الملف السياسي

العصـا الغلـيظـة .. تزيد الخلافات وتهز النظام الدولي !!

13 أغسطس 2018
13 أغسطس 2018

د.عبد الحميد الموافي -

إن العصا الغليظة التي يلوح بها ترامب أو يستخدمها بشكل مفرط سيكون لها تداعياتها على أمريكا ذاتها، وعلى الاقتصاد الدولي، وعلى الأطراف المستهدفة، وحتى لو قدم ترامب جزرة صغيرة أو كبيرة لطرف أو لأطراف إقليمية ودولية للحصول على مكسب ما فإن ما يحدث يدفع أطرافا عدة للدخول في صيغ تعاون وتنسيق أكبر بكثير مما هو حادث الآن،

في أقل من عشرين شهرا في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض استطاع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن يرسم صورة محددة له في تعامله وعلاقته مع حلفاء الولايات المتحدة وأعدائها، أو قل منافسيها على امتداد العالم، فهو يحمل عصاه الغليظة التي لا تفارقه، وهو مستعد دوما لأن يهوى بها على رؤوس المخالفين له، أو غير المتفقين مع توجهاته بشكل أو بآخر، وقد ترتب على ذلك خلال الأشهر الأخيرة نتائج وتطورات أثارت وتثير بالفعل مخاوف عديدة، وقلقا تنتشر وتتسع موجاته في مناطق العالم المختلفة، وبقدر تباهي ملياردير العقارات الأمريكي «ترامب» بمهارته في «عقد الصفقات» فإن شغفه الواضح باستخدام عصاه الغليظة يثير قلق وتوجس وترقب الآخرين من أصدقاء أمريكا وخصومها أيضا، خاصة أنه لا أحد يمكنه الادعاء بأنه يعرف بدقة ما يدور في عقل الرئيس الأمريكي، ولو بشكل تقريبي.

والمؤكد أن المشكلة ليست في العصا الغليظة الأمريكية في حد ذاتها، فليست كل عصا تبدو غليظة مؤثرة، أو فعالة أو مؤلمة بشكل قد يدفع المستهدف بها إلى الصراخ المسموع أو المكتوم، ولكن المشكلة في العضلات التي تحرك تلك العصا الغليظة، والأفكار والدوافع الكامنة وراء قرارات التلويح بها، أو استخدامها بالفعل في ظرف أو ظروف محددة ضد طرف أو أطراف معينة، ومن هنا فإن ثقل وأثر عصا ترامب الغليظة، أو بشكل أدق العصا الأمريكية الغليظة، فترامب لا يمثل نفسه، ولكنه يمثل الولايات المتحدة الأمريكية بحكم مهامه ومسؤولياته الرئاسية، يتولد أو يأتي من قوة أمريكا وعضلاتها التي تظل حتى الآن على الأقل في مركز القوة العظمى الأولى، بل الوحيدة في عالم اليوم، بغض النظر عن قبول أو استساغة أو رفض ذلك لأي سبب من الأسباب، فهذه هي حقائق الواقع الدولي الراهن، حتى الآن على الأقل، ونظرا لأن أمريكا هي ما هي فإن قرارات ومواقف وكلمات ترامب على «تويتر» تحظى بالطبع بالكثير من الاهتمام، فالولايات المتحدة لا تملك فقط كل عناصر القوة التقليدية والجديدة، ولكنها - كقيادة - تدرك حجم وأهمية وأثر ذلك على الآخرين، قريبين منها أو بعيدين عنها، والأكثر من ذلك أنها تميل - بشكل ظاهر - إلى استخدام عصاها الغليظة لإعادة صياغة جوانب محددة في علاقاتها مع الأطراف الدولية الأخرى، وبالطبع من منطلق العمل على تحقيق المصالح الأمريكية، وفي إطار شعار «أمريكا أولا» الذي رفعه ترامب خلال حملته الانتخابية عام 2016، وهو شعار يخترق كل الحواجز، بمبرر المصلحة الوطنية الأمريكية، وهي منطقة يصعب على أي طرف المجادلة فيها بشكل كبير، فعندما يتم رفع شعار المصلحة أو الأمن الوطني يسكت أو ينبغي أن يصمت الجميع، وعلى كل طرف تحمل مسؤولياته ونتائج قراراته.

