أفكار وآراء

التطرف المزدوج في أوروبا.. إلى أين؟

25 يناير 2019
25 يناير 2019

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

لعل في مقدمة الحقائق الرئيسية التي طفت على سطح الأحداث في السنوات القليلة الماضية بأوروبا، تلك المتصلة بأحوال التطرف والمتطرفين، سيما في ضوء العمليات الإرهابية المتعددة التي شهدتها دول أوروبية مختلفة، وعادة ما كان الدواعش وراءها، ولهذا فإن السؤال الذي طرحته مراكز البحث والدراسات الأوروبية المختلفة كان متصلا بكيفية انضمام عناصر أوروبية إلى هذا التنظيم الخطير، سواء أكانت عناصر من أصول عربية وإسلامية، أو من الأوروبيين المتحولين الذين اعتنقوا الإسلام، واستطاع التنظيم تجنيدهم فيما بعد.

من بين المراكز الأوروبية التي تناولت تلك الإشكالية مؤخرا جاء مركز دراسات الشرق الأوسط في باريس والذي اصدر مؤخرا كراسة استراتيجية مهمة للغاية للدكتور محمود عبد الله الكاتب والباحث المعروف وجاءت في نحو مائة صفحة تتناول عدة منطلقات في مقدمتها مناخ إنتاج الإرهاب، وأشكال الحركات المتطرفة في أوروبا، وكذا أنماط المتشددين الأوروبيين، إضافة إلى ما تواجه سياسات الدمج من عقبات، والطرق التي تؤدي إلى جذب وتجنيد العناصر الجديدة، من خلال بواعث انتماء تبدع فيها الآلة الإعلامية للتنظيم.

يلفت الدكتور عبد الله بداية الانتباه إلى أن انضمام عناصر أوروبية إلى تنظيم داعش، اصبح موضوعا مثيرا للنقاش، فالشائع هو انضمام عناصر عربية، ومن البلدان الإسلامية، إلى التنظيمات الإرهابية، لأسباب تتصل بالموقف من الدين، بينما إن تأملنا ظاهرة “الجهاد الإسلامي”، من جذورها لعلمنا وجود العناصر الأوروبية منذ البداية، وبالأدق منذ دخول المسلحين المسلمين الأراضي الروسية، دفاعا عن مسلمي الشيشان، حيث بدأ الخطاب الإنساني الدعائي من هذا النوع في البزوغ، متذرعا بالدفاع عن حقوق المسلمين في العيش آمنين، وهو ما دفع عناصر أوروبية للدخول والتعاطف مع الخطاب الموجه اليهم.

تحليل الدراسة يوضح أن هؤلاء الأوروبيين المنضمين إلى داعش يتمتعون بقدر كبير من اهتمام صانعي السياسات الأوروبية، مع تزايد أعداد الشباب الأوروبي المنضمين إلى التنظيم الإرهابي، وبشكل خاص من بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وفي الوقت ذاته، وجه التنظيم دفة هجماته ناحية الغرب، وهو ما دعا بريطانيا لرفع درجة الاستعداد إلى مستوى شديد الخطورة، فداعش يستهدف أوروبا، وليس كما هو متصور يتجه فقط نحو الدول التي عرفت ما اطلق عليه الربيع العربي، حيث قام بعدد من الهجمات.

ولعل ما يميز هذه الدراسة الثمينة بنوع خاص هو أنها تلقي بظلال معرفية عريضة على إشكالية أخرى لم يعد الكثيرون ينتبهون إليها وهم يسعون لتفكيك معضلة الإرهاب الداعشي والقاعدي في الداخل الأوروبي، وهي إشكالية اليمين الأوروبي المتطرف، فقد شهدت أوروبا الغربية بعض الحركات النشطة من اليمين المتطرف اكثر من أي منظمة أخرى في العالم، فخلال الحرب الباردة نشأت مجموعات تدعم الوضع القائم في بلدها وتدافع عن المصالح الوطنية، ومعظمها قامت كرد فعل على نجاحات الجماعات الثورية اليسارية فظهرت لمنعها، لأنها باتت مهددة للوضع السياسي القائم، وتلقت هذه الحركات اليمينية الدعم من قطاعات المجتمع، التي خافت على مكتسباتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أو لأن أوضاعهم الاجتماعية قد باتت مهددة بسبب الإصلاحات الحكومية أو التحريض الشيوعي عليهم، أو تدافع الهجرات.

