلاقات الأبوية.

يذهب المفهوم من هذا كله الى تكوين روابط مختلفة: مادية ومعنوية، ومن خلال هذه الروابط يبدأ نسيج هذه العلاقات في التكّون، والتطور، والتنوع، والنمو، والاستمرار؛ إن توفرت في بعضها معززات لهذه العلاقة أو تلك، وإلا توقفت عن نقطة خلاف ما، أو انتهاء مصلحة ما؛ فمن معايشة الواقع لا توجد علاقة سرمدية أزلية، إلا العلاقات القائمة في الكون، وهي العلاقة التي أنشأها رب العباد لتقوم بدورها تعزيزا للكائنات الحية في هذا الوجود: الشمس، القمر، الأنهار، البحار، السموات، والأرض، وحاجات كل الكائنات الحية بها، أما بخلاف ذلك فكل علاقة قائمة مآلها الزوال، وحتى للذين يراهنون على بقاء العلاقات الأسرية؛ وعلى وجه الخصوص، بين الرجل والمرأة في «مملكة الزواج» وينظر الى العلاقات الزوجية على أنها أطول العلاقات وأقربها الى الصدق، وأنقاها من المجسات النفسية المعروفة لدى البشر، فإنها تغلق بابها مع رحيل أحدهما من هذه الحياة، أو بالطلاق، وإن بقت آثارها مستمرة، كحال وجود الأبناء الذين أنجباهما طوال فترة بقائهما في العلاقة الزوجية، طالت هذه العلاقة أو قصرت، أما غير ذلك، فيستحيل؛ منطقيا؛ أن تبقى كل العلاقات على اختلافها وتعددها وتنوعها متى انتفت المصلحة، ولا حتى ثلث الفترة الزمنية المتوقعة لبقاء علاقات أخرى بين أطراف مختلفة.

ولعل ما يذهب الى تثمين العلاقات الاجتماعية بشكل خاص، لأنها الوحيدة، ربما القادرة على كسب معركة البقاء، فكل المجتمعات الإنسانية تعيش علاقاتها الخاصة المحدودة بفتراتها الزمنية، والمحددة بأهدافها المعروفة، تطول فيها الفترة الزمنية، أو تقصر، ولكنها، أي «الاجتماعية» تبقى الأدوم؛ قياسا؛ بمختلف العلاقات القائمة بين البشر، فهناك مجتمع، وهناك أسر مكونة لهذا المجتمع، وهنا علاقات وشائجية ممتدة بين هذه الأسر من القربى والنسب، وهي التي امتدحها الله سبحانه وتعالى، وأعلى قيمتها: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)- سورة الحجرات- ومنها تتفرع بقية العلاقات القائمة اليوم بين بني البشر، ولذلك ينظر الى العلاقات الاجتماعية على أنها أم العلاقات بلا منازع، والقادرة على بقاء الجنس البشري واستمرار نموه، وتصدره للمشهد.

تعد العلاقات الاقتصادية من العلاقات القديمة القائمة بين البشر، ولعلها تأتي في المرتبة الثانية بعد العلاقات الاجتماعية، من حيث الأهمية، فهي على تماس مباشر بالعلاقات الاجتماعية، ولو أنها قائمة على مبدأ الربح والخسارة، ولذلك تحتكم كثيرا على مبدأ السوق، ولا تقف كثيرا على المبدأ الاجتماعي المتميز بالتضحية، والتنازل، فهذا النوع من العلاقات يتقاطع مباشرة مع المكون الاجتماعي، سواء أكان تقاطعا منطلقه الحاجة الضرورية «توفير الضروريات» للناس كافة، أو تقاطعا منطلقه المصلحة الخاصة «الشخصية» ففي جميع محطاتنا اليومية تتداخل وشائج العلاقات الاقتصادية بين الناس لتسيير مختلف أنشطتهم في هذه الحياة، ومجموعة الناس متوافقون مع هذه العلاقات، ويعدونها مهمة وضرورية، ووفق السياق ذاته تأتي العلاقات الثقافية، والعلاقات السياسية، والعلاقات مع المكونات الأخرى في الحياة، كالحيوانات، والأمكنة، والبيئة، فمع كل هذه المسميات، والمفاهيم الأخرى هناك محطة تقتضي التوقف عندها، والحديث عنها، فالعلاقات السياسية- على سبيل المثال- ينظر إليها بالكثير من الاهتمام لأنها تتعانق مع الآخر البعيد؛ في أغلب الأحيان؛ والمكون السياسي في هذه العلاقات، على الرغم من تعقيداته وإشكالياته المختلفة، إلا أن فحوى العلاقة في هذا الجانب تبقى ضرورة زمانية ومكانية لتبادل الكثير من المصالح بين الناس، وهي علاقات تتداخل فيها مختلف الأنواع من العلاقات الأخرى: الاجتماعية والثقافية الاقتصادية، فهي علاقات تشابكية الى حد كبير، ولا يفك تشابكها إلا نوعية الهدف المتوخى تحقيقه من هذه إقامة هذه العلاقات، وتعد العلاقات السياسية من أخطر العلاقات حساسية، وهي مرتهنة كثيرا على العلاقات الاقتصادية، وعلى علاقات المصلحة الخاصة لكل دولة، وهي وإن تداخلت فيها العلاقات الاجتماعية إلا أنها تظل حالة تكميلية وليست رئيسية، ولذلك فعندما يقيم الآخر أن مستوى المصلحة يكاد يكون ضعيفا، أو غير قابل للنمو، فإنه وبكل بساطة يعلن انسحابه من وسط المشهد، وهو الانسحاب القائم على ضعف التواصل والتكامل بالصورة المرجوة.

