Untitled-2
Untitled-2
إشراقات

الهجرة النبوية لها دلالة عظيمة ودور جوهري في صياغة مجرى التاريخ

13 سبتمبر 2018
13 سبتمبر 2018

وجوب الأخذ بالأسباب في تحقيق النتائج وبلوغ الغايات -

كلما حلت ذكرى الهجرة علينا أن نستفيد من أحداثها ووقائعها، ونأخذ بالأسباب في كل سلوكياتنا، ونخطط ليومنا ونضع البرامج لاستشراف المستقبل، ونطبق أسس المنهج العلمي، وإذا كانت الهجرة كحدث قد انتهى، فإنها كمبدأ وقيمة باقية لها أبعادها ومقاصدها، ستظل ماثلة، وستبقى حاضرة، فالمسلمون كافةً مأمورون، ومطالبون بالهجرة إلى الله تعالى في كل وقت، بأن ينتقلوا من المعاصي إلى الطاعات، ومن الشر إلى الخير، ومن الجهل إلى العلم، ومن التخلف إلى التقدم، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الفتور إلى الجد ومن الركون والركود إلى العمل والاجتهاد، ومن التواكل إلى التوكل، ومن الفرقة إلى الوحدة، ومن التباعد إلى التقارب، ومن التنافر والقطيعة إلى التلاحم والتراحم، ومن الخصام إلى الوئام.. ذلك ما أكده اللقاء التالي مع كل من د. يوسف السرحني و د. محمد الزيني.

بداية يحدثنا د. يوسف بن إبراهيم السرحني عن الدروس المستفادة من الهجرة النبوية فيقول: الهجرة النبوية روح ونور، روح تسري في الوجود، ونور تضئ الكون، فهي مليئة بالدروس، ومليئة بالعبر، فهي البستان الوارف الظلال، واليانع الثمار، هي النبع الصافي الزلال، والنهر المتدفق الفياض، هي المعين الذي لا ينضب، والنور الذي لا يخبو، ومن تلك الدروس والعبر ما يلي: أولًا: وجوب الأخذ بالأسباب مع الاعتماد على الله تعالى في تحقيق النتائج وبلوغ الغايات، ونيل الأهداف، وهذا هو التوكل، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أخذ بكل الوسائل والأسباب المتاحة لنجاح الهجرة.

وأضاف: أن الهجرة النبوية أظهرت معادن المؤمنين والمؤمنات من المهاجرين والأنصار، فكانوا صادقين مفلحين -رضي الله عنهم- فالمهاجرون تركوا الوطن والمال، وتحملوا المشاق والصعاب؛ لأجل دعوة «لا إله إلا الله» والأنصار فتحوا قلوبهم وبلادهم وبيوتهم لإخوانهم المهاجرين وآثروهم على أنفسهم، فتحققت بين الفريقين الأخوة الإيمانية الصادقة في أعلى درجاتها، وأسمى مراتبها.. مشيرا إلى أن وجوب الهجرة إلى الله تعالى في كل عصر، بمعنى إذا كانت الهجرة كحدث قد انتهى، فإنها كمبدأ وقيمة باقية لها أبعادها ومقاصدها، وكفلسفة ومنهج في الحياة ستظل ماثلة، وستبقى حاضرة؛ فالمسلمون كافةً مأمورون، ومطالبون بالهجرة إلى الله تعالى في كل وقت، وذلك بأن ينتقلوا من المعاصي إلى الطاعات، ومن الشر إلى الخير، ومن الرذيلة إلى الفضيلة، ومن الجهل إلى العلم، ومن التخلف إلى التقدم، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الكسل إلى النشاط، ومن الفتور إلى الجد ومن الركون والركود إلى العمل والاجتهاد، ومن التواكل إلى التوكل، ومن الفرقة إلى الوحدة، ومن التباعد إلى التقارب، ومن التنافر والقطيعة إلى التلاحم والتراحم، ومن الخصام إلى الوئام، ولا شك ان طريق الدعوة إلى الله تعالى طريق صعب وطويل يحتاج إلى صبر. كذلك الاستعداد للقاء الله تعالى والرحيل إلى عالم الآخرة، فعجلة الزمن تسير سيرًا حثيثًا سريعًا من غير توقف لأحد أو انتظاره، فالأعوام تطوى، والأجساد في الثرى تبلى، والأيام تتوالى، والشهور تتابع، ومعها تنقضي الأعمار، وتنصرم الآجال، وفي ذلك عبرة للمعتبرين، وعظة للمتعظين، وذكرى للذاكرين، وتنبيه للغافلين، فمن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه، وأن خير الزاد التقوى.