وفي ظل سلسلة القرارات التي اتخذتها إدارة الرئيس الأمريكي ترامب، على مدى الأشهر الأخيرة، والتي اتخذت شكل فرض تعرفات جمركية إضافية على الواردات الأمريكية من الصلب والألمنيوم وسلع أخرى تستوردها الولايات المتحدة من الصين والاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك، إلى جانب إعادة فرض العقوبات الأمريكية على إيران، بل وتشديدها بشكل حاد اعتبارا من أوائل نوفمبر القادم، وفرض عقوبات تجارية على روسيا الاتحادية، وقبل أيام على تركيا، فإنه من الأهمية بمكان التوقف أمام ذلك، لسبب بسيط هو أن قرارات واشنطن لا يقتصر تأثيرها على الولايات المتحدة، ولكنها تؤثر على دوائر واسعة بامتداد العالم في الواقع، بحكم مركزية الاقتصاد الأمريكي والعملة الأمريكية - الدولار - في النظام الاقتصادي والمالي والتجاري الدولي الراهن، خاصة أنه نظام لعبت واشنطن ذاتها دورا بالغ الأهمية والتأثير في بنائه وتطويره منذ اجتماعات واتفاقيات «بريتون وودز» التي تشكل ركيزة للنظام الاقتصادي الدول الراهن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، قبل نحو ثلاثة وسبعين عاما، وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

*أولا: إنه بالرغم من أن السياسات الحمائية هي سياسات وإجراءات معروفة في العلاقات التجارية الدولية منذ قرون، إلا أن اللجوء الأمريكي إليها، يثير في الواقع تساؤلات، ليس فقط حول مدى التزام الولايات المتحدة بمبادئ سياساتها الليبرالية ونظام الاقتصاد الحر الذي عملت على إقامته ونشر قيمه في العالم، بل والحرب من أجل ذلك أحيانا من ناحية، وما إذا كانت الإدارة الحالية تسير نحو نظام اقتصادي دولي جديد بشكل ما، أو على الأقل هدم ما هو قائم من ناحية ثانية، ولكن أيضا حول المدى الذي يمكن الوصول إليه في نقض المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي تم التوصل إليها من قبل، بحجة أنها لا تفي بالمصالح الأمريكية، أو أنها تمت بالخداع، أو بالتفريط من جانب إدارات سابقة في المصالح الأمريكية، وهي أمور جدلية تتداخل فيها اعتبارات السياسة، وتصفية الحسابات على المستوى الداخلي، مع التزامات الدولة الأمريكية بما سبق أن تعهدت به من التزامات بموجب معاهدات واتفاقيات دولية لا يمكن القول أو الزعم بأن طرفا دوليا ما أجبر أمريكا، أو خدعها للوصول إليها تحت ظرف أو آخر .

وحتى إذا سلمنا بافتراض أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يستخدم عصاه الغليظة المتمثلة في العقوبات التجارية ضد الدول الأخرى، كأسلوب، أو مدخل لحمل الأطراف الأخرى على إعادة التفاوض حول اتفاقيات، أو للحصول على مكاسب تجارية، أو سياسية أو حتى إنسانية، مع هذا الطرف الإقليمي أو الدولي أو آخر، وهو ما ظهر بوضوح من خلال أكثر من حالة خلال الأشهر الماضية، حالات التعامل مع كوريا الشمالية وروسيا والاتحاد الأوروبي وإيران وتركيا، فإن منطق السلوك الأمريكي هذا يمكن أن يشجع أطرافا أخرى على الإحلال باتفاقياتها، أو التزاماتها الدولية، بزعم أو آخر، وهو ما يثير الشكوك في مدى نجاعة النظام الاقتصادي الدولي الراهن ويدفع به نحو التفكك والانهيار، حتى لو كانت أمريكا في ظل الإدارة الحالية لا تريد ذلك.

من جانب آخر فإن الاحتجاج بالمصالح الوطنية الأمريكية، واعتبارات الأمن القومي الأمريكي، وهي حق وطني لا جدال فيه، لأمريكا ولغيرها من الدول بنفس القدر أيضا، يفتح المجال للكثير من الدول للتهرب من التزاماتها الدولية عندما تريد القيام بذلك، والتهرب في الوقت ذاته من أي لوم خارجي في مواجهتها، بالاختباء وراء شعار المصالح الوطنية والأمنية، وهنا تكمن خطورة النموذج أو المثل، لأن أمريكا ليست دولة صغيرة، ولكنها دولة محورية في عالم اليوم. يضاف إلى ذلك السؤال السابق الإشارة إليه، وهو المتعلق بالمدى الذي يمكن أن تصل إليه حكومة لاحقة في إلغاء أو حتى إعادة التفاوض حول اتفاقيات تمت من قبل، في غير حالات الظروف القاهرة، وما يثيره ذلك من عدم اطمئنان وعدم ثقة فيما يمكن التوصل إليه من اتفاقيات بين الدول المختلفة، وهي نتيجة باتت مطروحة الآن على مستويات عدة، بغض النظر عن الدوافع الحقيقية وراء تلويح ترامب بعصاه الغليظة أو استخدامها .

*ثانيا: أنه بالرغم من إدراك الجميع لقوة وأهمية الاقتصاد الأمريكي بالنسبة للنظام الاقتصادي والتجاري والمالي الدولي الراهن، واستشعار مختلف الأطراف المعنية للأضرار التي تتعرض لها، إذا طبق ترامب قراراته بفرض المزيد من التعرفات الجمركية على واردات أمريكية محددة، كما يحدث الآن، أو نتيجة عقوبات تجارية تفرضها أمريكا من طرف واحد، كالحالة بالنسبة لروسيا وإيران وتركيا وباكستان، إلا أن الأمر له دوما جانبه الآخر، وذلك انطلاقا من نقطتين أساسيتين: - أولهما أنه في مجال التجارة والتعامل الدولي، ليس هناك كاسب بشكل تام وخاسر بشكل مطلق، ولكن هناك علاقة تفاعل وتداخل وتقاطع مصالح، تتأثر فيها مصالح كل طرف بدرجات متفاوتة، وهو ما يعني، كما قالجان كلود يونكر رئيس المفوضية الأوروبية وغيره أنه ليس هناك منتصر في الحرب التجارية، ولكن «هناك ضحايا فقط»، وبالتالي فإن أمريكا ذاتها ستتضرر جراء القرارات التي بدأت في تطبيقها مع الدول التي تستهدفها بإجراءاتها الحمائية والعقابية، وليس مصادفة أن يبادر ترامب بالموافقة على صرف 12 مليار دولار للمزارعين الأمريكيين لتخفيف الأضرار عن قطاع الزراعة الأمريكي، كما حذر صندوق النقد الدولي من احتمالات تأثر النمو العالمي بسبب إجراءات ترامب. أما تأثر الصناعات الأمريكية، ومنها السيارات مثلا، فقد حذرت آراء عديدة من حدوث ذلك، بالنظر لأن الكثير من مكونات السيارات والصناعات التقنية الأمريكية يتم إنتاجها في الخارج وتستورده أمريكا لتشغيل مصانعها وإكمال دورة الإنتاج فيها، وبذلك يكون جزء من الضرر قد عاد على المستهلك وعلى الاقتصاد الأمريكي، برغم أن الهدف الذي يتحدث عنه ترامب هو عكس ذلك.

