أفكار وآراء

عوامل نجاح الجمارك العمانية

26 يناير 2019
26 يناير 2019

آن بنت سعيد الكندية -
Twitter: @AnnAlkindi -


يثني الرأي العام على الخدمات الإلكترونية المقدمة من أجهزة شرطة عمان السلطانية ويعزو البعض أسباب هذا التميز إلى الانضباط العسكري وللقيادات، فما هي «عوامل نجاح» شرطة عمان السلطانية في تحولها النوعي في تقديم الخدمات الإلكترونية؟. إن المنهج العلمي الذي أتبعه للإفادة -قدر ما استطعت- مبني على التشخيص الميداني للواقع وإيجاد الحلول، أو عبر الدراسة الميدانية لعوامل نجاح تجربة أثبتت جدارتها ميدانيا وبشهادة من التقارير الدولية. تمكنت الإدارة العامة للجمارك من تحقيق حلم «الحكومة الإلكترونية» بربط ما يزيد عن 45 جهة حكومية معطية نموذجا لحكومة إلكترونية مصغرة. بدأ مشوار الرحلة بإقناع القيادات العليا بضرورة الارتقاء بالعمل الجمركي تعزيزا للأمن وتسهيلا للتجارة عبر الحدود بما يعزز النمو الاقتصادي الوطني. إن الإيمان العميق بضرورة التغيير ظهر جليا في إزاحة القيادة العامة العليا للشرطة لجميع العراقيل أمام مشروع الارتقاء الجمركي، وتخصيص ميزانية له إذ إن توفر المال أساس، وقبله يشترط توفر الإرادة فتلك مهمة قيادية بامتياز.
ليس هناك من أسرار في هذا المشروع الوطني سوى كلمة « وطني» فقد استشعرت قيادة الجمارك أنه بدون شراكة حقيقية مع القطاعين العام والخاص لن تتمكن من المضي قدما فهو ليس مشروعا للجمارك وحدها. لم تحقق الإدارة العامة للجمارك تحولا إلكترونيا فحسب إنما ارتقاء للمنظومة الجمركية كاملة حيث اشتمل نظام بيان على ثلاثة مكونات أساسية: نظام إداري جمركي متكامل، ونافذة إلكترونية موحدة تربط جميع شركاء الجمارك من جهات حكومية وشركات شحن وتخليص وبنوك تجارية والشركات المشغلة للمواني والمطارات، ونظام لإدارة المخاطر نُفذ تنفيذا ميدانيا لأول مرة في جهة خدمية حكومية بالسلطنة. مشروع «وطني» يعني أن تأخذ بأيدي الجهات الأخرى يدا بيد، فكم كان سهلا أن ترفع الإدارة العامة للجمارك يدها معتذرة أنها استكملت تحولها الإلكتروني، وهي ليست مسؤولة عمن تخلف عن الركب، فمن «عوامل النجاح» أخذ زمام المبادرة والبعد كل البعد عن إبداء الأعذار بل إحساس تام بحجم المسؤولية Ownership. هنا ظهرت مهارات فريق الجمارك في هندسة الإجراءات فربط الجهات الأخرى يتطلب رسما للإجراءات process mapping ، فالتحول الإلكتروني ليس تحويلا لما ما هو موجود. إن القيادات «الحقيقية» تبتعد عن الحلول السهلة ذات النتائج السطحية فلا تتهيب أبدا من صعود الجبال حتى لا تبقى أبد الدهر بين الحفر.
عرفانا لجهود وطنية مخلصة واصلت العمل ليلا بنهار، يشرفني أن أنشر مقالي متزامنا مع احتفال اليوم العالمي للجمارك علّني أستطيع إيصال رسالة أننا «قادرون» على الوصول بالسلطنة إلى مراتب تنافسية متقدمة. قضت الإدارة العامة للجمارك على وهم « تداخل الصلاحيات» عندما تبنت مبدأ الحوار والتناقش البناء - وهي أحد أهم «عوامل النجاح»- في دعوتها للجهات المعنية لحضور ورشة عمل لتحديد آلية للتعامل مع ثمانية آلاف بضاعة كان يُعتقد أن البضاعة الواحدة تدخل ضمن اختصاص أكثر من جهة معطية درسا جميلا في إمكانية تحقيق التناسق والتكامل في العمل الحكومي. إن التناسق والتكامل يظهر بين وحدات أجهزة الشرطة نفسها فهذا الارتقاء الجمركي تطلب دعما للمنظومة المالية الإلكترونية لتحصيل مبالغ كبيرة من الإدارة العامة للشؤون المالية في شرطة عمان السلطانية.
لا يمكن الحديث عن هذه النقلة النوعية بالمعنى الحرفي لها إلا بمعرفة كيف كان الوضع الجمركي السابق. فقد كان لي فرصة العمل في إعداد الاستراتيجية اللوجستية حيث زرت مخازن الشحن الجوي والمنافذ الجمركية في الموانئ ورأيت حجم المستندات المطلوبة وطوابير الانتظار إلى أن تمكنت الجمارك اليوم من تقليص فتح نشاط التخليص الجمركي من أسبوعين إلى 24 ساعة - على سبيل المثال وليس الحصر- مثبتة أنه لا مستحيل، وأن هناك طرقا للتغلب على المقاومة المرتبطة بشكل تلقائي بأي محاولة للتغيير. كانت أحد أهم «عوامل النجاح» تبني قيادة الجمارك أسلوب طرح بدائل الحلول الإيجابية فليس هناك أبيض أو أسود في شعارها، فقد تمكنت ولأول مرة على مستوى دول الخليج إن لم يكن الشرق الأوسط من توقيع اتفاقية تقديم خدمة (Service level Agreement) SLA مع الوحدات الحكومية بحيث تستطيع الجمارك بموجبها تخليص البضائع في خلال 24 ساعة أو بعض الحالات ساعتين «تلقائيا» إذ لم ترد الجهة المعنية خلال المدة المحددة مما أسهم بطبيعة الحال في سرعة إنجاز العمل، وبذلك لم تجد الجهات بدا من التجاوب مع رياح التغيير. الفكر القيادي لا يحوم ويزيد على المشكلة بل يكون جل تركيزه على الحلول. القيادة المنفذة تنتزع الصلاحيات لا تطلبها، فالصلاحيات ممنوحة في الأصل بالمراسيم السلطانية.
