الملف السياسي

مسيرة تاريخية مجيدة بقيادة قديرة

23 يوليو 2018
23 يوليو 2018

د. صلاح أبونار -

انطلقت مسيرة النهضة المباركة في الثالث والعشرين من يوليو 1970، مع تولي صاحب الجلالة -حفظه الله ورعاه- مقاليد حكم البلاد.

وقتها كانت عمان تمتلك أرصدة ثرية، تؤهلها للشروع في تلك المسيرة، التي اطلقها القائد الحكيم. تراثها الحضاري الغني، وتاريخها السياسي المجيد. وموقعها الجغرافي الفريد، الذي أهلها عبر تاريخها لاكتساب القوة الإقليمية والتوسع التجاري. وشعب عريق بتوزع تكوينه بين الساحل والداخل والتجارة والزراعة، وامتلك بفعل خبراته التاريخية مؤهلات ميزته عن بقية شعوب المنطقة. مخزون حضاري، واعتدال قيمي، ووعي بالذاتية التاريخية قادر على الإلهام، وتراث ديني عقلاني، وثقافة منفتحة ترسي قيم التسامح. وداخله سنجد نخبا عمانية، تمرست على التعامل مع العالم الخارجي، وسافرت شرقا وغربا وأسست لنفسها مرتكزات خارجية.

إلا أن كل ذلك كان في حالة كمون، بلا تصور جمعي للنهضة وبلا حركة جماعية. وجاء الثالث والعشرون من يوليو بالقوة السياسية المحركة التي أطلقت الطاقات من عقالها، وأخرجتها من الكمون إلى الفعل. لكنه لم يطلقها فقط، بل اطلقها في سياق رؤية نهضوية تكونت عبر جدل بين خصوصية وضع عمان الذاتي وخبرات التنمية المعاصرة. وهكذا ولد مشروع النهضة العمانية: قائد يحمل إرادة الانطلاق والتغيير والبناء، وشعب يمتلك مقومات النهضة ومهيأ للاندماج في مشروعها.

انطلقت مسيرة النهضة عبر رؤية يمكننا تحليلها على مستويين: الأساليب والمؤسسات الناظمة لمشروع النهضة، والقيم والأهداف الموجهة للمشروع.

فيما يتعلق بالمستوى الأول، أي الأساليب والمؤسسات الموجهة للنهضة والمنظمة لمشروعها، يمكننا رصد ثلاثة منها: التخطيط والمركزية المؤسسية والمشاركة الشعبية.

انطلقت مسيرة مؤسسات التخطيط المركزي 1971 بتأسيس إدارة التخطيط والتنمية، وحتى 1974 أعيد تشكيلها مؤسسيا مرتان، وفي 1974 تأسس شكلها الرابع: مجلس التنمية.ومن 1976 انطلقت مسيرة خطط التنمية، بإطلاق الخطة الخمسية الأولى، وتلتها ثلاث خطط متتابعة انتهت عام 1995. ومن 1996 انطلقت استراتيجية «رؤية عمان 2020» التنموية الجديدة، من خمس خطط خمسية متكاملة، نحن الآن في الأخيرة منها. وفي 2020 ستنطلق استراتيجية «عمان 2040»، من أربع خطط خمسية تربطها محاور تنموية محددة. وسعت الخطط إلى تحقيق خمسة أهداف: النمو الاقتصادي، والتنمية الإنسانية، والتنويع الاقتصادي، والتعمين، والاندماج في الاقتصاد العالمي.

وفيما يتعلق بالمركزية المؤسسية: استهدفت إعادة بناء سلطة الدولة، عبر سلطة مركزية قوية نافية للتجزؤ والصراع الذي ساد قبل 1970، وعبر مؤسسية قانونية حديثة نافية للأشكال التقليدية للحكم والإدارة الأهلية الذاتية في الفترة نفسها، وعبر إعادة تنظيم إداري وإقليمي للبلاد، يرفع من قدرة الدولة على التغلغل المؤسسي فيها وتقديم الخدمات الاجتماعية الأساسية وفرض النظام وتفعيل آليات الدمج الاجتماعي وبناء الأمة. انطلقت مسيرة تلك المؤسسية بعد عام 1970، بتأسيس وزارات الداخلية والعدل والصحة والتعليم والاقتصاد والعمل، وتلاها تأسيس مجلس الوزراء. وفي عام 1972 تأسس: مجلس الدفاع الوطني، والمجلس المؤقت للتخطيط، والبنك المركزي. ورافق ذلك تطوير النظام القانوني العام للدولة. فيما بين 1972 و1974 صدر قانون الشرطة وقانون السلكين الدبلوماسي والقنصلي. وفي 1975 أسس ديوان شؤون الموظفين، وصدر قانون التنظيم الإداري العام للدولة، وأول قانون للخدمة المدنية. وتواصلت التطورات حتى وصلت لذروتها عام 1996 بصدور النظام الأساسي للدولة. وبالتوافق مع ما سبق تصاعدت إعداد العاملين في مؤسسات الدولة. وخلال ثلاث سنوات قفز عددهم في 1974 إلى 12035، وفي 2000 تضاعف عددهم عدة مرات ليصل 110498.

