أفكار وآراء

ثلاثية المياه والنفط والسياسة في الشرق الأوسط

04 أغسطس 2018
04 أغسطس 2018

د. عبد العاطى محمد -

مع هول الأحداث الجارية على أرض الشرق الأوسط تحتل التطورات الدامية وما يترتب عليها من مآسٍ إنسانية الاهتمام الأكبر في أوساط الرأي العام، وهو أمر طبيعي بحكم أنها شديدة التأثير على استقرار وأمن المنطقة، ومن ثم على أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية. ولكن هذا لا يجب أن يبعد النظر عن الصلة بين الأزمات السياسية الجارية وبين قضيتين محوريتين أخريين قد لا تجدان نفس الاهتمام وهما المياه والنفط أو الطاقة، وذلك لأن القضايا الثلاث يؤثر كل منها في الآخر إلى حد كبير.

حتى اندلاع موجات التغيير التي ضربت عدة بلدان عربية وأحدثت هزة كبرى في استقرار المنطقة وفتحت أبوابا من الصراعات لا حد لها، لم تكن هذه الثلاثية واضحة أو بالقوة التي أصبحت عليها الآن. فمن الصحيح أن ندرة المياه حظت باهتمام رسمي وجماهيري اتسم بالقلق الشديد طوال السنوات العشر الأولى من القرن الحادي والعشرين. وأشاع هذا القلق ما تردد آنذاك تحت مسمى حروب المياه في الشرق الأوسط. ولم يكن المسمى تعبيرا عن حروب قد وقعت بالفعل، ولكنه كان تعبيرا عن الهواجس الشديدة بأن ندرة المياه ستؤدي بالضرورة إلى وقوع حروب هنا أو هناك. كما أن المسمى لم يكن قاصرا على المنطقة، وإنما كان ممتدا إلى العالم كله، بما كان يعني أنه همّ عالمي يهدد استقراره وأمنه، خاصة مع تزايد المخاطر من تغيرات المناخ بسبب الاحتباس الحراري الناتج عن تلوث البيئة من الغازات السامة المنبعثة من المصانع.

وقد أدى القلق إلى حدوث توتر في العلاقات بين عديد الدول المتنافسة على المياه والتي تعاني نقصا حقيقيا في موارده سواء كانت من الأنهار أو من جوف الأرض. وكان هذا التوتر مؤشرا على عدم الاستقرار والتهديدات الأمنية ونالت منطقة الشرق الأوسط النصيب الأوفر منه. ولكن ما كان واضحا من ملف قضية محورية كهذه هو أنها نشأت لأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى، أي لحاجة التنمية ولمواجهة ازدياد أعداد السكان ومن ثم ارتفاع المطالب بالحصول على المياه بوصفها «دم الحياة». لم يكن للخلافات السياسية دور في خلق هذه المشكلة، وإنما كانت نتيجة لحدوثها. فما أن بدأت نواقيس الخطر تدق عبر تقارير عديد من المنظمات الدولية المختصة وتقارير الأمم المتحدة ذاتها، حتى اكتسبت القضية لونها السياسي بين الدول المشتركة في أحواض الأنهار سواء في المنطقة أو خارجها. فطالما هناك ندرة، لا يكون غريبا أن تتصارع الأمم على المياه وأن تتخذ حكوماتها ما تراه ضروريا في هذا الشأن حتى لو اصطدم بما تريده دول أخرى، وعليه بدأت العلاقات تتعكر بين عديد من الأطراف بعد أن كانت جيدة!. ومن هنا جاء الإحساس العام بأن العالم ومنطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص نظرا لندرة المياه فيها تقف على أبواب الحروب.

هكذا بدأت القضية اقتصادية وتحولت إلى سياسية من المقام الأول، وبعد أن اتخذت اللون السياسي عمقت من حدة الطابع الاقتصادي لها، لأن كل المعنيين بها زادت تكلفتهم في البحث عن حلول لتجنب ندرة المياه وهو أمر كان متوقعا، فما يمكن تحقيقه اقتصاديا في ظل علاقات سياسية طيبة أقل تكلفة بالتأكيد عما يحدث في ظل علاقات سيئة أو متوترة.

القصة لم تتغير الآن عما كانت عليه من قبل، بل أصبحت أكثر خطورة وتأثيرا سلبيا على الواقع الاقتصادي والسياسي في الشرق الأوسط، لأن التقديرات الدولية بخصوص مستقبل المياه تواصل دق أجراس الخطر، ولأن الأطراف المعنية لم تتمكن من الحد من خطورة المشكلة بسبب تزايد خلافاتها السياسية وظهور أزمات جديدة لم تكن في الحسبان صرفت الجهود عن العمل الجماعي الفعال لتحجيم التداعيات السلبية لندرة المياه. ويستطيع القارئ البسيط بنقرة سريعة على جوجل مثلا بحثا عن واقع القضية أن يجد ما يؤكد ذلك. منذ 6 سنوات صدر تقرير للأمم المتحدة يحذر من أن العالم مقبل على كارثة في المياه العذبة بحلول عام 2030 حيث سيعيش نصف سكان العالم في مناطق شحيحة المياه منهم ما يصل إلى 250 مليون نسمة في إفريقيا. وبحلول عام 2025 ستعانى 30 دولة من ندرة المياه منها 18 دولة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ومن جهة أخرى سيؤدي شح المياه في المناطق الجافة وشبه الجافة إلى نزوح أو هجرة قسرية داخلية لنحو 700 مليون في العالم. والمعنى أن خطر ندرة المياه قائم ومتزايد عاما بعد الآخر مما يعني بالتالي عرقلة النمو الاقتصادي وحدوث عدم استقرار سياسي.

