أفكار وآراء

بريطانيا وأوروبا.. واللعب الخطير على المكشوف

30 يناير 2019
30 يناير 2019

رشا عبدالوهاب -

بين الشد والجذب حول موعد خروج بريطانيا، وما هي التغييرات التي ستطرأ على الاتفاق أم ستضطر لندن للخروج بدون اتفاق، فإن أوروبا تسعى لرأب تصدعاتها، في ظل التحديات الضخمة التي تواجهها بداية من تصاعد المد الشعبوي إلى الهجرة إلى الحروب التجارية واختلال التحالف مع الولايات المتحدة.

تجلس أوروبا الآن في مقاعد الدرجة الأولى لمشاهدة مباراة ساخنة على الساحة السياسية البريطانية بين مؤيدي ورافضي اتفاق الانسحاب البريطاني من التكتل الموحد «البريكست»، وهي المباراة التي ستحدد مستقبل بريطانيا والقارة العجوز بأسرها.

وعلى الرغم من رفض الاتفاق، والسيناريوهات الضبابية لهذا الرفض، إلا أن أوروبا تنتظر بفارغ الصبر المباراة النهائية مع «المهزوم» تيريزا ماي رئيسة الوزراء البريطانية التي فشلت في إقناع حزبها وشركائها السياسيين وبالطبع المعارضة في اتفاقها حول إجراءات «الطلاق» بين لندن والاتحاد الأوروبي. الاتحاد الأوروبي رفع شعار «اتفاق أو لا اتفاق».. بعد حالة الانقلاب داخل مجلس العموم «البرلمان» البريطاني ضد اتفاق رئيسة الوزراء البريطانية. وعلى الرغم من هذا الموقف الرسمي الذي عبر عنه ميشيل بارنييه المفوض الأوروبي لشؤون البريكست، بعد هزيمة «الثلاثاء الأسود» لماي أمام «العموم»، إلا أنه ترك الباب مفتوحا أمام أن يتم «التوافق على حل آخر». ماي نجت من تصويت حجب الثقة، إلا أن بريطانيا أصبحت عالقة بدون رؤية واضحة في مساعيها إلى مغادرة التكتل، الذي يعيش أسوأ كوابيسه أيضا في حالة خروج ثاني أكبر اقتصادياته. وتختلف حكومات الدول الأعضاء في الاتحاد حول الإطار الزمني الذي يتوجب السماح به لبريطانيا ببدء عملية الخروج من التكتل، والمقررة في 29 مارس المقبل.

عملية البريكست مربكة وفوضوية، والخوف الأكبر لدى الأوروبيين أن يكون هناك عملية خروج غير منظم، لذلك تتواصل دعواتهم للندن إلى وضع خطة واضحة للانفصال، خصوصا أن رفض اتفاق البريكست غذى الإحساس في القارة العجوز بأنه سيتم تأجيل الموعد النهائي للخروج، إذا كان ذلك سيمنح الجانبان وقتا إضافيا للاستعداد لحالة من الاضطرابات نتيجة رغبة ماي في بحث تعديلات على الاتفاق الذي توصلت إليه مع القادة الأوروبيين الشهر الماضي بشأن مسألة «شبكة الأمان» أو خطة «باك ستوب»، التي يفترض أن تجنب العودة إلى إقامة حدود فعلية بين الآيرلنديتين بعد «البريكست». وتمسك صانعو السياسة الأوروبيين بضرورة التوصل إلى اتفاق يحظى بإجماع، ورموا الكرة في ملعب النواب البريطانيين للخروج باقتراح، أي اقتراح، يمكنه أن ينتزع موافقة الأغلبية في الداخل، ويشكل أساسا للمحادثات المتواصلة مع بروكسل. وحتى هذه اللحظة، يبدو أن «ويستمنستر»، مقر البرلمان، غير قادر على تحقيق ذلك، مع موافقة أغلبية واضحة على سيناريوهات غير مقبولة، ومع عدم وجود أفق واضح للمستقبل.

وفي بروكسل، يرى الدبلوماسيون أن حجم الهزيمة يوضح أن ماي لديها مشكلات سياسية عويصة مع عملية البريكست، وهو ما يعنى أن أوروبا لديها القليل من النفوذ لممارسته من الخارج. أوضح ميشيل بارنييه المفوض الأوروبي لشؤون البريكست أمام البرلمان الأوروبي أن المفوضية الأوروبية ستكثف استعداداتها لخروج غير منظم قد يؤدي لاختلالات في أوروبا بأسرها.