في هذا الإطار يفتح المؤلف الباب واسعا لطرح علامة استفهام عند القارئ: “هل كان تيار اليمين الأوروبي المتطرف أداة دافعة لجماعات أخرى في الداخل الأوروبي للبحث عن مواقف حدية بدورها، تقود في نهاية المشهد إلى توليد إرهاب مضاد في الاتجاه، وهنا كانت جماعات الإسلام السياسي تتلقفها؟

هناك سمات تبينها الدراسة للمتطرفين اليمينيين الأوروبيين منها على سبيل المثال تعظيم صورة الذات، حيث يرى أنصار الحركات المتطرفة في انفسهم أهل النخبة المستنيرة، وان ما عداهم هم العوام والدهماء، إضافة إلى السمة المميزة للحركات المتطرفة تتبدى في تحقير صورة الخصم، ونزع الإنسانية عنه، واضف إلى ذلك أن المتطرف يرى فيما يفعله صراع الحق مع الباطل، الصالح مع الطالح، الخير مع الشر الأبيض مع الأسود، تلك الثنائيات واضحة أمام عين من يمارس الأفعال الإرهابية.

يمكن للمرء أن يتفهم في سياق الإرهاب الذي تعاني منه أوروبا وجود عناصر متحدرة من أصول عربية، وهم يمثلون في واقع الحال أعلى نسبة في الوقت الحاضر من الإرهابيين الذين ضربوا أوروبا، ويكاد علماء الاجتماع أن يجمعوا على أن سبب تطرفهم راجع إلى أزمة هوية حادة، حيث عليهم أن يختاروا بين الاندماج والذوبان في المجتمع المضيف، أو أن يظلوا مقيمين في الثقافة الأصلية التي تربى عليها آباؤهم، فإن اختار الواحد منهم الانحياز للثقافة الغربية، تغير مظهره في الملبس والمأكل وطريقة التفكير، وفي تغيير اسمه أو تحريفه، وفي عدم إيلاء أي اهتمام باللغة العربية، وابتعاد عن الجالية العربية.

أما من يختار الثقافة الأصلية فيفعل العكس، يقترب من الجالية، ويقيم صداقات منها، فيتشكل بناء على ذلك مجتمع هوياتي مستقل، له ثقافته الخاصة.

ورغم أن الدول الأوروبية أو غالبيتها تعتبر المولود على أراضيها له الحق في الجنسية، إلا أن التراث الثقافي عادة ما يحكم المشهد، فيضحى وجه المرء هو جنسيته، وبالتالي فإن الأسمر البشرة إفريقي أو من أصول عربية، لا يمكن الاعتداد به أوروبيا، حتى وان ولد على الأراضي الأوروبية.

ونظرا لأن هؤلاء يرفضون أن يقارنوا بالمهاجرين، ومزاولة مهن آبائهم، رغم محدودية تكوينهم الدراسي والمهني، فيجدون بناء على ذلك صعوبة في الحصول على عمل، فيظل موجودا بالحي الذي يعيش فيه لا يغادره، ويشكل مع غيره من الأقران تحالفا ضد “الغريب والعنصري”، ويتزايد عدد الأحياء التي يعيش فيها من هم على شاكلته، بحيث يتجاوز في فرنسا وحدها ثمانمائة حي.

هل هؤلاء عناصر وحواضن مرشحة لاختيار وانتقاء عناصر إرهابية من بينها بامتياز؟

مؤكد بالفعل أن ذلك كذلك لا سيما وان هذه الوضعية الإقصائية تدفع المتحدرين من أصول عربية إلى البحث عن هوية بديلة، يجدونها أحيانا في العمق الديني المتزمت تحديدا، أي رغبة في إبراز الخصوصية الثقافية، والتميز الثقافي، من خلال عدد من المظاهر اللافتة للعين الناظرة، مثل إطلاق اللحية، أو شكل اللباس.

وبسبب غياب سياسة دينية رشيدة وانتشار المساجد التي يخطب فيها المتطرفون، فيتشبعون على الفور بالفكر المتشدد، ويتوجه بعضهم إلى أفغانستان أو باكستان أو العراق أو سوريا، ما يعني زيادة أعدادهم يوما تلو الآخر.