لو أنزلنا هذه التحذيرات على أرض الواقع في المنطقة، سنجد عديد الشواهد التي تجعل ندرة المياه أزمة اقتصادية وسياسية في آن واحد وكل منهما أصبح يؤثر في الآخر بما يزيد الأزمة صعوبة. الشواهد قائمة في العراق وسوريا ومصر وليبيا على سبيل المثال لا الحصر. فمنذ أن بدأ دق ناقوس الخطر هناك خلافات على المياه بين تركيا وكل من سوريا والعراق حول مدى استفادة كل منهم من مياه نهري الفرات ودجلة، وأصبح البلدان الأخيران يعانيان من شح المياه برغم مرور النهرين بأراضيهما بسبب مشروعات السدود التي أقامتها تركيا. وزاد من عمق الأزمة ما جرى للبلدين من دمار في البنى التحتية لمياه النهرين بسبب عدم الاستقرار السياسي والعمليات المسلحة القائمة على أراضيهما. والحال كذلك بشكل أقل حدة بالنسبة لنهر الأردن والتنافس على مياهه بين الدولتين المشاركتين في حوضه بجانب الأردن وهي سوريا ولبنان، والأطراف الثلاثة متأثرة بكل تأكيد بمناخ عدم الاستقرار السياسي الناتج عن الحرب في سوريا. وبالنسبة لمصر هناك أزمة ندرة في المياه برغم وجود نهر النيل نظرا لتزايد عدد السكان ووجود خلافات حول مياه النيل بين الدول المشتركة في حوضه وخاصة بين مصر وإثيوبيا مع قيام أديس أبابا ببناء سد النهضة. وفي كل الأمثلة المشار إليها يجري استخدام المياه كسلاح سياسي للضغط على الجيران بغض النظر عن الطابع الاقتصادي الحقيقي للقضية.

والسياسة ليست بعيدة عن الأجواء التي تحيط بثروة النفط في الشرق الأوسط، وإن كان الأمر مختلفا بعض الشيء عن علاقة السياسة بأزمة المياه. ففي حالة النفط نحن لسنا أمام قضية ندرة كما هو قائم بالنسبة للمياه، بل على العكس تماما هناك وفرة كبيرة جعلت المنطقة واحدة من أهم مناطق العالم الإستراتيجية يتنافس على ودها الجميع. وإذا كانت المياه هي «دم الحياة» فإن النفط هو طاقتها المحركة وصانعة تطورها. ونظرا لتوفره من ناحية وأهميته الاقتصادية الفائقة من ناحية أخرى، حظي إقليميا وعالميا بحماية ذاتية حصنته من خلافات السياسة ومشكلاتها، حتى أصبح من المتعارف عليه إنه يمكن حدوث تصعيد في أي خلاف كان إلا المساس بتدفق الذهب الأسود. ومع ذلك لم يسلم النفط من تأثير الأزمات السياسية بمعنى استخدامه كسلاح للضغط على الآخرين لتحقيق أهداف سياسية، ولكن استخدامه بهذا المعنى يأتي في سياق أزمة سياسية يراد لها أن تتعدى نطاقها الإقليمي إلى الدولي، بشرط أن تتوافر الإرادة الجماعية على كيفية مواجهة هذه الأزمة. هكذا جرى استخدامه سياسيا في حرب أكتوبر 1973 للضغط على الأطراف الغربية الصديقة لإسرائيل ودعما للموقف المصري. وعندما جرت محاولة استخدامه سياسيا في حرب الخليج الأولى لم تنجح المحاولة لغياب الإرادة الجماعية. و الموقف نفسه يتكرر الآن في ظل المواجهة القائمة بين إيران والولايات المتحدة، حيث لا إرادة جماعية على استخدام النفط كسلاح سياسي هذه المرة أيضا. ولو نظرنا لما هو قائم من خلافات بين أوروبا من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى، نجد أن الطاقة المتمثلة هنا في الغاز الطبيعي تفرض نفسها على الأزمة. فقد أراد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ضمن ما أراد من خلافاته الاقتصادية مع حلفائه الأوروبيين، أن يضغط سياسيا على روسيا مستغلا حاجة الأخيرة لأوروبا لما تصدره لها من كميات هائلة من الغاز. ولكن أوروبا لم تستجب لضغوط ترامب، أي أنها شكلت إرادة جماعية رافضة لهذا المطلب ثم لم تنجح المحاولة.

ولكن هذا كله لا ينفي أن العلاقة وثيقة بين النفط والسياسة، كل منها يتأثر بالآخر، وإن كان من فرّق بين حالتهما وحالة السياسة والمياه فإنه يتحدد في أن السياسة هي التي تحرك النفط وتنقله من الوضع الاقتصادي إلى الوضع السياسي، بينما تظل قضية المياه اقتصادية بامتياز يترتب عليها لاحقا أزمات سياسية وليس العكس.

وطالما تبقى السياسة قاسما مشتركا مع كل من المياه والنفط بما يشكل المثلث الحيوي في مسار الشعوب، فإن ما تتيحه من فرص للتفاوض أو التوافق وتقديم التنازلات المتبادلة هو المصدر الصحيح لاستخلاص الحلول للأزمات التي تنتج عن ندرة المياه من ناحية، والزج بالنفط أو مصادر الطاقة في معترك الأزمات السياسية من ناحية أخرى.