لعل علاقتنا بالأمكنة من أجمل العلاقات القائمة بين الإنسان وذاته، حيث تظل أقربها مودة، لأن معناها علاقاتنا: بالوطن، وبالقرية، وبالحارة، فهي مساحة متسعة من الحوار مع الذات أكثرها، فالأمكنة لها خصوصية الوجدان أكثر من غيرها، فحتى إذا أجبرتك إحدى العلاقات على النأي بعيدا عن الأمكنة التي عقدت معها صفقة من الود، فإن ذلك لن ينسيك المكان، وستظل تحمله بين حنانيك أينما ذهبت وارتحلت، ففيه ذكرياتك، ومن تعز من ذويك، وأصدقائك، حيث تسجل الأمكنة خطواتك الأولى نحو الحياة، ولعلنا هنا نستحضر قول الشاعر المعروف قيس بن الملوح وهو يقول:

«أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدار

وما حب الديار سكن قلبي ولكن حب من سكن الديار»

ولو أننا نختلف معه في المعنى الواسع لـ «وما حب الديار سكن قلبي» ونقف معه في تجريدية النص فقط، فالأمكنة تمارس غواياتها علينا، ونحن نتقبل منها ذلك لمكانتها الغالية والعزيزة علينا ولا نرى عنها بديلا، وإن كان مصطنعا.

تستمد العلاقات التنظيمية الحديثة؛ وفق مشروع (العلاقات العامة) في المؤسسات؛ مفهومها الواسع من كل هذه العلاقات التشابكية، سواء العلاقات الاجتماعية، أو الاقتصادية، أو السياسية، أو الثقافية، ولذلك هي مخضبة بمختلف هذه المفاهيم كلها، فكل المؤسسات على تنوعها ترى في العلاقات العامة خارطة الطريق التي توصلها الى الآخر، من خلال مجموعة الرسائل التي تود إيصالها الى هذا الآخر، ومفهوم العلاقات العامة ليس خاضعا فقط لمحتوى مؤسسة ما، وإنما يمكن إسقاطه حتى على علاقاتنا الاجتماعية الخاصة، فكلنا محتاجون لأن نمارس العلاقات العامة في علاقاتنا مع الآخر.

واختم هنا بمجموعة من النقاط، أطرح من خلالها مجموعة من الأسئلة، وهي: ما أثر الأعراف الاجتماعية في بقاء العلاقات بشكل عام، ومدى حضور القانون الحديث في تعزيز بعض جوانب العلاقات، كالعلاقات القائمة في بيئة العمل؟

وما هي الرؤية المتاحة عند الفرد للنظر الى مجمل العلاقات التي يقيمها مع الآخر، على أنها علاقة غائية أو أنها وسيلة فقط للوصول الى ما هو أسما وأبعد في تطوراتها الفنية؟

وما هو الدور الذي تقوم به مجموعة الوشائج، أو المشتركات المتبادلة للبقاء على ديمومة العلاقات القائمة في أي نوع من العلاقات القائمة بين البشر؟

والى أي حد نستطيع أن نحرر أنفسنا في مستويات ديمومة العلاقات التي تربطنا مع الآخر، والنأي بها من مظان الخاص، والدفع بها الى المساحة العامة، لكي نحافظ على بقائها نقية صادقة، بعيدا عن تجاذبات الذات؟ وما مدى حضور «المقابل» في مفهوم العلاقات، وخاصة العلاقات الاجتماعية، القائمة؛ أصلا؛ على التضحية؟

وفي كل هذه الأسئلة المطروحة ستبقى الإجابة عنها نسبية، كما هو الحال دائما في كل العلاقات، حيث يصعب البقاء على النسب المطلقة في كل شيء، فمهما بلغ الإنسان من مبلغ الحكمة، والتعقل، واحتساب كل انشغالاته في الحياة بالدقة المتناهية، فإنه يظل هناك شيء ما يذهب به إلى النقص، للطبيعة البشرية، التي يستحيل معها البقاء المطلق في كل مناحي حياتها اليومية، ولكن مع ذلك كله علينا أن نكون أمناء في مختلف علاقاتنا، وتعهداتنا مع الآخر، فالصدق يبقى منجاة مهما كلف من مشقة، ويقينا؛ أن أسعد العلاقات وأنقاها وأكرمها وأبقاها هي تلك العلاقات المخصبة بالصدق، وبالأمانة حتى في أقل صورها، وأضعفها.