وأشار بارنييه إلى أن احدى السبل للمضي قدما هو أن تقبل بريطانيا بالتزام أكبر بقواعد الاتحاد الأوروبي لضمان الحصول على علاقات تجارية وثيقة للغاية في المستقبل، وأنه «إذا اختارت بريطانيا السماح بتغيير خطوطها الحمراء في المستقبل، وإذا فعلت ذلك لتحقيق طموح تجاوز اتفاق بسيط وإن لم يكن هينا للتجارة الحرة، فإن الاتحاد الأوروبي سيكون مستعدا على الفور… للرد إيجابيا».

ويقول مسؤولون من الاتحاد الأوروبي إن بريطانيا يمكنها، على سبيل المثال، التخلي عن تصميمها على مغادرة الاتحاد الجمركي والسوق الموحدة.

لكن بارنييه وغيره أكدوا على مدى ما كشف عنه التصويت الذي أجري في لندن من انقسامات دون أن يلقي الضوء على موقف توافقي يمكن لبريطانيا بالفعل الالتفاف حوله قبل عشرة أسابيع فقط من الموعد المقرر لخروجها من التكتل وربما الدخول في مأزق قانوني يؤثر على المواطنين والشركات.

ودعا بعض النواب الأوروبيين ودول مثل ألمانيا وبريطانيا لإجراء استفتاء ثان على الخروج، بينما حذر دونالد توسك رئيس المجلس الأوروبي من أن الانقسامات في بريطانيا قد تقود إلى إلغاء البريكست.

ويرى المحللون أن المعارضة البريطانية الواسعة النطاق للاتفاق دليل على أن بروكسل ربما «أخطأت» في تقدير الدوافع التي سيكون لها صدى في بريطانيا خلال المفاوضات، وأنه يشبه «اللعب على المكشوف» أمام لاعب محترف، فالأوروبيون لم يهتموا بالتكاليف الاقتصادية للبريكست، لكن اهتموا بالسيادة فقط والحفاظ على التكتل الذي يضم 28 دولة حتى هذه اللحظة. مشكلات ماي تسببت في حالة انقسام أوروبي، ففي الوقت الذي ينتظر فيه البرلمان الأوروبي الإجراءات البريطانية للتصديق على اتفاق البريكست خلال أيام، يرى بعض النواب الأوروبيين ضرورة عدم تأجيل الخروج بسبب الصراع السياسي الداخلي في بريطانيا، على أن يتم ذلك خلال شهرين، ويمضي الاتحاد الأوروبي بعد ذلك قدما بحرية فيما يتعلق بجدول أعماله الخاص.

وكأكثر زعيمة أوروبية خبرة في مجال الحكم، وصفت ميركل العلاقة بين أوروبا وبريطانيا بأنها غير منظمة، وسخرت من أن البريطانيين يقولون دائما «نحن جزيرة، نريد المزيد من الاستقلال».

وبين الشد والجذب حول موعد خروج بريطانيا، وما هي التغييرات التي ستطرأ على الاتفاق أم ستضطر لندن للخروج بدون اتفاق، فإن أوروبا تسعى لرأب تصدعاتها، في ظل التحديات الضخمة التي تواجهها بداية من تصاعد المد الشعبوي إلى الهجرة إلى الحروب التجارية واختلال التحالف مع الولايات المتحدة بعد تولي إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وفي أحدث هذه المحاولات وقعت المستشار الألمانية تحديثا لاتفاقية الصداقة الألمانية الفرنسية مع سيد الإليزيه إيمانويل ماكرون في مدينة آخن لوضع بذرة الأساس لجيش أوروبي موحد، على الرغم من رفض واشنطن للفكرة من الأساس.

