الملف السياسي

حرب تجارية لا ضرورة لها وتضر الجميع !!

13 أغسطس 2018
13 أغسطس 2018

د. صلاح أبونار -

إن سلبيات التصعيد التجاري الأمريكي لا تقف عند تناقضات منطقه. مع إعلان القرارات وتتابعها وردود الفعل الصينية تبلورت وانتشرت ثلاث رسائل تحذيرية امتلكت منطقا صلبا. جاءت الأولى من داخل أمريكا تحذر من التداعيات الاقتصادية الداخلية السلبية، في صورة معارضة داخلية ليست هامشية من داخل قطاعات هامة مثل الزراعة الرأسمالية وصناعة البناء.

اطلق تقرير سنوي للبنك الدولي يصدر تحت عنوان «توقعات اقتصادية عالمية»، في نسخته الأخيرة يونيو 2018 التحذير التالي: «مع تصاعد النزاعات التجارية بين الولايات المتحدة وشركائها التجاريين الكبار، ازدادت بقوة المخاطر الناجمة عن تصعيد القيود على التجارة العالمية» واستطرد : «وسوف تسفر الزيادة العالمية واسعة النطاق في الرسوم الجمركية، عن نتائج وتداعيات خطيرة تضر بالتجارة والنشاط التجاريين العالميين. وإذا تخطت زيادة الرسوم الجمركية معدلاتها القانونية، قد يؤدي هذا إلى انحدار في تدفقات التجارة العالمية يصل إلى 9%، أي معدل مماثل للسقوط الذي شهدته أزمة 2008 -2009 ».

حلق ترامب في سماء السياسات الأمريكية ممتطيا جواد الشعبوية المجنح، وعندما نحلل تلك النزعة الشعبوية سنجدها مكونة من عناصر خليطة، أبرزها النزعة الحمائية الاقتصادية. ويسجل المحللون أن هذه النزعة الحمائية هي التي مكنت ترامب من اكتساب أصوات ولايات كانت تقليديا تصوت للديمقراطيين، واكتساب دعم بعض النقابات الذين ارتفعت نسبة البطالة داخل عمالها، نتيجة لتأثير التدفقات التجارية العالمية. لم تكن هذه النزعة وافدا، فلقد قد انطلقت فعليا منذ أزمة 2009، ولكن بخطى محسوبة ووئيدة. وما حدث ان شعبوية ترامب أطلقتها من عقالها، ليس فقط بمعيار قوة الإجراءات وتتابعها السريع، بل أيضا بمعنى التأطير الفكري الجديد لها الذي ينزع صراحة لاتخاذ مسافة واضحة من منظمة التجارة العالمية والقواعد المنظمة لعملها. وهكذا ما إن دخل الرئيس الجديد إلى المكتب البيضاوي حتى انطلقت الحمائية انطلاقتها الجديدة والقوية.

في 31 مارس 2018 فرض ترامب رسوما جديدة على الصلب والألمنيوم المصدرين إلى أمريكا، واستثنى اغلب المصدرين حتى أول مايو ولكن الصين لم تستثن. وفي أبريل ردت الصين بفرض رسوم على 128 سلعة أمريكية. وبعدها مباشرة صرح ترامب انه على ضوء رد الفعل الصيني، اصدر أمرا بدراسة اذا ما كانت رسوم جديدة قيمتها مائة بليون دولار سوف تكون ردا مناسبا للموقف. وفي 15 يونيو أعلنت بكين أنها ستفرض رسوما نسبتها 25% على 545 سلعة أمريكية، قيمتها 34 بليون دولار. وفي 18 مايو رد ترامب على الرد الصيني فأمر بإعداد قائمة بسلع صينية جديدة، تفرض عليها رسوم بنسبة 10% قيمتها 200 بليون دولار إذا نفذت بكين تهديداتها، والاستعداد برسوم أخرى قيمتها 200 بليون أيضا تضاف إلى نسبة رسوم السلع السابقة. وفي 10 يوليو أصدر ترامب القرار الخاص بالقائمة الأولي وتناول 500 سلعة صينية. وفي الأول من أغسطس واصل تنفيذ تهديداته، فأمر برفع الرسوم على السلع المعتمدة في الرفع الأخير من 10% إلى 25%.