على أن الطرف الآخر من الإرهابيين هو النوع المتحول، وقد بدأت أولى مراحل تحول الأوروبيين إلى الدين الإسلامي أواخر القرن الثامن عشر، وكان المتحولون من أبناء الطبقة الوسطى أو العليا، والإيمان بالإسلام في وقت الامبراطورية البريطانية كان يمثل نوعا من الشغف بالآخر.

أما المرحلة الثانية فهي التي تلت الستينات من القرن الماضي، ويبرر ذلك بأسباب متعددة: هجرة المسلمين بعد الحرب، ونشوء الحركات الاحتجاجية، وحركات الثقافة المضادة، حيث ظل الجيل الأول عازفا عن الانخراط في المجتمع، فقد تجنبوا الزواج المختلط من الأوروبيين، فيما تزوج الجيل الثاني والثالث من خارج جماعاتهم الدينية.

وتأتي المرحلة الأخيرة بعد سقوط الشيوعية أواخر الثمانينات من القرن العشرين، حيث كان ينظر للدين الإسلامي بعد الحرب العالمية الثانية باعتباره دين المتمردين، على انه يمكن تقسيم هؤلاء المتحولين الجدد بعد الثمانينات إلى اربع فئات: المسيسون الذين بهرتهم بلاغة الإسلام السياسي المضادة للإمبريالية، والمتحولون للإسلام بعدما مروا بأديان أخرى غيره، والمجرمون أصحاب السجل الجنائي ممن رأوا في الدين الجديد ملجأ لهم، وأبناء الجماعات الأقلية من الزنوج واللاتين ومختلطي الأعراق، الذين جذبهم في الإسلام نزعته الإنسانية، علاوة على بعض الماركسيين السابقين، كما في حال الفيلسوف الفرنسي “روجيه جارودي”.

يبين صاحب الدراسة أن آليات تطرف هؤلاء تتعدد، فأولها الشعور بالهامشية والاستبعاد، حيث تبين السير الذاتية لبعض المتطرفين ما تعرضوا له من ظروف، جعلتهم يشعرون بالرغبة في الانتقام والبحث عن بديل للتحقق الذاتي، ذلك أن “التمييز والإساءة يتسببان في الغضب، الذي يتحول إلى كراهية ورغبة في الرد والانتقام”.

ومن هذه الحالات الأرامل السود، اللاتي قمن بعمليات إرهابية في روسيا، انتقاما لاعتداء الأمن الروسي على أزواجهن، وحال “ريتشارد ريد” الفتى الأسمر الذي لم يجد جماعة مرجعية يجد ذاته فيها، ووجدها في انضمامه إلى الجماعات الإرهابية في أفغانستان.

وكذلك حال ديفيد سنكلير الموظف في شركة حاسب آلي، الذي تحول للإسلام وتعرض للطرد من عمله بسبب إسلامه، فسافر البوسنة للحرب ضد الصرب والكروات.

وقد يكون الدافع من زاوية ثانية هي تلبية الرغبة في الدفاع عن المسلمين الذين يتعرضون للاضطهاد حيث يستغل المروجون للجهاد صورة المسلمين المعذبين في الشيشان وفلسطين والبلقان.

ومن أمثلة هؤلاء ليونيل دامونت، وديفيد فالات، واريك بيننجر، الذين شاركوا في الشيشان، ردا على ما تعرضت له المسلمات من تعذيب واغتصاب وسجن.

هناك آلية أخرى تجعل الخطر الإرهابي في أوروبا مفتوحا على مصراعيه في قادم الأيام، وهي “الوقوع في المنحدر الزلق”، حيث يتحول الأوروبي إلى مسلم على ايدي أفراد من المتشددين، ثم يتدرج دوره من القيام بأعمال هامشية حتى الوصول إلى الأوضاع القيادية، مثل حالتي ديفيد كورتيللر، وإبراهيم جانكراسكي.

وتبقى هناك آلية رابعة هي الإرهاب العائلي والعلاقات الشخصية، حيث يتم اختيار الأعضاء من الأقارب هربا من المراقبة الأمنية.

ما الذي تفيد به الدراسة التي تطرقنا إلى القليل من الكثير الثمين الذي جاء بها؟

باختصار غير مخل ومن أسف، فإن أوروبا سوف تبقى إلى أجل غير مسمى عرضة للإرهاب، طالما فشلت قضايا الاندماج، وكلما تصاعد المد اليميني الأصولي على الجانبين، والأمر يحتاج إلى رؤى دولية وليس أوروبية فقط لإيجاد حلول شافية وافية .