tunis
tunis
أعمدة

تواصل : من يشتري طفلي؟

30 أكتوبر 2018
30 أكتوبر 2018

تونس المحروقية -

hlaa202020 @ -

■ مشهد أول :

يبدأ طفلها الأول طريقه إلى التحدث المسترسل بكل صعوبة ذلك في بدايات مرحلة التحدث، تصوره في كل مرة يحاول أن يتحدث إليها، تضحك كثيراً على عدم قدرته على نطق بعض الحروف بشكلها الصحيح أو الخطأ في استخدام بعض الكلمات في غير موضعها، وتضحك أكثر وهي تصوره وهو يبكي لأي سبب كان دون أن ينتبه إلى أن والدته تنقل بكاءه للعالم بأسره، تلاحقه بكاميرا هاتفها منذ صحوه وحتى بعد أن تحمله ليغفو في سرير نومه، تضع كل ذلك في حسابها في سناب شات ثم تنقل بعض ذلك لحسابها في انستجرام ليبقى هناك متاحا للمشاهدة لكل من يرغب في ذلك، يتابعها مئات الألوف فهم يحبون براءة طفلها، يلومونها كثيرا على تندرها على براءته في بعض الفيديوهات وهذا يزيد من التفاعل في حسابها وعدد المتابعين، يحدث كل هذا وطفلها يعيش كل لحظاته ملتقطة بالفيديو والصور التي يتشارك تداولها الآلاف من الغرباء بمختلف التعليقات وتوجهات التفكير والتأويل !

■ مشهد ثانٍ:

يصور يوميات طفله الذي يبدو في الثامنة من عمره، وهو يتحاور معه في مختلف الموضوعات، يظهر الطفل بشكل دائم وهو يتطاول على والده الذي يصوره، ووالده ذلك يضحك على ردات فعله التي يعلق عليها بأنها براءة أطفال، يبكي الطفل ويفرح ويصرخ عاليا وكل ذلك أمام كاميرا هاتف والده التي ينقل محتواها لحسابه في انستجرام ليتابع الآلاف طفله ويعلقون على ألفاظه النابية أو غير اللائقة على أقل تقدير والتي يعللون أنها تعكس سوء تربيته وانشغال الأب بالتصوير بدلا من تربية الابن ثم يلومونه على تصوير ذلك وعرضه للملأ، لكن صاحب الحساب مستمتع ولا يلتفت لهم وقد ينعتهم أحياناً بالغيورين من انتشار حسابه وأنه وابنه أصبحا مشهورين جدا، ثم يعود ليضحك على ردود طفله ليزيد طفله من حدة تلك الردود ولا تعرف إن كان ذلك عفويا أم تم الإعداد للمشهد قبل التصوير لكن ذلك لا يهم ما دامت شعبية الحساب تزيد وعدد المتابعين كذلك!!

■ مشهد ثالث :

تعمل كـ «فاشينستا» تصور كل تفاصيل يومها لأن ذلك يزيد من قيمتها في السوق في مجال الترويج للمنتجات ولا تنسى طفلتها التي تتعامل مع وجودها في مقاطعها المرئية كجزء من التسويق لتلك القيمة، تخبر الراغبين في إعلاناتها أن سعر ظهورها في الإعلان مع طفلتها يفوق مرتين القيمة المالية لظهورها بمفردها، فابنتها محبوبة ويتابعها في حسابها التي تديره والدتها مئات الألوف، تضحك طفلتها للكاميرا فيزداد ثراء والدتها، تمارس عفويتها غير المصطنعة فتلف والدتها الكرة الأرضية في سفر مستمر على حساب تلك العفوية، كل هذا والطفلة لا تعي شيئا من كل تلك الثروات التي تحققها والدتها لمجرد استخدام فيديوهاتها البريئة!

جاءت وسائل التواصل الاجتماعي وظهر معها هوس توثيق اللقطات الحياتية ومشاركتها مع المتابعين بغرض التسلية أحياناً أو إظهار مشاعر القرب من المتابع وكأنه أصبح جزءًا من حياة من يتابعه لدرجة أنه أصبح بإمكانه أن يرى تفاصيل يومه وليت الأمر اقتصر على تصوير الحياة الشخصية للناضجين ومن بيده قرار نشر لقطات حياته للعامة فحسب بل إن الأمر امتد لتصوير حياة الأطفال وتفاصيل عفويتهم ونشرها من قبل أولياء الأمور بشكل يومي قد لا يعترض عليه الطفل لأنه في عمر لا يسمح له أن يعي ما يحدث ولا أن يقرر بخصوصه، ومن هنا بدأت ظاهرة فيديوهات الأطفال ومقاطعهم التي تحمل كماً كبيرا من تصرفهم بعفوية بالغة يستغلها الناضجون في التندر والتسلية أو التربح المالي أو زيادة عدد المتابعين أو غيره.

بعض قوانين حماية الطفل التي صدرت في عدة دول جرمت استغلال الأطفال في وسائل التواصل الاجتماعي واعتبرته نوعا من الإيذاء للطفل التي يوجب معاقبة الأسرة، لكن هل يوجد تفعيل لتلك المواد في ظل أن الأسرة التي تقوم بهذا الفعل مستمتعة وترى أن الطفل لا يمانع في ذلك بل ربما هو مستمتع أيضاً بزخم تعرضه للكاميرا رغم عدم وعيه الذي غالباً لا تنتبه له الأسرة ولا تضعه في حساباتها ؟ كما أن المشاهد في تلك الوسائل هو إما أن يكون مستمتعا ويطالب بالمزيد من الفيديوهات لنفس الطفل وإما مستاء ويكتفي بالتعليقات السيئة التي يعتقد أنه بكتابتها لها ستتوقف الأسرة تلك عن تصوير مقاطع لذلك الطفل، وبين هذا وذاك يتم استغلال الطفل استغلالاً سيئاً من قبل أسرته بما قد يسيء له نفسيا عندما يكبر في السن.

الأطفال سعادة للوالدين لا تعادلها سعادة حياتية أخرى، وأن يكونوا جزءًا من حضورنا في وسائل التواصل الاجتماعي بالمعدلات الطبيعية أمر لا بأس به، لكن أن يتم استغلال لحظات تفاعلهم العفوية والبريئة أمر أصبح مستهجناً ومزعجا، لدرجة أننا نصل في النهاية للشعور أن هناك من يتاجر فعليا بحياة أطفاله ويقول بتصرفاته: من يشتري طفلي وحياته وتفاصيل براءته مقابل الضغط على أيقونة الإعجاب أو متابعة الحساب؟!