أما عن أهمية التقويم الهجري في حياتنا اليومية فيقول: لا ريب ان كل أمة من الأمم تقويمها الخاص الذي تعتز به لما له من رمزية في حياتها؛ إذ يُعد عنصرًا أصيلًا من عناصر هويتها وثقافتها، والمعتقد الديني لكل أمة أسهم بشكل محوري في نشأة تقويمها؛ ونحن الأمة الإسلامية لنا تقويمنا الشرعي وهو التقويم الهجري، وهو تقويم قمري يتكون من اثني عشر شهرًا تتراوح في عدد أيامها ما بين تسعة وعشرين وثلاثين يومًا. يقول الله تعالى: ‏(‏إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ‏)، مشيرا إلى أن للتاريخ الهجري أهمية في حياة كل مسلم ليس في معرفة الشهور والسنين، ومواعيد التعاملات اليومية فحسب، بل إن الأحكام الشرعية من صوم وزكاة وحج وعيد الفطر، وعيد الأضحى، وكفارات وعدد، وكذلك العيدين، عيد الفطر، وعيد الأضحى كل ذلك وغيره مرتبط بالتاريخ الهجري؛ ولأهمية التاريخ القمري؛ ربط بأعظم حدث في تاريخ الإسلام ألا وهو الهجرة النبوية لما لها من دلالة عظيمة ودور جوهري في صياغة مجرى التاريخ. وذلك في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي قال: «الهجرة النبوية فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها» ومن هنا يجب استخدام التاريخ الهجري في حياتنا اليومية في كل شؤوننا، فيكون هو الأساس في جميع المعاملات الرسمية وغير الرسمية، كما يجب تنشئة الأبناء عليه في البيت والمدرسة والمسجد، وهنا يأتي دور الآباء والمعلمين والمربين والدعاة؛ لذا يجب أن يولي التاريخ الهجري العناية التي يستحقها، ففي المدرسة يجب بأن يكون حاضرًا في طابور الصباح، ومكتوبًا بوضوح على السبورة، ويؤمر الطلبة بكتابته في دفاترهم وتذكيرهم بأهميته ودلالته.