إيمان القيادة بضرورة تبني المنهج العلمي -وهي أحد «عوامل النجاح» بلا شك- أدى إلى تشخيص دقيق للواقع وتحديد الفجوة للارتقاء، ثم إعداد خطة استراتيجية واضحة الأهداف ومحددة بإطار زمني متبوعة بتقييم للأداء عبر مؤشرات قياس. ومن مبدأ إعطاء الخبز خبازه فقد أحسنت الإدارة العامة للجمارك اختيار شركة كريمسون لوجيك السنغافورية ( Crimson Logic) المتخصصة في تقديم الحلول الإلكترونية خاصة في مجال اللوجستيات كما جاء الاختيار مكملا للمعرفة الميدانية للفريق الجمركي العماني. ورجوعا إلى لغة الأرقام وبعد البدء الفعلي في مشروع بيان فقد قفزت إيرادات الرسوم الجمركية من 235 مليون ريال عماني في عام 2015 إلى 302 مليون في عام 2016 على الرغم من انخفاض الواردات السلعية في عام 2016 لتبلغ قيمتها 9 مليارات ريال مقارنة بـ 11 مليار في عام 2015.
كفاءة التحصيل الجمركي تقاس بانخفاض التكلفة وتقليص الوقت حيث تشير مؤشرات تقرير البنك الدولي إلى انخفاض التكلفة إلى أكثر من 100%، و إلى أكثر من نصف الوقت مقارنة ببلدان الشرق الأوسط و دول إفريقيا. كما أدى تطبيق نظام المخاطر إلى اختفاء الاجتهادات البشرية فيما يعرف سابقا بالتفتيش 100% وهي في الحقيقة مهمة خيالية التطبيق لتصل اليوم نسبة التفتيش إلى 12% فقط . فقد أصبح التفتيش انتقائيا مبنيا على معايير وأسس ومؤشرات أسهمت في تقليص الوقت بشكل كبير وحققت الأمن وهي إحدى المهام الرئيسية للجمارك. النتائج المحققة من إدارة المخاطر تمهد الطريق لنقل خبرة الجمارك إلى الجهات المرتبطة بها لضرورة إيجاد «إدارات للمخاطر» في هياكلها التنظيمية خاصة تلك المتعلقة بالإفساح عن البضائع وبالأخص «الغذائية» منها.
اعتدنا النظر إلى الخارج لدراسة التجارب الدولية على الرغم من اختلاف ظروفها ومعطياتها عنا، فلننظر هذه المرة للداخل لتجربة عمانية وطنية حية فرضت نفسها حيث ارتفع ترتيب السلطنة في تقرير البنك الدولي لسهولة ممارسة الأعمال الصادر لعام 2016 - حين بدأت النقلة النوعية للجمارك-7 مراتب مقارنة بترتيبها في عام 2015 مدفوعا بقفزة في معيار التجارة بين الحدود، وبذلك لم تعد الشماعة الأمنية حاضرة في نقاشات كيفية تحفيز النمو الاقتصادي، كما جاء ترتيب السلطنة الأولى خليجيا في نفس التقرير لعام 2019 في معيار التجارة عبر الحدود.
تعدت الإدارة العامة للجمارك التطوير الجمركي إلى الارتقاء بالمنظومة اللوجستية وأطلقت مبادرات يحاول فيها القطاع الخاص اللحاق بركبها منها التخليص المسبق حيث يتم تخليص المعاملات الجمركية قبل وصول الشحنات المنافذ الجمركية، والمخلص الجمركي الحر متيحة لأي مواطن عماني التقدم لهذه الوظيفة بعد أن يخضع لدورة تدريبية في مركز التدريب الجمركي. ويتجلى إسهام الجمارك في التطوير اللوجستي عبر إطلاق المستودعات الاستثمارية معلقة الضريبة الجمركية بحيث يعلق دفع الضرائب الجمركية التي يستوجب دفعها أثناء عملية الاستيراد ودخولها للسوق المحلي مما ينعش إعادة التصدير. حيث بلغ حجم إعادة التصدير في هيكل الصادرات السلعية للسلطنة 17 ٪ .
مازال لدى فريق الجمارك الكثير من المبادرات في بيئة عمل محفزة وقيادة منصتة تطبق مبدأ سياسة الباب المفتوح بمضمونه لا بشكلياته.
ختاما، هناك دروس مهمة عديدة يمكن الاستفادة من تجربة الجمارك العمانية الجديرة بالتوثيق والدراسة تمهيدا لتطبيقها إلا أن أحد أهم «عوامل النجاح» كانت في الإيمان التام لدى القيادات العليا بأهمية تأهيل الكادر البشري. أولت القيادة العليا العامة أهمية لبناء الخبرة «التراكمية» الجمركية لدى فريق عملها، وأهمية الحفاظ عليها فكانت قيادة الجمارك من المنظومة نفسها مما يعكس نجاحها في بناء القيادات. رأيت قيادات شابة «ممكنة» بمؤهلات علمية عالية مصقولة ميدانيا فلا يستطيع قائد المؤسسة مهما بلغت قدراته إحداث فرق دون انتقائه لفريق عمل قوي.