أفكار وآراء

عالم ما بعد البريكس !!

03 أغسطس 2018
03 أغسطس 2018

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

ضمن المحاولات الجادة لرسم خطوط ونسج خيوط ما بعد النظام العالمي الجديد، تأتي محاولة دول (البريكس) لخلق عالم مواز للعالم الحالي، وقد كانت القمة التي عقدت لأعضاء (البريكس) في جنوب افريقيا في الفترة من 25 الى 27 من يوليو الماضي خير دليل على وجود إرادة أممية قوية لعدم التسليم لقوة بعينها أو قطب واحد لمقدرات العالم والتصرف فيه كيفما يشاء وساعة أن يريد.

لم تكن القمة العاشرة لمجموعة دول (البريكس) قمة اعتيادية إذ جاءت في وقت حرج وحساس حيث المشاهد الدولية تتسارع والتحديات العالمية تتراكم، ولا يبدو في الأفق أن هناك من هو قادر على اتخاذ قرارات كونية نيابة عن الجميع، كما كان البعض يرى في دور الولايات المتحدة الأمريكية على نحو خاص.

ولعل السؤال هو ما هي مجموعة (البريكس) وما الذي تنشده؟

المعروف أنها تجمّع يضم الدول المؤسسة له وهي البرازيل وروسيا والهند والصين وانضمت إليها في العالم 2010 جنوب افريقيا، أما من استعمل تعبير (البريكس) للمرة الأولى فكان جيم اونيل رئيس بنك (غولدمان ساكس) حيث كتب في تقريره للبنك: إن العالم يحتاج في طريقه لبناء رؤية اقتصادية جديدة الى اقتصاديات حيوية صاعدة في القرن الجديد تمثلها دول (البريكس).

أما نشأة المجموعة رسميا فتعود الى عام 2006، حيث كانت هناك حاجة ماسة الى تعاون اقتصادي إقليمي، وقد جاء ظهور المجموعة قبل فترة يسيرة من الأزمة المالية العالمية التي ضربت العالم عام 2008، الأمر الذي عزز الحاجة الى دور تلك المجموعة لتجنيب العالم مرة تالية أخطاء الاقتصاديات الكبرى، ومن ثم تلافي الأضرار الواقعة على الدول الناشئة، والمعروف أن (البريكس) تعقد قمتها الدورية مرة كل عام في احدى دول المجموعة وتخرج ببيان مشترك يترجم الموقف الموحد للمجموعة من القضايا الدولية، وقد كانت القمة الأولى لـ(البريكس) في روسيا عام 2009 ومن بعدها توالت القمم .... ماذا عن قمة جوهانسبرج وما دار فيها؟

لعل اهم ما تسعى إليه قمم (البريكس) هو مناقشة أوضاع الاقتصاد العالمي والتبادل التجاري بين دول المجموعة ومن ثم التغلب على الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها هذه الدول في الأوقات الحالية، وقد جاءت قمة جوهانسبرج وسط تعافٍ اقتصادي عالمي بطيء وانتكاسات يعاني منها العالم، وربما تكون قادرة على إضافة وجهات جديدة الى الأسواق الصاعدة والدول النامية.

هل من أهمية خاصة لقمة هذا العالم بنوع خاص؟

لا يمكن أن يوفر احد الدور الاقتصادي الأمريكي الذي يقوم به الرئيس ترامب على الصعيد الاقتصادي العالمي، الى الدرجة التي يتحدث معها الجميع بانه يشن حربا تجارية على بقية دول العالم سيما الصين التي فرض عليها رسوما جمركية على واردات الأمريكيين منها بنسبة 25% أي ما قيمته اكثر من 50 مليار دولار، عطفا على تعاطيه مع دول الاتحاد الأوربي بنفس الأسلوب، الأمر الذي جعل حلفاء واشنطن يخشونها اكثر من أعدائها.