من جانبه أوضح د. محمد عبد الرحيم الزيني- أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية العلوم الشرعية قائلا: يدور الزمان ويأخذ الفلك دورته وتمر السنوات والشهور والأيام وتحل ذكرى هجرة الرسول صلى الله عيه وسلم من مكة البلد الحرام، وأحب بلاد الله إلى قلبه وعقله ووجدانه، إلى المدينة المنورة بحلول صاحبها بأنواره الساطعة وهداياته التي تنفذ إلى العقول، ومعالم دينه الواضحة التي تتغلغل في القلوب وتترسخ في الضمير.. يعود الخاطر إلى شبه الجزيرة العربية وينظر نظرة سريعة مثل نظرة الطيار حينما يستكشف أبعاد الهدف الذي يريد أن يصيبه، ويتأمل في الوضعية المتردية التي كانت تعيشها الجزيرة العربية، قبائل متناحرة تثور الحروب بينها على أتفه الأسباب لمجرد أن فرس هذا سبق الآخر في الرهان أو على موارد المياه، وهذه الحروب تحصد أرواح الرجال والشباب وتأكل الأخضر واليابس، وتخلف ورائها اليتامى والثكالى، فوارق طبقية شنيعة واستعلاء قوم على قوم وانقسام الطبقات الاجتماعية إلى سادة وعبيد، ملاك وأجراء، وانحراف عن منهج السماء يتمثل في عبادة الأحجار التي صنعوا منها تماثيل يركعون أمامها ويسجدون، ويقدمون لها القرابين استعطافا لها وطلبا لتحقيق حوائجهم في الحياة واستجلابا للخير المنشود الذي يسعى إليه الإنسان في حياته، على الرغم من أنهم اتسموا برحابة العقل وسعة الأفق وبعد النظر وبلاغة القول والأسلوب العربي الفصيح وإرسال الحكمة، وتكثيف القول في أمثال حية تصور الموقف بإيجاز واختصار. وحسبك النخوة التي اشتهروا بها ونجدة الملهوف والكرم الذي سارت به الركبان.

وأضاف الزيني قائلا: ظل الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة يحارب الأوضاع المختلة ويعالج الأمراض النفسية والاجتماعية المتفشية بلين جانبه ونصائحه الغالية وأسلوبه الحكيم في التربية والتوجيه، وبتعاليم السماء التي تتنزل عليه في كل حين فيهرع يبلغها لقومه ويرشدهم إلى الطريق المستقيم الذي يوصلهم إلى جنة عرضها السموات والأرض، ويبشر بملكوت السموات للأبرار الأطهار، ويحذر أساطين قريش وشيوخها الذين يكررون إن وجدنا آباءنا بأن مأواهم النار وعذاب السعير، ويروي لهم مصير الأمم السابقة التي عاندت رسلهم وكانت نهايتهم الدمار والهلاك. (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى، وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى)، وبعد صراع مرير بين جنود الحق وأشرار الباطل، بين الخير والشر بين الصدق والكذب وهذه هي جدلية الحياة، وبعد أن ضيق كبراء قريش الخناق على الرسول صلى الله عليه وسلم وآذوه في شخصه وأهله وسخروا من تعاليمه لأنها تقوض سلطانهم الدنيوي وتلغي امتيازاتهم الطبقية والنفسية، وكذلك أهانوا أصحابه الذين سارعوا لتلبية دعوة السماء وانضوا تحت لوائه وآمنوا بهداياته وتعاليمه، ودفعوا الثمن غاليا من حياتهم بعد أن تعرضوا لأشد العذاب كما وقع لآل ياسر، وعلى رأسهم عمار، وعبدالله بن مسعود الذي عذبه أبو جهل وشق أذنه وبلال بن رباح الذي عذبه أمية بن خلف وكان يتركه في ظهيرة مكة يقاسي من لفحات الشمس الحارقة وغيرهم. وفي ضوء هذه المعاناة القاسية والحروب الخفية والظاهرة الموجهة إلى دعوة الإسلام، والحرب العنيفة التي شنتها قريش على المسلمين الذي استجابوا للدعوة، لم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم مفرا من البحث في أرض الله الواسعة عن مكان آمن يأوي إليه بأمان واستقرار يواصل فيه مسيرته الدينية ويستأنف ما توقف عنه لهداية البشر واستكمال رسالته الخاتمة، فكانت المقدمات الناجحة في لقاء وفود من «يثرب» الذين تأكدوا من صدق بعثته وحسن رسالته لاسيما وأن اليهود كانوا يبشرون بمقدمه ويستعلون عليهم، وكان نتيجة المفاوضات «بيعة العقبة»، ثم شرع الرسول صلى الله عليه وسلم في التخطيط الجيد والمحكم ومناقشة كل الوسائل المتاحة لتحقيق النصر والوصول بسلام إلى هدفه، وفي المرحلة الثانية بدأ بإعداد متطلبات عملية الهجرة ويعد كافة الترتيبات المتعلقة بالإعداد الجيد؛ الصحبة الطيبة، ورفيق السفر وسيلة الانتقال، ومن الذي سيكون البديل للنوم في فراشه أولا: للتمويه على صناديد قريش وخداعهم «فالحرب خدعة» بأنه مازال نائما في فراشه، كي لا يسارعوا في تعقبه والقبض عليه، وثانيا: يرد الأمانات إلى أصحابها، كذلك دبر من الذي سيكلف بعملية المراقبة وتوصيل الأخبار عن رد فعل القرشيين وتحركاتهم المحمومة في البحث عنه وإلى أين يذهبون، هنا يظهر الرسول صلى الله عليه وسلم صاحب العقلية العبقرية، والحنكة السياسية، والرجل المسؤول الذي يتحمل الأمانة الكبرى التي أبت السموات والأرض عن حملها ، وقبل هذا وبعد هذا مؤمن أشد الإيمان أن العناية الإلهية تحدوه في كل خطوة وترعاه في كل حركة من حركاته (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ).

