أفكار وآراء

قواعد جديدة للتجارة بين الشركاء الإقليميين

16 يناير 2019
16 يناير 2019

مصباح قطب -

أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال مؤتمر صحفي مشترك بأنقرة مع الرئيس العراقي برهم صالح، الخميس قبل الماضي ، الاتجاه الى عقد الاجتماع الرابع للمجلس الاستراتيجي الأعلى بين العراق وتركيا خلال 2019، وأوضح أن التجارة بين البلدين سجّلت عام 2013 رقمًا قياسيًا هو 16 مليار دولار، مضيفا: «دعونا نعادل ذلك الرقم مجددًا ونرفعه إلى 20 مليار دولار». فهل يمكن أن يتحقق هذا الرقم بالفعل؟ ما هي محددات ودوافع وشروط كل طرف لتنمية التجارة البينية ؟ وكيف يؤثر التاريخ السياسي والاقتصادي لعلاقات الدولتين على مثل هذه الرغبة ؟ وما الجديد الذي يمكن أن يتغير في علاقتيهما على الأصعدة المختلفة في الفترة المقبلة في ضوء المتغيرات الدولية والإقليمية ؟ .

يشار في البداية الى أن زيارة تركيا تمت بدعوة من الرئيس رجب طيب أردوغان وأن الدستور العراقي يجعل منصب الرئيس رمزيا الى حد كبير لكن برهم أيضا رقم سياسي في المعادلة الكردية التي يبيت أردوغان ويصحو على الانشغال بها خاصة بعد أن طلبت منه الولايات المتحدة التعهد بألا يضرب أكراد سوريا بعد انسحاب الجيش الأمريكي ، ومعنى ما تقدم أن أردوغان له دوافع خاصة في طلب هذه الزيارة ، أمنية وعسكرية ، وأخرى ، وأن هناك أيضا ما يحفز برهم صالح في ظل تصاعد المنافسة السياسية في كردستان على كسب ود الأتراك بهذا الشكل أو ذاك ، بيد أن هذا التحليل يركز على الجوانب الاقتصادية للزيارة قبل غيرها ومن هنا نشير الى أن بيانات موقع التجارة العالمية ( اي تي سي ) والذي يستند الى إحصاءات الأمم المتحدة توضح أن واردات تركيا السلعية من العراق سجلت 286.5 مليون دولار في عام 2015 ، وبلغت 836 مليون دولار في 2016 ، و1.5 مليار دولار في 2017 ، في الوقت الذي بلغت فيه واردات تركيا من كل العالم في تلك السنوات 207 و 198.6 و233.8 مليار دولار في السنوات الثلاث على التوالي ، ما يعني ان نسبة الواردات التركية من العراق ضئيلة للغاية مقارنة باجمالي واردات تركيا من بقية العالم ، بل انها ضعيفة أيضا بمعيار صادرات العراق الى كل دول العالم والتي وصلت الى 54.6 و49.4 و69 مليار دولار في السنوات عينها . ولا تكتمل الصورة الا بالنظر اليها من الجانب الآخر الا هو جانب الصادرات التركية الى العراق وتلك قد ناهزت الـ 8.5 و 7.6 و 9 مليار دولار في سنوات 2015 و2016 و2017 على التوالي أيضا وبقدر ما كانت صادرات « الجار والشريك الاستراتيجي والشقيق» أي العراق الى تركيا هزيلة بقدر ما ان الصادرات التركية الى العراق تشكل نسبة معتبرة من اجمالي ما يستورده العراق من العالم والذي وصل 46 ، و40.6 ، 50.3 مليار دولار في سنوات التعامل التي اوردناها .

