أفكار وآراء

دينيــــس موكويجي

07 أكتوبر 2018
07 أكتوبر 2018

أ.د. حسني نصر -

ربما هي المرة الأولى التي أعنون فيها مقالا لي باسم شخص دون أية إضافات سابقة أو لاحقة لهذا الاسم، فقط لأنني أريد أن أحقق أكبر قدر من الإبراز لهذا الاسم الذي يجب أن يبقى في ذاكرة القراء الأعزاء والإنسانية كلها. يستحق هذا الاسم أن يكون علي لسان كل إنسان محب للخير والسلام والعدل وهي القيم التي أفنى حياته في الدفاع عنها. إنه طبيب أمراض النساء الكونغولي دينيس موكويجي الفائز بجائزة نوبل للسلام للعام الحالي (2018)، بالمشاركة مع العراقية اليزيدية نادية مراد التي تستحق هي الأخرى أن يفرد لها مقالا كاملا ربما في وقت آخر.

منذ إعلان لجنة جائزة نوبل عن فوز موكويجي الجمعة الماضية بالجائزة الرفيعة توالى الترحيب العالمي بهذا الاختيار ليس فقط من قادة وزعماء العالم الحاليين والسابقين، مثل المستشارة الألمانية والرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، ووزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون، ولكن أيضا من مشاهير الكون مثل بيل جيتس وزوجته مليندا جيتس ومن وسائل إعلام كبرى مثل نيويورك تايمز، وواشنطن بوست، وسي إن إن، والجزيرة وغيرها، ومن منظمات أممية كالأمم المتحدة والاتحاد والبرلمان الأوروبيين، واليونسكو، ومن أشخاص عاديين أيضا تأثروا بقصة كفاح موكويجي، فغردوا على تويتر وكتبوا على فيسبوك مشيدين بفوزه بالجائزة التي تأخرت كثيرا.

ربما لم يتفق العالم على فائز بجائزة نوبل للسلام من قبل مثلما اتفق على موكويجي، الذي حاز اختياره للجائزة إعجابا دوليا يشبه الإجماع، ربما لأنه ليس زعيما سياسيا معارضا ولا حاكما حاليا أو سابقا. ماذا فعل الدكتور موكويجي لكي ينال كل هذا الرضا والتقدير العالميين؟ ربما تكون الإجابة المختصرة عن هذا السؤال هو أن موكويجي، وشريكته في الجائزة بالطبع، «وضعا سلامتهما الشخصية في خطر من خلال تصديهما بشجاعة لجرائم الحرب وتأمين العدالة للضحايا»، كما ورد في بيان إعلان فوزه من جانب اللجنة النرويجية لجائزة نوبل للسلام. أما الإجابة التفصيلية التي يجب أن يعرفها العالم كله، فتقتضي العودة إلى ما قام به موكويجي الذي يمكن أن نصفه بأنه عمل إنساني خالص لا تشوبه شائبة السياسة وألاعيبها.

ولد دينيس موكويجي، كما يقول موقع ويكبيديا باللغة الإنجليزية، في أول مارس من عام 1955 في مدينة بوكافو، فيما كان يعرف من قبل بالكونغو البلجيكية، ويعرف حاليا باسم جمهورية الكونغو الديمقراطية، وكان الطفل الثالث من بين تسعة أشقاء لرجل دين مسيحي بروتستانتي. درس الطب في جامعة بروندي وتخرج فيها في عام 1983. وبدأ حياته العملية طبيبا للأطفال في مستشفى ريفي صغير قريب من مدينته. وأثناء عمله وبسبب مشاهدته لمعاناة النساء خاصة أثناء الولادة، درس طب النساء والولادة في جامعة أنجر بفرنسا وأتمها في عام 1989. وبعد عودته من فرنسا استأنف عمله بمستشفى الأطفال، وفور اندلاع حرب الكونغو الأولى وبسبب حوادث العنف عاد إلى مدينته الصغيرة وأسس فيها مستشفى اسماها مستشفى بانزي في العام 1999، خصصها لعلاج النساء اللاتي تعرضن للعنف الجنسي أثناء الحرب.