وأوضح قائلا: خرج الرسول صلى الله عليه وسلم مهاجرا ومعه أبي بكر الصديق متوجهين إلى الأرض الجديدة التي اختارها مركزا حضاريا لحكومته المقبلة ودولته الوليدة، وإشعاعا ساطعا لنشر الإسلام في أرجاء العالم أجمع. وهنا سنتوقف أمام موقفين خارقين يشكك فيهما بعض المستشرقين ومن يؤيد نهجهم من التغريبيين العرب. أولها: حادثة سراقة الذي أسرع يبحث عن الرسول صلى الله عليه وسلم بحماس شديد للقبض عليه بعد أن طرق سمعه المكافأة السخية والجائزة اليتيمة لم يقبض عليه. تؤكد الروايات التاريخية الموثوق بها أن فرس سراقة ساخت به الأرض أكثر من مرة حتى بان له الدليل الحسي والمعنوي فآمن بالرسول صلى الله عليه وسلم وكتم الخبر وعاد أدراجه نادما على جهله وتائبا إلى الله من فعلته.

كذلك حادثة الغار الذي آوى إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه صاحبه، بعد أن أنهكهم التعب وأرهقهم السفر وطول المسافة ومشقة الطريق، ــ وكل من سافر من مكة إلى المدينة بالحافلات الحديثة ــ يدرك مدى العناء، فما بال الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان يركب ناقته ويجوب بحر الصحراء الممتد والذي يبدو للعين الباصرة بلا نهاية ـ ثم إحاطة الكفار بالغار، ووقفوهم متحيرين هل من المعقول أن يكون لجأ إليه محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وعدم اقتحامهم الغار.. نقول نعم، ما دمنا نؤمن بوجود رب خالق مبدع لهذا الكون وهو الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه، وهو الذي أرسل رسله فهو الذي يرعاهم وينقذهم من المصائب الساحقة والأهوال الماحقة، وهناك موقف مماثل لسيدنا موسى حينما أدركه فرعون وقال له قومه (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)، وهذا ما حدث لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم فقد حماه الله ورعاه، فحينما قال أبو بكر له: إن الكفار إذا نظروا أسفل الغار لرأونا، رد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بثقة كاملة وإيمان عميق وهدوء قاطع: إن الله معنا (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، وهكذا كلما حلت ذكرى الهجرة، علينا أن نستفيد من أحداثها ووقائعها، ومن هذه التجربة التاريخية، ونأخذ بالأسباب في كل سلوكياتنا، ونخطط ليومنا ونضع البرامج لاستشراف المستقبل، وقبل هذا وبعد هذا نتوجه إلى الله ونهتف باسمه ونتضرع إليه وندعوه بحرارة وصدق الإيمان أن ينصرنا على القوم الظالمين.