الملف السياسي

معاهدة الصواريخ والجدل الاستراتيجي

29 أكتوبر 2018
29 أكتوبر 2018

عوض بن سعيد باقوير - صحفي ومحلل سياسي -

يدور جدل استراتيجي كبير بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية حول معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة والقصيرة المدى التي وقعها البلدان عام 1987 حيث وقعها من الجانب الأمريكي الرئيس الأسبق رونالد ريجان ومن جانب الاتحاد السوفييتي آنذاك الرئيس الأسبق ميخائيل جورباتشوف، والتساؤل هنا ما الذي حدث من خلل يجعل إدارة الرئيس الأمريكي ترامب بالتلويح بالانسحاب من هذه المعاهدة الاستراتيجية المهمة وهل لا تزال الصواريخ النووية القصيرة والمتوسطة تشكل هاجسا استراتيجيا للأمن القومي في البلدين في ظل التطور المذهل للأسلحة الدفاعية كمنظومة الباتريوت واس 400؟.

على الجانب الآخر يدور جدل واسع النطاق داخل الدوائر العسكرية في واشنطن حول مسألة الانسحاب من المعاهدة أو تعديل بعض بنودها وهذا الأخير ربما هو الأرجح على ضوء تصريحات المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا والتي أشارت إلى أن موسكو لا تستبعد بشكل أو بآخر إمكانية تعديل المعاهدة وفقا للواقع الحديث

أهمية المعاهدة

تعد معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة والقصيرة المدى ذات أهمية كبيرة عند توقيعها عام 1978 حيث كان سباق التسلح بين واشنطن وموسكو قد وصل حدا غير مسبوق من خلال استراتيجية حرب النجوم والصواريخ الباليستية ولعل الأهمية هنا تدخل في إطار عدد من الآليات التي حددتها المعاهدة حيث من أهم بنودها أنها تحظر الصواريخ النووية وغير النووية قصيرة ومتوسطة المدى وكان هذا أمرًا لافتًا في إطار الحد من سباق التسلح، كما أن تلك المعاهدة قد سببت ارتياحا في أوروبا الغربية آنذاك علاوة على الصين، ومن هنا فإن اختبار المعاهدة في التوقيت الحالي يندرج في إطار الإشكالات المتواصلة بين روسيا الاتحادية والولايات المتحدة.

ويبدو أن التلويح الأمريكي بالانسحاب من المعاهدة هو الدخول في حقبة جديدة من المنافسة الاستراتيجية مع الصين عملاق آسيا والتي تنطلق بقوة خاصة على صعيد النمو الاقتصادي ووجودها المتزايد في مياه المحيط الهادي جنوب شرق آسيا والتجاذب الاستراتيجي سواء حول معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة والقصيرة المدى سوف يستمر على الأقل خلال إدارة الرئيس الحالي ترامب والذي يريد انتهاج استراتيجية جديدة في العالم على صعيد أمريكا أولا.

من المعروف أنه بحلول عام 1991 تم تنفيذ المعاهدة بشكل كامل حيث دمر الاتحاد السوفييتي 1792 صاروخا باليستيا ومجنحا تطلق من الأرض في حين دمرت الولايات المتحدة 859 صاروخا ومن المعروف أن المعاهدة غير محددة المدة ومع ذلك يحق لكل طرف فسخها بعد تقديم أدلة مقنعة تثبت ضرورة الخروج منها

ولم تستطع الولايات المتحدة أن تثبت أن هناك خرقًا للمعاهدة من قبل روسيا ومن هنا جاء الحديث عن أهمية تعديل المعاهدة وهو أمر ممكن النقاش بشانه لأسباب تعود للمدة الزمنية وأيضا للتطورات الجيوسياسية ليس فقط بين موسكو وواشنطن ولكن على صعيد الأمن في أوروبا وجنوب شرق آسيا وخاصة في كوريا الشمالية وموضوع الطموح الصيني في المحيطات المفتوحة من خلال الرؤية الصينية في إفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط وصولا إلى مياه المحيط الهادي.

الخلافات السياسية

بصرف النظر عن أي خروقات روسية للمعاهدة فإن الباعث الأساسي للحديث عن إمكانية الانسحاب الأمريكي من معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة والقصيرة المدى هو الخلافات السياسية في أكثر من ملف لعل أبرزها موضوع أوكرانيا وسيطرة موسكو على شبه جزيرة القرم وتصاعد منظومة الصواريخ الروسية اس 400 والتي تهدد مبيعات السلاح الدفاعية الأمريكية وخصوصا منظومة الدفاع الباتريوت خاصة أن دولا مثل تركيا والهند وقطر والسعودية وسوريا متلهفة للحصول على هذه المنظومة الدفاعية وهي الأحدث في العالم، كما أن التقاطعات مع الاستراتيجية الروسية خاصة مع إيران والوضع في فلسطين المحتلة جعل من تزايد تلك الخلافات تتصاعد في ظل الاتهامات الأمريكية للتدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016 وهي التحقيقات التي لا يزال المحقق الخاص مولر يقودها وتسبب مشكلات كبيرة للرئيس ترامب، كما أن الطرد المتبادل للدبلوماسيين والمناورات الكبيرة للقوات المسلحة الروسية في مياه البحر الأبيض المتوسط جعل واشنطن تشعر بالقلق خاصة على صعيد الأمن في أوروبا وعلى صعيد التوازن الاستراتيجي