- أما النقطة الثانية، فإنها حتى وإن استطاع الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، أو كندا والمكسيك، أو حتى الصين التوصل إلى توافق ما مع ترامب لوقف الإجراءات الأمريكية، ومنح ترامب ما يمكنه من التباهي به في الداخل، على حساب إدارة أوباما بالطبع، وهو بالمناسبة لا يمانع من ذلك، إذ إنه لم يغلق باب التفاوض مع أي طرف ليحصل على ما يعتبره هو مكسبا ما، حتى لو كان إعلاميا كما حدث مع كوريا الشمالية حتى الآن على الأقل، إلا أن المؤكد أن قرارات ترامب لن ينتهي تأثيرها، حتى لو توقفت المبارزة والحرب التجارية مع الأطراف المشار إليها، وذلك لسبب بسيط هو أن الدول.

وخاصة تلك التي تتعرض لضغوط أو لمشكلات تسببها أطراف أخرى أقوى منها، تحاول دوما الاستفادة بتجاربها، والعمل على التقليل من إمكانية، أو مدى التعرض لمثل تلك الضغوط في المستقبل، ومن هنا تحديدا فإن الخطر الذي تتعرض له أمريكا يتمثل في أن إدارة ترامب تسبب لنفسها مشكلات مع عدد كبير من الأطراف الدولية المؤثرة، حليفة وغير حليفة، في وقت واحد، وهو ما ينطوي على احتمال ظهور تكتلات إقليمية أو دولية في مواجهتها بشكل أو بآخر، حتى ولو بعد سنوات، وفي هذا المجال، وعلى سبيل المثال فإن دول الاتحاد الأوروبي تفكر في سبل تقوية مواقفها الاقتصادية والتجارية وحتى الدفاعية أيضا، وكانت قمة الدول السبع الصناعية الكبرى في كيبيك بكندا وقمة الناتو في بروكسل مؤخرا، والأسلوب المهين الذي استخدمه ترامب، نقطة تحول بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي بدأت آثاره في الظهور تدريجيا وستزداد في المستقبل. من جانب آخر فإنه ليس مصادفة أن يحدث تنسيق وتعاون تجاري أكبر بين الاتحاد الأوروبي والدول الآسيوية، أو بين دول الباسيفيك، أو بين روسيا والصين، سواء على المستوى الثنائي، أو في إطار مجموعة شنغهاي ومجموعة البريكس. صحيح أن كل الأطراف لا تود مناطحة أمريكا؛ لأنها لا تقدر عليها، ولكن الصحيح أنه بدأت تحركات على مستويات عدة للحد من تأثير التوجهات التي يميل ترامب إلى السير فيها، وبدأ يظهر ذلك ولو بقدر محدود بالنسبة لعقوبات ترامب ضد إيران، إذ إن هناك عددا غير قليل من الدول أبدى معارضة، أو تحفظا بشكل ما بالنسبة لتلك العقوبات، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين، وهو ما ستتضح أبعاده في الفترة القادمة، خاصة بعد 6 نوفمبر القادم.

على أية حال فإن العصا الغليظة التي يلوح بها ترامب أو يستخدمها بشكل مفرط، سيكون لها تداعياتها على أمريكا ذاتها، وعلى الاقتصاد الدولي، وعلى الأطراف المستهدفة، وحتى لو قدم ترامب جزرة صغيرة أو كبيرة لطرف أو لأطراف إقليمية ودولية للحصول على مكسب ما، فإن ما يحدث يدفع أطرافا عدة للدخول في صيغ تعاون وتنسيق أكبر بكثير مما هو حادث الآن، وذلك لحماية مصالحها في مواجهة الفيل الهائج الذي سيكتشف في النهاية أنه تسبب في خسائر كثيرة له وللآخرين وللنظام الاقتصادي الدولي.