ومنذ افتتاحها عالجت المستشفى أكثر من 85 ألف مريضة قدموا إليها من جميع مناطق النزاع في الكونغو بعد أن تعرضت النسبة الأكبر منهن لإصابات بالغة نتيجة اعتداءات جنسية، وبعضهن كن يأتين إلى المستشفى- كما يقول موكويجي نفسه- عرايا وفي حالة رعب شديد. وعندما لاحظ أن هذه الاعتداءات التي يتعرض لها النساء أصبحت تستخدم كسلاح في الحرب، كرس موكويجي حياته لابتكار جراحات تأهيلية لمساعدة الضحايا. وتجدر الإشارة هنا إلى انه أثناء الحرب وصفت جمهورية الكونغو الديمقراطية خاصة الجزء الشرقي منها بانها «عاصمة الاغتصاب في العالم»، في إشارة إلى انتشار جميع أشكال العنف الجنسي فيها بشكل وبائي.

ما يهم في الأمر أن الدكتور موكويجي مثل لسنوات طويلة أملا لآلاف النساء في شرق الكونغو، وظل مقيما في منطقة الحرب لمدة أربعة عشر عاما يقدم خدماته لضحايا العنف من النساء بإمكانات طبية وعلاجية محدودة. ويكفيه فخرا أنه استطاع أن ينشئ ويدير مستشفى في مكان يفتقر إلى مقومات الحياة الأساسية ولا يوجد به طرق أو مياه صالحة للشرب، أو كهرباء، بالإضافة إلى انعدام الأمن. وإلى جانب عمله استطاع أن ينقل معاناة النساء في بلاده إلى العالم، وجاب العالم ليشرح هذه المعاناة، ووقف خطيبا أمام الأمم المتحدة والكونجرس الأمريكي والبيت الأبيض والبرلمان الأوروبي والبرلمان الكندي وغيرها. وهو ما نتج عنه لفت انتباه منظمات حقوق الإنسان الدولية إلى القضية والبدء في توثيقها في عام 2002. وفي عام 2009 ومع استمرار جهود موكويجي تبنى مجلس الأمن الدولي القرار رقم 1888 الذي يدين جرائم الاعتداء الجنسي أثناء الحرب، ويطالب المجتمع الدولي ببذل المزيد من الجهود لحماية النساء من العنف الجنسي في مناطق النزاع، وتقديم المتهمين بهذا العنف إلى العدالة. وعلي أثر ذلك فتحت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقا في هذه الجرائم التي ارتكبت في الكونغو خلال حرب الكونغو الثانية وما بعدها. وأدانت قادة بعض الجماعات المسلحة، ونسبت لهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية من بينها الاستعباد الجنسي والاغتصاب.

ويذكر لموكويجي أنه في الخطاب التاريخي الذي ألقاه أمام الأمم المتحدة في سبتمبر 2012، وأدان فيه الاغتصاب الجماعي للنساء في بلاده، انتقد أيضا حكومة بلاده، واتهمها بعدم فعل شيء لوقف ما أسماه بالحرب غير العادلة التي يستخدم فيها العنف ضد النساء والاغتصاب كسلاح استراتيجي. وقد دفع ثمن موقفه هذا بعدها بشهر تقريبا، عندما تعرض لمحاولة اغتيال فاشلة في الخامس والعشرين من أكتوبر 2012. وبعد هذا الحادث خرج موكويجي إلى منفاه الاختياري في أوروبا، حيث واصل الدعاية لقضيته. وفي 14 يناير 2013 عاد مرة أخرى إلى الكونغو ليواصل عمله في المستشفى، وكان في استقباله الآلاف من مرضاه السابقين الذين اصطفوا علي طول 20 ميلا من المطار وحتى المدينة. وتقول مصادر إعلامية أن معظم مستقبليه كانوا من النساء اللاتي عالجهن، وإنهن قمن بحملة تبرعات لجمع ثمن تذكرة عودته، تم تمويلها من عائدات عملهن في بيع البصل والأناناس.

إن إنجاز موكويجي الحقيقي لا يقتصر فقط علي الحفاظ على حياة الآلاف من ضحايا العنف الجنسي في بلاده، بل أيضا في الجهود التي بذلها لوضع هذه القضية الإنسانية على أجندة اهتمامات العالم، في وقت لم يكن العالم راغبا في السماع. ومع ذلك استطاع أن يوقظ العالم ويدفعه لإدانة استخدام الاغتصاب كسلاح في الحروب سواء في جمهورية الكونغو أو غيرها. لكل ذلك يستحق موكويجي ربما ما هو أكثر من جائزة نوبل.. يستحق أن يعرف العالم قصته وأن يكون مثالا يحتذى.