التجارب الصاروخية من الجانبين ليست مستبعدة وفي أجواء سرية ومن هنا فإن الانتهاكات ربما تكون من الطرفين رغم المزاعم الأمريكية بأن خرق المعاهدة جاء من روسيا الاتحادية وهو أمر لم يثبت حتى الآن ومن هنا لعبت الخلافات السياسية ومسألة العقوبات الأمريكية على موسكو دورا في تصعيد التصريحات بين الجانبين رغم أن المعاهدة ربما تحتاج إلى تعديلات تتماشى والفترة الزمنية التي تتجاوز ثلاثة عقود ولعل حديث أحد خبراء الأسلحة النووية يتحدث بأن تصميم الصاروخ الأمريكي الجديد ينتهك بنود الاتفاقية كما يرى مدير نزع شؤون السلاح والحد من مستوى التهديد في مراقبة التسلح كينجستون رايف أن الصاروخ الأمريكي الجديد سيزيد من احتمال أن ترد روسيا على ذلك بفسخ المعاهدة رسميا

إذن الشكوك في انتهاك المعاهدة بين الطرفين متحققة وربما يكون الحل الأمثل وعلى ضوء تصريحات العسكريين من الطرفين أن يبدأ نقاش جاد حول مراجعة المعاهدة وإمكانية تعديل بعض بنودها على ضوء المتغيرات الاستراتيجية والتطور النوعي في الصناعة العسكرية في البلدين.

الترقب الأوروبي

وعلى ضوء هذا الجدل الاستراتيجي حول المعاهدة بين واشنطن وموسكو فإن أوروبا تراقب التطورات ولو بشكل خافت ورغم أنها جزء من حلف الأطلسي الذي تتزعمه الولايات المتحدة إلا أن الخلافات بين الناتو والرئيس ترامب برزت للسطح في أكثر من اجتماع خاصة أن واشنطن تريد من الدول الأوروبية الأعضاء في الحلف زيادة مساهمتهم المالية وهو ما حدث في القمة الأخيرة في بروكسل.

ولعل الترقب الأوروبي مشروع لأن أي تصعيد في سباق المنظومة العسكرية بين روسيا والولايات المتحدة له تأثير مباشر على الأمن في أوروبا خاصة أن التماس الجغرافي بين عدد من الدول الأوروبية وروسيا موجود.

ولعل الحرب في أوكرانيا وسيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم قد زاد من مخاوف الأوروبيين لأسباب تتعلق بالأمن الأوروبي ومن هنا فإن التشاور الأمريكي - الأوروبي يعد مسألة حيوية للتنسيق حول موضوع الصواريخ النووية المتوسطة والقصيرة المدى مما يجعل من هذا الموضوع الاستراتيجي حديث عدد من المراكز الاستراتيجية في أوروبا علاوة على التحليلات السياسية في كبريات الصحف الغربية.

وعلى ضوء هذا الجدل الاستراتيجي الأمريكي-الروسي فلا يتوقع أن يحدث انقلاب كبير في موضوع المعاهدة وربما تحدث تعديلات محددة في ظل أن المعاهدة لها جوانب إيجابية للحد من التسلح في هذا النوع من الصواريخ.

وفي ظل الصراعات الإقليمية وحالة عدم اليقين التي تجتاح مناطق عدة في العالم فإن المأمول أن يتوصل الطرفان الأمريكي والروسي إلى توافق حول المعاهدة وعدم إطلاق سباق تسلح جديد، كما أن العالم يتطلع إلى منظومة للأمن والاستقرار في العالم وحل الصراعات الإقليمية خاصة في منطقة الشرق الأوسط والبعد عن التجاذبات والجدل الاستراتيجي الذي يؤدي إلى مزيد من التوتر وعدم الاستقرار.

أهمية المحافظة على المعاهدة هو أمر في صالح الاستقرار في العالم ويكفي من الترسانات النووية في أكثر من بلد في العالم والتي تشكل أخطارا على العالم وخاصة الترسانة النووية الإسرائيلية والتي تعد الأخطر على الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وبالتالي فإن مسألة جعل هذه المنطقة خالية من الأسلحة النووية هو أمر جدير بالنقاش والحوار، كما يحدث الآن من نقاش حول معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة والقصيرة المدى بين روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأمريكية.