أفكار وآراء

مصر والسودان.. والتكامل المنشود !

09 أكتوبر 2018
09 أكتوبر 2018

عوض بن سعيد باقوير  -

صحفي ومحلل سياسي -

إن نموذج التكامل المصري - السوداني وفق المعطيات التي تم الحديث عن بعضها سوف يكون مميزا ودعوة مخلصة للحكومتين المصرية والسودانية إلى فتح ملف التكامل والبناء عليه؛ لأن نجاحه والانطلاق من خلاله سوف يحقق مصلحة كبرى لدولتي وادي النيل.

إذا تم الحديث عن التكامل بمفهومه العام بين بلدين وفي إطار المحددات التاريخية والحضارية وفي إطار المنظومة الاجتماعية والسياق الثقافي فأول ما يقفز إلى الذهن هو مصر والسودان أو دولتا وادي النيل اللذان تتمتعان بإمكانات كبيرة خاصة على الصعيد الزراعي والحضاري ومواقع البلدين الاستراتيجية علي البحرين الأبيض المتوسط والأحمر علاوة على التماس الثقافي بين حضارتي وادي النيل.

ولعل كلمة التكامل بين البلدين والشعبين الشقيقين قد ازدادت زخما أيام الرئيس المصري الأسبق الراحل أنور السادات من خلال تكوين اللجان المشتركة ووجود مسؤولين في البلدين يسعون إلى الدفع بالتكامل بين البلدين في كل القطاعات الاقتصادية والزراعية وتبادل الخبراء في مجال التعليم والآثار، وغير ذلك من المشتركات بين البلدين ولعل السؤال الأهم هنا هو لماذا لم يتحقق ذلك التكامل المنشود بعد مرور عدة عقود؟ وهل يمكن استعادة ذلك المفهوم الذي يحقق الطفرة التنموية للبلدين في كل المجالات؟

القواسم المشتركة كثيرة ... ولكن !

الحديث عن المشتركات هو مفهوم لا يكفي وحده، حيث إن التجارب الوحدوية والتكاملية تحتاج إلى تناغم في الأفكار، وأيضا توجهات مشتركة، ويبدو أن الظروف السياسية التي مر بها البلدان خلال العقود الخمسة الأخيرة قد ساهمت بشكل كبير في تأخر أو عرقلة موضوع التكامل من خلال أحداث سياسية كبري في مصر بعد حادثة المنصة الشهيرة يوم السادس من أكتوبر عام 1981م التي أدت إلى اغتيال الرئيس السادات، رحمه الله، وأيضا المشكلات السياسية في السودان، خاصة على صعيد الصراع علي السلطة حتى عام 1989 التي جاء من خلالها الرئيس الحالي عمر البشير؛ ليعطي السودان الشقيق الاستقرار بشكل ملموس، ومع ذلك كانت مسألة انفصال جنوب السودان واحدة من التطورات الأساسية التي ألقت بظلالها علي العلاقات المصرية- السودانية من خلال انشغال البلدين بقضاياهم الداخلية رغم أن الحكم في مصر منذ عام 1981 ومجيء الرئيس الأسبق حسني مبارك أصبح مستقرا هو الآخر، ولمدة ثلاثة عقود قبل طوفان ثورات الربيع العربي عام 2011م التي غيرت الملمح السياسي المصري وتداعياته الكبيرة، ومن هنا ورغم القواسم المشتركة بين حضارتي وادي النيل والترابط الاجتماعي الوثيق بين الشعبين، إلا أن التكامل بينهما بقي حلما يراود شعبي البلدين.

ولعل تلك المشتركات بين البلدين تعد دافعا وعاملا كبيرا لنجاح التكامل المصري-السوداني، فوادي النيل هو أرض خصبة وهناك نهر النيل الذي يعد شريان الحياة في البلدين، كما استطيع القول: إن اهم خبراء الزراعة في العالم هم من مصر والسودان بدليل نجاح عدد من الدول في الشرق والغرب في إيجاد زراعة مستدامة بإمكانيات أقل من مصر والسودان.

