أفكار وآراء

واشنطن وبكين.. وحرب التكنولوجيا

08 أغسطس 2018
08 أغسطس 2018

عبد العزيز محمود -

لا خلاف على تصاعد النزاع التجاري الأمريكي الصيني، بعد أن فرضت الصين رسوما جمركية جديدة على واردات أمريكية قيمتها ٦٠ مليار دولار، رداً على قيام الولايات المتحدة بفرض رسوم جمركية جديدة على واردات صينية قيمتها ٢٠٠ مليار دولار.

ولا خلاف أيضا على أن النزاع قد يتحول إلى حرب تجارية، فقد هددت الصين باتخاذ مزيد من الإجراءات الانتقامية ضد السلع الأمريكية، في حال فرضت الولايات المتحدة رسوما جمركية على كل وارداتها من السلع الصينية.

والمؤكد أن الخلاف بين البلدين يتجاوز قضية العجز في الميزان التجاري الذي يقدر بنحو ٣٧٥ مليار دولار لصالح الصين، إلى حرب تكنولوجية لإبطاء برنامج (صنع في الصين ٢٠٢٥ ) الذي يستهدف الهيمنة على الأسواق العالمية للتكنولوجيا فائقة التطور بحلول عام ٢٠٤٩.

وهذا ما دفع واشنطن لاتهام بكين بانتهاك قواعد التجارة الدولية، عبر المعاملة التمييزية للاستثمارات الأجنبية، ونقل التكنولوجيا قسريا، وممارسة التجسس السيبراني في مجالات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والروبوتات والذكاء الاصطناعي، وهو ما نفته الصين.

كما أشعل معركة التعرفات الجمركية - وهذا هو التحول الأخطر- لإجبار الصين على إجراء تغييرات اقتصادية هيكلية، تؤدي إلى إبطاء أو توقف تقدمها الصناعي والتكنولوجي، حتى لا تصبح منافسا استراتيجيا رئيسيا للولايات المتحدة.

لكن بكين قررت الرد بالمثل، مع التصعيد بشكل نسبي، بالنظر إلى أنها تشتري أقل من الولايات المتحدة، حيث تقدر وارداتها منها بنحو ١٣٠ مليار دولار سنويا، مقابل صادرات بنحو ٥٠٥ مليارات دولار سنويا.

مع تمسكها بحقها في تطوير صناعاتها التكنولوجية فائقة التطور، عبر برنامج (صنع في الصين ٢٠٢٥) الذي أعلنه الرئيس الصيني شي جين بينج في عام ٢٠١٥ بهدف أن تحقق بلاده الاكتفاء الذاتي في تلك الصناعات بنسبة ٤٠٪ عام ٢٠٢٠ ثم ٧٠٪ عام ٢٠٢٥ تمهيدا للتقدم على الغرب تكنولوجيا بحلول عام ٢٠٤٩، في الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية الصينية.

والحقيقة أنها أهداف يمكن تحقيقها، فالاقتصاد الصيني حاليا هو أكبر اقتصاد صناعي في العالم (أكبر مُصدِر للسلع وثاني أكبر مستورد عالميا)، وحتى عام ٢٠١٥ كان الاقتصاد الأسرع نموًا ، طبقا لتقديرات صندوق النقد الدولي، بمعدل نمو ١٠٪ في المتوسط سنويا.

وبهذا البرنامج تتبنى الصين نفس تجربة ألمانيا (الخطة 4 ) لتطوير صناعة التكنولوجيا والانترنت وأنظمة الحواسيب والذكاء الاصطناعي، فيما يعرف باسم الثورة الصناعية الرابعة،وهي ثورة تستهدف محو الخط الفاصل بين المجالات المادية والرقمية والبيولوجية في صناعات الروبوتات وتكنولوجيا النانو والتكنولوجيا الحيوية وتكنولوجيا الجيل الخامس لاسلكيا والتقنيات البيولوجية وطباعة الأبعاد الثلاثة، لإحداث نقلة غير مسبوقة في نظم الإنتاج والإدارة والتحكم.