هل يعني ذلك أن (البريكس) تجمع اقتصادي عالمي مضاد للولايات المتحدة الأمريكية بالمطلق أم انه وسيلة للتعاطي الخلاق معها وليس شرطا أن تكون المواجهة أو الحروب الاقتصادية هي الهدف النهائي؟

الجواب يحتاج الى بعض المقاربات الرقمية التي تيسر لنا فهم ما جرى في جوهانسبرج وبقية توجهات (البريكس)، فالمجموعة الأساسية لهذا الحضور الاقتصادي يبلغ حجم الناتج المحلي لها مجتمعة 16.4 تريليون دولار بنسبة 22.3 % من الناتج العالمي، فيما الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة الأمريكية يبلغ 18.57 تريليون دولار، الأمر الذي يعني أن القوة الاقتصادية المالية الأمريكية ولو في المدى المنظور اكبر مما لدى دول (البريكس) مجتمعين.

لكن أمرا ما يخص دول (البريكس) يعد قيمة مضافة ولا شك في المستقبل القريب، وهو أن عدد سكان تلك الدول يبلغ 40% من إجمالي سكان العالم، الأمر الذي يعطي دول (البريكس) ميزة نسبية في تحويل هذا العدد الكبير وتلك النسبة الغالية الى قيمة مضافة اقتصادية وبنوع خاص لدي الصينيين.

لكن السؤال الجوهري هو: هل (البريكس) تجمع سياسي أم تجمع اقتصادي؟

عادة لا يمكن التمييز بشكل تام بين ما هو اقتصادي وما هو سياسي، فالاثنان متداخلان بدرجة أو بأخرى، وبشكل عام فانه في مواجهة الرئيس ترامب ربما تضحى الكلمة العليا للاقتصاد، فبقدر القوة الاقتصادية يمكن للدول والشعوب ترتيب وتدبير مواقفها السياسية.

قبل نحو عام طرحت دول (البريكس) فكرة إنشاء بنك دولي خاص بالمجموعة برأس مال قدره 100 مليار دولار، ومن الواضح للجميع أن الهدف الرئيسي منه هو خلق حالة من التوازن المالي الدولي بعد أن تلاعب البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بمصائر وأقدار العالم النامي اقتصاديا.

تبدأ القضايا من عند الاقتصاد وتمتد الى مساحات شاسعة وواسعة من السياسية، والدليل على صدق هذا الكلام ما اعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع موسع لزعماء (البريكس) عندما أشار الى انه يؤيد فكرة فتح مكاتب إقليمية للبنك الخاص ب(البريكس)، والآن هناك مفاوضات بين البنك والبرازيل، وبعد انتهاءها يأمل بوتين أن يتم افتتاح مكتب للبنك في روسيا.

لم يعد الحديث عن بنك (البريكس) مجرد تنظيرات فكرية على الأوراق فحسب، ذلك أن مجلس أعمال مجموعة (البريكس) قد وافق في الفترة الأخيرة على 21 مشروعا، سيتم تنفيذ خمسة منها في روسيا، وتتجاوز قيمتها المليار دولار.

ما الذي يعنيه تنشيط أعمال (البريكس) في الدول الأعضاء سيما من قبل بنك التنمية الجديد؟

الجواب يعود بنا الى دائرة السياسة من جديد، بمعنى انه يعطي فرصة للخروج على قيود وحدود النظام المالي العالمي الذي عرف باسم (بريتون وودز) من بعد الحرب العالمية الثانية وحتى الساعة، وبالنسبة الى روسيا تحديدا يشي هذا التوجه بالتفكير الروسي العميق لمواجهة العقوبات المفروضة عليهم من قبل أمريكا والاتحاد الأوروبي جراء إشكالية القرم وما يجري في أوكرانيا بشكل عام.

أما الفائدة الكبرى لبنك تنمية (البريكس) فاغلب الظن أنها ستعود على الصين، ذلك القطب القادم ولا شك لمصارعة الولايات المتحدة حول العالم، وبنوع خاص في الدول بل وربما القارات النامية ولهذا فان أعين الصين وروسيا وبقية دول (البريكس) على القارة الأفريقية والتي يجري من حولها الصراع في القرن الحادي والعشرين على وجه التحديد.