فالسودان كما نعرف هي سلة الغذاء في العالم وليس العالم العربي فقط، إذا ما تم استثمار ملايين من الهكتارات ووفق الزراعة الحديثة ووفق الميكنة الحديثة وكذلك في مصر حيث وجود مساحات كبيرة صالحة للزراعة، ومن هنا فإن الإرادة السياسية والتطورات في البلدين قد أدى إلى عرقلة مشروع التكامل، وإن كان هذا الأخير يظل حيا في نفوس الشعبين المصري والسوداني.

وهناك زيارات متبادلة بين رئيسي البلدين وعدد من كبار المسؤولين في البلدين، في الآونة الأخيرة، ولا شك أن إعادة إحياء التكامل وهياكله التي كانت منطلقة في عهد الرئيس السادات والرئيس جعفر النميري، وما تم إدخاله من تعديلات عليها يظل هاما ومفيدا؛ لأن ذلك هو الحل الأمثل لمشكلات تواجه كلا البلدين سواء فيما يخص الفجوة الغذائية أو فيما يخص اقتصاديات البلدين، والمشكلات الخاصة بنسب الباحثين عن عمل، وقضايا الين العام، خاصة من صندوق النقد الدولي، علاوة علي إيجاد التنمية المستدامة وفق برامج التكامل المتعددة.

المشكلات الحدودية

ظهرت مشكلة حلايب كأحد العوامل السلبية في طريق محاولات إنجاح أي تكامل منشود بين مصر والسودان، وبصرف النظر عن تلك المشكلة الحدودية فإن الوصول إلى توافق بشأنها بين البلدين ممكن، نظرا لوجود القبائل المشتركة في المنطقة، ومن ثم فإنه يمكن تحويلها إلى منطقة مشتركة في مجال التجارة والحركة السياحية وتبادل المنافع بين السكان الذين يرتبطون بعلاقات اجتماعية وثيقة، وربما من خلال هذا الروابط الحدودية وتبادل المنافع والمصالح،تتم عملية التكامل بين البلدين فمن خلال تجربة الاتحاد الأوروبي فإن مناطق الحدود أصبحت مجال جذب سياحي وتجاري وازدهرت تلك المناطق حتى لا يمكن للمرء أن يعرف حدود التماس بين تلك الحدود، ومن هنا فإن الحالة المصرية السودانية تنطبق على عدد من الدول العربية حيث إن مشكلات الحدود قد ساهمت في تردي العلاقات وأيضا كانت عاملا سلبيا للتعاون والتكامل بين الأقطار العربية، ولعل التجربة النموذجية في ولاية المزيونة في السلطنة؛ حيث تحولت هذه المنطقة إلى حركة تجارية بين الشعبين العماني واليمني في أعقاب ترسيم الحدود بين البلدين الشقيقين.

إذن يمكن تحويل المشكلات الحدودية إلى مناطق جذب تجاري وسياحي وزيادة في الروابط الاجتماعية وعندها تحدث النقلة التكاملية خاصة في الحالة المصرية السودانية؛ فالدولتان بهما من الآثار ما يشكل دخلا اقتصاديا كبيرا مقارنة بدول كاليونان وقبرص وحتي إسبانيا وفرنسا، حيث تمتلك مصر والسودان كنوزا أثرية لا مثيل لها في العالم.

إذا مشكلة حلايب يمكن الوصول إلى توافق بشانها من خلال الحوار أو من خلال أي أدوات قانونية مرضية للطرفين، ولكن من المهم هنا إحياء مسألة التكامل بين دولتي وادي النيل، لأن ذلك سوف يحدث نقلة نوعية ليس فقط في المجالات المختلفة ولكن علي صعيد التقارب بين الناس كأكثر الشعوب تجانسا وترابطا علي مر العصور علاوة على الحضارة المشتركة وتدفق مياه النيل إلى البلدين.