لكي ندرك الطابع غير المتكافئ للفائض المحقق في التجارة بين تركيا والعراق اشير الى انني ذهبت الى العراق ضمن وفد ترأسه وقتها وزير الاستثمار المصري ( يوليو 2010 ) ومكثنا عدة أيام في بغداد وتجولنا في عدة مواقع ومؤسسات استثمارية عراقية وتناولنا طعام الغداء مع القائد الكردي مسعود بارزاني، وكان اهم انطباع خرجت به ولم اكن ادركه بهذا الوضوح من قبل ان إيران وتركيا تحققان أرباحا ضخمة من أسواق العراق ، وأخبرنى اكثر من مواطن عراقي ان البلدين مستفيدتان من كون العراق في ظروفه التي نعرفها وانهيار بنيته الانتاجية يعتمد عليهما حتى في أعواد الثقاب وحزم الجرجير. وفي ذلك العام كانت ورادات العراق من إيران تصل قرب 10 مليارات دولار ومثلها من تركيا مع غياب واضح للتطبيق السليم للقوانين واللوائح الجمركية للعراق ، ولهذا فحين يقال ان التجارة بين تركيا والعراق بلغت هذا الحد في 2013 فإن السبب الرئيسي هو ان ذلك العام كان ذروة عملية التفكك السياسي والمؤسسي في العراق ، ولذلك لم تكن صدفة ان تحتل داعش شمال العراق في 2014 بعد اعلان اوباما سحب قوات امريكية من هناك ، وقد ترك الاحتلال الداعشي اثارا سلبية بالطبع على تجارة العراق وتركيا بل وعلى استثمارات الشركات التركية في شمال العراق والتي شكلت 65 % من الشركات العاملة هناك.

وتشير المصادر المختلفة الى ان العامل الأكبر الذي تراهن عليه تركيا لاستعادة بعض الزخم الى التجارة مع العراق هو العقوبات الأمريكية على إيران ومواصلة ترامب ضغطه على النظام في إيران بيد أن هذا العامل وحده لن يكون كافيا لتحقيق حلم الرئيس التركي لعدة أسباب أولها ان تشكلات الملعب السياسي في العراق قد لا تسمح لتركيا مجددا بأن تلعب ذات الدور التجاري والاستثماري في الفترة المقبلة، ولعل وصول برهم صالح نفسه الى الرئاسة وتولي عادل عبد المهدي منصب رئيس الوزراء بعد عناء سياسي في تشكيل الحكومة يدل على ذلك فقد استعاد العراق شيئا من عافيته وادرك ناخبوه بشكل أوضح ان البعد العربي يبقى الأهم لهذا البلد وقد قال برهم صالح خلال الزيارة في وجود أردوغان: « العراق يتطلع إلى أخذ موقعه الذي يستحقه مجدداً كبلد قوي» ، مضيفاً : «لسنا بحاجة إلى أي وصاية من الخارج، وان العراق وتركيا بإمكانهما إنجاز الشيء الكثير بفضل موقعهما الجغرافي الاستراتيجي».

ايضا لن يستطيع العراقيون بعد اليوم ان يتهاونوا في ملف المياه بعد ان واصلت تركيا سعيها للتأثير على حقوق العراق المائية ولا ملف تكرار دخول القوات التركية أراضي العراق بحجة ملاحقة العناصر الكردية المسلحة وقد بدأ السياسيون العراقيون يتنبهون الى ما يتردد في دوائر عديدة من ان تركيا لا تريد ان يأتي عام 2023 - عام نهاية معاهدة لوزان - الا وقد خلقت واقعا على الأرض يسمح لها باستعادة ما تعتقد انه مناطق تركية في شمال العراق وسيؤدي كل ذلك الى تناقضات عصيبة .

ان مشاركة تركيا في إعادة إعمار العراق وبناء شبكات الكهرباء والمياه ومد المرافق ستحدث بحكم حاجة العراق الملحة لخدمات وإنشاءات وإصلاحات لا حصر لها، لكن بوتيرة وشروط مختلفة ، كما ان التنافس بين إيران وتركيا ( ودول أخرى ) على كعكة إعادة الإعمار في العراق ( وسوريا ) ستشتعل وسيعمل العراقيون على توظيف ذلك في تحسين شروطهم ، وفي المحصلة فإن حلم تحقيق عشرين مليار دولار كتبادل تجاري بين تركيا والعراق يبدو بعيد المنال.

[email protected]