يحدثنا يوري فيرتاشوف الباحث في مركز دراسة العلاقات الأفريقية الروسية والسياسة الخارجية بمعهد الدراسات الأفريقية التابع لأكاديمية العلوم الروسية عن إمكانات التعاون بين مجموعة (البريكس) ودول القارة الأفريقية فيقول إن السمة الرئيسية لتعاون (البريكس) مع افريقيا النامية والصاعدة ترتكز على العلاقات التي تشكلت خلال الحقبة السوفيتية، فيما السمة الرئيسية في بناء علاقاتنا اليوم فهي الابتعاد عن الأيديولوجيا والتوجه نحو التعاون المتبادل المنفعة ، وبخاصة أن الدول الأفريقية تجذب انتباه الشركات الروسية الكبيرة والمتوسطة الحجم بشكل متزايد.

(البريكس) في واقع الأمر هو مدخل غير مسبوق لروسيا والصين بالنسبة للقارة الأفريقية، وفرصة تاريخية لإزاحة القوى الغربية سواء التقليدية منها وهي الأوروبية، أو الأمريكية التي تسعى الى تكريس الهيمنة التقليدية والحفاظ على فكرة القرن الأمريكي بامتياز.

توسع روسيا التعاون مع الدول الأفريقية في قطاع النفط والغاز، وتشارك بنشاط في بناء مرافق الطاقة النووية. ومساهمة روسيا في إنشاء أنظمة الاتصالات عبر الأقمار الصناعية محسوسة، ويبقى التعاون العسكري التقني مجالا هاما، ففي بلدان جنوب الصحراء الكبرى، تبلغ حصة الأسلحة الثقيلة الروسية 27%، وفي شمال افريقيا 30%.

وباختصار فان التفاعل بين روسيا وأفريقيا يمكن أن يحقق اختراقا فقطاع الأعمال الروسي لديه قاعدة كافية لتوسيع مواقعه في افريقيا، وانطلاقا من ذلك يمكن استنتاج أن العلاقات مع القارة السوداء ستكون متنوعة وستكتسب طابعا نظاميا.

ماذا عن الصين إذن في هذا الإطار؟

ربما تكون الصين الطرف الأكثر ربحا من تواجدها في (البريكس) وتنامي هذا التواجد في القارة الأفريقية، فالمعروف أن الصين هي صاحبة اكبر احتياطيات مالية ونقدية حول العالم وهي التالية في الناتج المحلي الإجمالي بعد الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الراهن والمرشحة لتجاوزها خلال سنوات قد لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.

ما لدى الصينيين من احتياطيات مالية يمكنهم من الدخول بعمق في القارة الأفريقية التي تحتاج الى أموال ساخنة وغير مشروطة، أما الأموال الساخنة فتعني إمكانية تدفقها بسهولة ويسر وبدون عملية معقدة من عمليات الاقتراض كما الحال من قبل المؤسسات المالية العالمية، فيما المشروطية تتعلق بعدم وجود شروط مثل أوضاع حقوق الإنسان، أو مستويات شيوع الديمقراطية، وما الى ذلك من قضايا درجت الولايات المتحدة عطفا على بقية دول الغرب على طلبها للموافقة على منح القروض.

ما تفعله الصين هو استيراد المواد الأولية وبأسعار زهيدة، ومن ثم تحويلها الى منتجات بعض منها يعود ثانية للأسواق الأفريقية فيما الكثير يذهب الى الأسواق الكبرى وفي مقدمها الأسواق الأمريكية والمقابل هو القروض السريعة التي تنقذ احتياجات الأفارقة.

من على البعد تراقب الولايات المتحدة مجموعة (البريكس) وبالقطع هي غير راضية عن تلك النجاحات التي تحققها المجموعة سيما وأنها جميعا في نهاية المطاف تمثل اقتطاعات من النفوذ الأمريكي حول العالم، ما يعني بالفعل أننا أمام إرهاصات عالم ما بعد (البريكس)، وفيه تجد واشنطن شركاء لها حول العالم وفي صناعة القرار الدولي على عكس ما خطط المحافظون الجدد بشأن جعل القرن الحادي والعشرين قرنا أمريكيا بامتياز.