ولعل هذا ما دفع وكالات الاستخبارات الأمريكية للتحذير من محاولات الصين تجنيد علماء أجانب والاستحواذ على الملكية الفكرية والسيطرة على سلاسل توريد الإلكترونيات الحديثة وصناعة (الكوبالت) الذي يستخدم في صناعة السبائك شديدة الصلابة في الولايات المتحدة.

كما دفع البنتاجون للتحذير من أن الاستثمارات الصينية في الشركات الأمريكية العاملة في برامج الطباعة ثلاثية الأبعاد ونظم الواقع الافتراضي والمركبات الذاتية تتخطي الحد الفاصل بين التقنيات المدنية والعسكرية.

وهكذا صعدت الولايات المتحدة إجراءاتها ضد الصين بتشديد إجراءات حماية الملكية الفكرية، وحظر استحواذ رأس المال الصيني على شركات التكنولوجيا الأمريكية، بعد أن تجاوزت قيمة عمليات الاستحواذ ٤٥ مليار دولار خلال عام ٢٠١٦، وتقييد قدرة شركات التكنولوجيا الصينية على بيع منتجاتها أو التعاقد مع وكالات حكومية، وتوسيع صلاحيات لجنة الإشراف على الاستثمارات الأجنبية.

وكان الهدف الأمريكي واضحا وهو إبطاء برنامج الصين لتحديث صناعاتها التكنولوجية فائقة التطور والتي تشمل أيضا السيارات الكهربائية والتكنولوجيا الزراعية وهندسة الطيران والأدوية الحيوية والبنية التحتية المتقدمة للسكك الحديدية والهندسة البحرية.

ومع تقدم المباحثات الأمريكية مع الاتحاد الأوروبي بشأن التعرفة الجمركية على السيارات، ومع المكسيك بشأن اتفاقية التجارة الحرة مع أمريكا الشمالية (نافتا)، تهدد واشنطن بفرض تعرفات جمركية جديدة علي كل الواردات الصينية وقيمتها ٥٠٥ مليارات دولار.

وفي المقابل تهدد الصين بمزيد من الإجراءات الانتقامية ضد الواردات الأمريكية، قد تشمل فرض رسوم جمركية على وارداتها من النفط الأمريكي الخام، مع التلويح بإمكانية تخفيض قيمة عملتها (اليوان)؛ لتشجيع الصادرات، ومعالجة تباطؤ الاقتصاد، فتخفيض قيمة (اليوان) ما بين ٦ إلى ٧٪ سوف يخفف الآثار السلبية للتعريفات الجمركية الأمريكية، ويجعل الصادرات الصينية الأرخص عالميا.

من جهة أخرى تتمسك الصين بمواصلة تنفيذ برنامج (صنع في الصين ٢٠٢٥)، الذي لا يضمن لها فقط الهيمنة على الأسواق العالمية للتكنولوجيا فائقة التطور بحلول عام ٢٠٤٩، بل وتحسين مستوى معيشة المواطن الصيني، الذي لا يتجاوز دخله حاليا ٨ آلاف دولار سنويا، مقارنة بـ٥٦ ألف دولار هي متوسط الدخل السنوي للمواطن الأمريكي.

ومع تبادل العملاقين الاقتصاديين التهديدات بالمضي قدما في معركة التعرفات الجمركية، التي قد تتحول إلى حرب تجارية، تعكس صراعا استراتيجيا وتكنولوجيا، يتوقع صندوق النقد الدولي تراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي الصيني من ٦.٧٪ إلى ٦.٦٪ خلال عام ٢٠١٨ ومن ٦.٤٪ إلى ٦.٢٪ عام ٢٠١٩، وارتفاع العجز المالي الأمريكي إلى أكثر من تريليون دولار بحلول عام ٢٠٢٠رغم كل الجهود الأمريكية للسيطرة عليه.

وهكذا يخسر أكبر اقتصادين عالميين في المواجهة الجارية بينهما، التي قد تتصاعد بشكل غير مسبوق، مع تصميم واشنطن على حماية هيمنتها المنفردة على العالم، ودفاع بكين عن حقها في التقدم الصناعي والتكنولوجي؛ لتوسيع دائرة نفوذها العالمي في القرن 21، وهذا هو جوهر الصراع الأمريكي الصيني.