وتنص المعاهدة الجديدة على بند تضامن بين فرنسا وألمانيا في حالة تعرض أحدهما لعدوان، استكمالا لبند الدفاع المشترك في نظام الحلف الأطلنطي «الناتو»، وتلتزم الدولتان بتعميق التكامل الاقتصادي عبر تأسيس «المنطقة الاقتصادية الفرنسية-الألمانية»، وتطوير القدرات العسكرية لأوروبا، والاستثمار معا في «سد الثغرات في القدرات، وبالتالي تعزيز الاتحاد الأوروبي وحلف «الناتو»، وإمكانية نشر القوات العسكرية المشتركة فضلا عن إنشاء مجلس الدفاع والأمن الألماني الفرنسي. ماكرون اعتبر أن التحدي بالنسبة لأوروبا أن تصبح «حصنا» أمام الاضطرابات العظيمة في العالم».

ويرى هايكو ماس وزير الخارجية الألماني أن هذه الاتفاقية تمثل صيغة جديدة لأوروبا قادرة، وأن التعاون بين برلين وباريس مهم لمواجهة الشعبوية والخلافات التجارية والصراعات.

وفي هذه اللحظة، تقود بريطانيا العالم المتقدم إلى حافة الانهيار السياسي. وحتى الآن، فإن الموقف الأساسي للاتحاد الأوروبي يتمثل في أن البريكست أزمة، لكن بالنسبة للمملكة المتحدة، لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة لبقية القارة الأوروبية، وتلقى بروكسل اللوم على بريطانيا في صناعة المشكلة وسوء إدارتها، وأنه يجب عليها أن تتذوق المعاناة وتتحمل العواقب، فالبريكست «عار»، لكن هناك القليل الذي يمكن أن تفعله أوروبا، وفي النهاية فالمشكلة ليست مشكلتها.

الوضع الحالي، يعكس قيام الاتحاد الأوروبي بمفاوضات ذكية، على الرغم من أن النتيجة النهائية ليست واضحة حتى الآن. وكان من الممكن بمجرد أن يتم تفعيل المادة «50» من معاهدة لشبونة، أن يسمح الأوروبيون بمحادثات واسعة النطاق حول الشراكة بين التكتل ولندن من أجل الحفاظ على أكبر قدر ممكن من الاندماج الاقتصادي الذي حقق مزايا متبادلة ضخمة على مدار العقود السابقة، إلا أن الأوروبيين أصروا على انفصال صارم عبر بنود الانسحاب التي يجب تطبيقها أولا، وبدء الترتيبات على المدى الطويل، والتأثير الأبرز لهذه المناورة أن ماي ابتلعت الطعم وافقت على هذه الشروط. ويرى الكثيرون من مؤيدي البريكست أنه سيتم اعتبار هذا التاريخ دليلا على «فظاظة» الأوروبيين، لأنه في حالة الخروج الفعلي لبريطانيا، فأنه يجب عليها أن تعاني وسوف تعاني حتى تكون «عبرة» للدول الأخرى بألا يفكروا في القيام بخطوة مماثلة. طبق الاتحاد السوفييتي نفس المنطق الأساسي، وإن كان بشكل أقل دقة، على المجر في عام 1956.

وقد يؤدى تمديد المهلة الرسمية للبريكست إلى موجة من المشكلات السياسية واللوجيستية الإضافية بالنسبة للاتحاد الأوروبي. وفي حالة الموافقة على تأجيل البريكست، فإن ذلك يتعارض مع انتخابات البرلمان الأوروبي المقررة في الفترة بين 23 و16 مايو المقبل، وهي الهيئة المسؤولة عن الموافقة على السياسات الأوروبية مثل ميزانية الاتحاد. كبداية لمثل هذه الخطة، هناك أرضية مشتركة مهمة. تريد أوروبا الحفاظ على سوق واحد للسلع والخدمات والأشخاص. تصاعد الموجة الشعبوية بعد أزمة الديون السيادية في 2009، تثير القلق بين الأحزاب التقليدية حول ماذا سيكون شكل البرلمان الأوروبي المقبل. وهكذا فانه بعد صدمة أوروبا من موافقة البريطانيين على البريكست، إلا انها استعادت توازنها سريعا، وأصبح لها اليد العليا على بريطانيا العظمى. خسائر الخروج فادحة للجانبين من جميع الجوانب، إلا أن لندن ستكون الخاسر الأكبر خصوصا على الصعيدين الاقتصادي والأمني، كما أنها ستغيب في ظلمات المجهول للمرة الثانية بعد سقوط الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.