إلا أن ما سبق لا ينبغي أن يعمينا عن حقيقة أن العالم كله كان يسير في اتجاه الحمائية منذ أزمة 2008 - 2009، ولكن بإيقاع معتدل ومع الحرص على حماية قواعد ومؤسسات التجارة العالمية. وتخبرنا الإحصائيات بالكثير. فيما بين 1986 - 2006 نمت التجارة العالمية بمعدل 6.5% سنويا، ولكن معدل نموها انخفض فيما بين 2002 - 2015 إلى 3.2% فقط. وفيما بين 2009 و2017 ارتفع عدد الإجراءات الحمائية، المناهضة لحرية التجارة من 1000 إلى 7027 إجراء، ووصلت قيمة الواردات التي تأثرت بها إلى 684 بليون دولار. وفيما بين 2008 و2016 كان عدد الإجراءات التجارية التمييزية التي تبنتها الدول العشرين الكبار، على النحو التالي: الولايات المتحدة 1070، والهند 580، والأرجنتين 400، وألمانيا290، وبريطانيا 280، والصين 250 إجراء. وبالتوازي مع ذلك انخفض عدد الاتفاقيات المنظمة للتجارة الحرة، الموقعة سنويا من 144 في 1995 إلى 7 فقط في 2015.

ركز التبرير الرسمي للإجراءات الأمريكية على ثلاث حجج: العجز الهائل في الميزان التجاري مع الصين، والذي تحقق في سياق انتهاك الصين لقواعد حرية التجارة، والناتج عن انفتاح السوق الأمريكي أمامها وتقييد الفرص الأمريكية داخل السوق الصيني. والتأثير المدمر للتدفقات السلعية الصينية على قطاع من الصناعات الأمريكية، ساهم في ارتفاع البطالة الأمريكية. والممارسات الصينية المنتهكة لقواعد حرية التجارة وحقوق الملكية الفكرية.

ولا يرفض الموقف الناقد للإجراءات الأمريكية هذه الحجج كليا، لكنه يرى فيها قدرا من الصواب، وقدرا اكبر من الخطأ الناتج عن سوء التفسير والنزوع للتبرير. يعترف النقاد بخلل الميزان التجاري الجسيم. بالبليون دولار، عام 1980 بلغت قيمة صادرات أمريكا للصين 3.8 بليون دولار، مقابل واردات قيمتها 1.1 بليون دولار، وفي 1990 أصبحت صادراتها 4.8 بليون مقابل 15.2 بليون للواردات، وإذا وصلنا 2017 وجدنا الصادرات 130.4 بليون دولار مقابل 505.6 بليون دولار للواردات، أي بعجز مقداره 375.2 .بليون دولار في العام الماضي فقط . وهنا يشيرون إلى أن أمريكا عانت عجزا تجاريا على مدى أربعين عاما متصلة، عرفت فيها بعض افضل فترت ازدهارها الاقتصادي. فالعجز بالتالي ليس جديدا، وليس سلبيا في حد ذاته، وما يكسبه السلبية هو السياق الاقتصادي الكلي. ويستطردون ان اعتبار الفائض كله صينيا يتجاهل واقع العولمة ودور الشركات المتعدية للقوميات فيها. واذا اخذنا هذا الفعل في الحسبان سوف يكون نصيب الصين اقل كثيرا من ظاهر الأرقام، لان الصين نقطة نهاية التصدير منتجات عالمية تتم عبر الشركات المتعددة القوميات. ويشيرون الى انه في 1990 كانت نسبة الواردات الأمريكية من كل دول ساحل الباسفيك الآسيوي 47.1% من إجمالي واردات أمريكا، منها 3.6% فقط من الصين. وفي 2015 استمرت نسبه الواردات من نفس الدول كما هي 47.1%، ولكن نسبة الصين ارتفعت إلى 26.4%. وتفسير الأمر ان الشركات متعددة القوميات نقلت جزءا من نشاطها إلى الساحل الصيني، وهكذا اصبح يصدر باسم الصين. ويضربون نموذجا باليابان، ففي 1990 كانت تستحوذ على 23.8% من واردات أمريكا من السلع المصنعة، وفي 2017 هبطت نسبتها إلى 7% فقط. ونفس النقاد يؤكدون على الفكرة باستخدام حساب القيمة المضافة عبر سلاسل القيمة العالمية. في عام 2011 وصل إجمالي القيمة المضافة لصادرات الصين من السلع المصنعة إلى 40.2%، ولو تم حساب العجز التجاري مع الصين بهذا الأسلوب، سوف ينخفض نصيب الصين من 278 بليون إلى 181 بليون دولار. وفي هذا السياق يضربون نموذجا عمليا بإنتاج شركة آبل لجهاز آي فون. تنتج آبل آي فون في الصين عن طريق شركة تايوانية، وتستخدم 200 شركة مزودة بالمنتجات لديها 900 منشأة إنتاجية على امتداد العالم، وبحساب القيمة المضافة من غير صينيين في إنتاج الجهاز، ستصل تلك القيمة إلى 96.4% مقابل3.6% للصين.