النموذج الأهم

الكل يجمع على أن التكامل بين مصر والسودان هو النموذج الأكثر واقعية الذي تتوفر له كل المعطيات والظروف للنجاح من خلال القواسم المشتركة والمنطلقات الحضارية والترابط العميق علي ضفتي وادي النيل.

وبصرف النظر عن الظروف التاريخية والحساسيات التي تعد طبيعية في دول كثيرة في العالم، فإن الأمل المنشود من الشعبين أن تحدث عملية التكامل؛ لأنها المخرج الحقيقي لمشكلات البلدين، وهي التي تصحح الأوضاع الاقتصادية من خلال استغلال المقدرات الكبيرة في البلدين، علاوة على وجود الخبرات البشرية ذات الفكر المتقدم التي رأيناها في الغرب والولايات المتحدة تقدم إنتاجا وإبداعا معرفيا مشرفا.

ويبدو لي أن المشكلة الأساسية لتحقيق التكامل لا تأتي من الشعبين، ولكن تظهر البيروقراطية العربية كعامل سلبي غير محفز للانطلاق، وهذا ينطبق على الدول العربية خلال العقود الخمسة الأخيرة، فالتجارب التكاملية لم تنجح وحتى في مجالس التعاون لم تحقق الآمال العريضة للشعوب العربية، ومن هنا فإن التكامل السوداني-المصري سوف يكون أهم التجارب العملية في مجال التكامل الزراعي بشكل خاص، وأيضا في مجال المياه والسياحة والاستثمار المشترك، وعلى صعيد التخطيط والانطلاق إلى نموذج تكاملي قد يكون محفزا لتجارب أخرى في المنطقة.

فالتكامل الاقتصادي العربي يحتاج إلى نموذج حي، ولن يكون هناك أفضل من التكامل بين مصر والسودان، ولا شك أن ملف التكامل الذي انطلق في عقد السبعينات من القرن الماضي يمكن البناء عليه والانطلاق به إلى حالة التطبيق؛ لأن في ذلك مصلحة كبرى للبلدين والشعبين الشقيقين.

فهناك إشكالات اقتصادية تحتاج إلى حلول جذرية لعل أهمها مشكلة العملة المحلية في البلدين، وهناك الفجوة الغذائية وهذه الأخيرة ينبغي عدم حدوثها في بلدين خاصة السودان الذي لديه ثروة حيوانية هائلة، علاوة على مسألة القمح الذي يستورده البلدان في ظل وجود رقعة زراعية كبيرة قابلة للاستصلاح الزراعي.

وفي ظل الاستقطاب السياسي في الإقليم والعالم، و مشكلات سياسية مزمنة في عدد من الدول العربية، فإن التكامل الاقتصادي، يعد أحد المخارج الأساسية التي تساعد على انطلاقة تنموية، وفي ظل تنامي السكان خاصة في الحالة المصرية، كما أن موضوع التعاون في مسألة القضاء على الإرهاب العابر للحدود تعد مسألة أساسية، خاصة أن نجاح أي تكامل يعتمد على عامل الاستقرار والسلام.

إن نموذج التكامل المصري- السوداني ووفق المعطيات التي تم الحديث عن بعضها سوف يكون مميزا ودعوة مخلصة للحكومتين المصرية والسودانية إلى فتح ملف التكامل والبناء عليه؛ لأن نجاحه والانطلاق من خلاله سوف يحقق مصلحة كبرى لدولتي وادي النيل، ويكرس المواطنة المشتركة، بدليل أن هناك تقاربا وانسجاما وانجذابا عاطفيا بين الشعبين ووجود ملايين السودانيين في مصر للعمل والدراسة، وهناك شركات مصرية تعمل في السودان، وهذا يعني أن العوامل المحفزة لنجاح التكامل موجودة وتحتاج إلى من يحركها، لنشهد انطلاقة عربية ممثلة في نموذج التكامل المصري- السوداني، ولعل نجاحه يحرك الساكن في التكامل الاقتصادي العربي.