وفيما يتعلق بتأثير التدفق السلعي الصيني على البطالة في أمريكا، يرى نفس النقاد ان هذا التأثير السلبي مؤكد، ولكن يصعب حسابة بدقة. هكذا تتفاوت تقديراته تفاوتا حادا. فيما بين عامي 2000 و2008، هبط عدد العمال الأمريكيين في الصناعة من 16.9 مليون إلى 11.2 مليون عامل. ويرى بعض الباحثين ان التدفق السلعي الصيني ساهم بحوالي 40% من هذا الهبوط. وفي المقابل هناك دراسة أمريكية أجريت عام 2017 ترى ان التجارة الخارجية عامة وليس مع الصين حصرا، مسؤولة فقط عن فقدان 13% من الوظائف، بينما فقد 88% وظائفهم بسبب تأثير الاتمتة. ويضيف نفس النقاد انه في الحدود التي يتوجد فيها هذا التأثير، يصعب اعتبار النسبة مردودا صافيا للتدفقات الصينية، فهي أيضا انعكاس لمرونة الاقتصاد الأمريكي، وقدرته على تدوير العمالة، ووعي السلطات بمخاطر سياساتها، وقدرتها على وضع برامج لإعادة تأهيل العمالة.

وفيما يتعلق بتهمة إجبار الشركات الأمريكية على نقل التكنولوجيا وإهدار حقوق الملكية الفكرية. يرى النقاد أنها تهمة غير دقيقة، وان الممارسات الصينية لا تنتهك القواعد المنظمة للتجارة، أو على الأقل لا تنتهكها بشكل سافر. ما يحدث ان الصين تنتفع بحقها في الشراكة مع الشركات الأجنبية في مجالات معينة، وبالتالي تمارس حقها القانوني في تحديد شروط الشراكة. وفي هذا السياق تشترط قيامها بإنتاج جزء من المنتج محليا، ويترتب على ذلك بالضرورة معرفة تكنولوجيا الإنتاج. وفي المقابل تقدم للشركات فرصة التغلغل في اقتصادها الواسع ذي المزايا الهائلة، بالتالي لا تفرض على احد شيئا بل ستجد من يتنافس على تلبية شروطها للانتفاع من حجمها الاقتصادي. وهكذا يصبح أساس النقاش هل من القانوني إجبار الشركات الأجنبية على الشراكة؟ لا يوجد قانون يحرم هذا. ويضيفون ان الممارسة الصينية ممارسة شائعة، وشكلت الطريق الذهبي للنمور الآسيوية.

غير ان سلبيات التصعيد التجاري الأمريكي لا تقف عند تناقضات منطقه. مع إعلان القرارات وتتابعها وردود الفعل الصينية، تبلورت وانتشرت ثلاث رسائل تحذيرية امتلكت منطقا صلبا. جاءت الأولى من داخل أمريكا تحذر من التداعيات الاقتصادية الداخلية السلبية، في صورة معارضة داخلية ليست هامشية من داخل قطاعات هامة مثل الزراعة الرأسمالية وصناعة البناء، وفي صورة صعود مناخ عدم الثقة والإحجام عن المبادرة وتراجع البنوك عن قرارات التمويل وهروب رؤوس الأموال. وجاءت الثانية من الدوائر السياسية والاقتصادية العالمية العليا، وتحذر ان ما يجري يحمل بوضوح دلالة تخلي القوة القائدة للنظامين السياسي والاقتصادي الدولي عن مهامها القيادية، الأمر الذي يعني أننا نواجه عملية تفكك للنظام تنطلق من مركزة وليس من أطرافه. وجاءت الثالثة من البنك الدولي تحذر من التدهور المؤكد إذا استمر التصعيد المتبادل، في معدلات التصدير والدخل والنمو والاستثمار والتمويل، و مستوى الالتزام بالاتفاقيات الدولية، على اتساع العالم كله.