وفيما يتعلق بالمشاركة الشعبية: وعت الدولة مبكرا أن المشاركة الشعبية لا تقل أهمية عن المركزية المؤسسية. فهي ضرورة لكفاءة وتواصل الدولة الجديدة، أي ضرورة لمأسسة الولاء السياسي، وتعبئة الموارد الشعبية، وتعويض التراجع الحتمي للدور الاقتصادي للدولة. لكنها في المقابل نتيجة حتمية للتراكم المتصل في التنمية الإنسانية. تراكم يعني اتساع قاعدة المتعلمين، وتوسع في التعمين، وتكوين فئات وسطى جديدة وحيوية متطلعه لدور اجتماعي. وفي مرحلة أولى اتخذت تلك المشاركة أساسا شكل المشاركة الوظيفية في مؤسسات الدولة، والدعم الاجتماعي والتفاعل الإيجابي العام والطوعي مع سياسات النهضة، مثل الحماس الواسع للتعليم واحترام القانون والنظام العام. ثم جاءت بعد ذلك خطوة أخرى أكثر تطورا، وهي المشاركة عبر المجالس النيابية. وترجع الأشكال الأولى لتلك المشاركة، إلى تأسيس مجلس الزراعة والأسماك والصناعة 1976، الذي تلاه تأسيس المجلس الاستشاري للدولة 1981.

وجاءت القفزة الكبرى بصدور النظام الأساسي للدولة 1996، وبمقتضاه تكون مجلس عمان من مجلسين: مجلس الشورى المؤسس من 1991، ومجلس الدولة المؤسس عام 1997. ومع اكتمال البنية التشريعية المنظمة لعملهما، تحددت وظيفتهما في ثلاث وظائف. مشاركة الحكومة في وضع خطط التنمية والموازنة العامة، والرقابة المالية والإدارية، والتشريع عبر حق مناقشة مشاريع القوانين واقتراحها.

وفيما يتعلق بالمستوى الثاني، أي القيم والأهداف الموجهة لمشروع النهضة، فيمكننا رصد اثنان منها، النمو الاقتصادي والتنمية الإنسانية.

سعت الخطط الخمسية بنجاح لتحقيق النمو الاقتصادي. وفقا لتقديرات البنك الدولي ارتفع الناتج القومي من 63.287.594 مليون دولار عام 1965، إلى 66.293 بليون دولار عام 2016، وحققت عمان نسبة نمو اقتصادي 8.8% سنويا فيما بين 1967 و2007. وفي عام 2008 قالت مصادر البنك الدولي، إن 13 دولة فقط في العالم من ضمنها سلطنة عمان حققت هذا المعدل المرتفع خلال تلك الفترة. ووفقا لتقديرات إحصائية رسمية ارتفع نصيب المواطن العماني من الناتج القومي، من 158 ريالا عام 1970 إلى 2477 ريالا عام 1995، أي بمعدل 11.6% سنويا.

وبالتوازي مع ما سبق حققت مسيرة التنويع خطوات كبرى. وفقا لتقديرات رسمية مقارنة بين عامي 1995 و2015، انخفض نصيب الأنشطة النفطية من 65.5% إلى 39.6% ، وارتفع نصيب الأنشطة غير النفطية من 34.5% إلى 60.4%.

وفي هذا السياق شهدت البنى الأساسية تطورات هائلة. في عام 1970 لم تكن هناك بنى أساسية جديرة بالذكر. وعندما نصل لعام 2011 سنجد أن أطول الطرق المرصوفة وصلت إلى 29685 كيلومترا، وإنتاج الكهرباء إلى 24982 جيجا وات، وكمية مياه الشرب إلى 53.266 مليون جالون يوميا، وأطول شبكات الصرف الصحي إلى 38.583 كيلومترا.

وفيما يتعلق بهدف التنمية الإنسانية، يمكننا رصده عبر ثلاثة مجالات: الصحة والتعليم والمرأة.

حققت مؤشرات الوضع الصحي قفزة هائلة. في 1967 كان العمر المتوقع للفرد العماني 47 عاما، ارتفع عام 2007 إلى 76 عاما. وشهد معدل الوفاة العام انخفاضا كبيرا. لا تتوفر لنا أرقام لعام 1970، ولكنه بالتأكيد كان مرتفعا. وإذا وصلنا 1990 وجدناه 7.6 لكل ألف شخص، وانخفض عام 2005 إلى 2,5 لكل ألف شخص. وحققت معدلات وفيات الأطفال انخفاضا هائلا. فيما بين 1990 و2014، انخفض معدل وفيات الأطفال تحت الخامسة من 35 لكل ألف إلى 9.7 بنسبة 72.3%، وانخفض معدل وفيات الرضع من 29 لكل ألف إلى 7.9 بنسبة 72.8%.

ونفس التطورات شهدتها المؤشرات التعليمية. في عام 1970 لم يكن هناك سوى ثلاث مدارس ابتدائية، يدرس بها 900 طالب كلهم ذكور. وإذا وصلنا لعام 1990 وجدنا أن معدل التسجيل في المدارس الابتدائية وصل إلى 86.1%، وارتفع عام 2014 إلى 99.4%. وشكلت نهضة التعليم الأولى أساس نهضة التعليم العام. في عام 2003 وصل عدد المدارس إلى 1022 مدرسة، يدرس بها 567.472 طالبا. وفي عام 2006 وصل معدل الالتحاق الصافي بالمرحلة الثانوية 76,9% للذكور و 76.6% للإناث. أما التعليم الجامعي فلقد بدا مسيرته القوية بتأسيس جامعة السلطان قابوس عام 1986، وفي عام 1996 صدر مرسوم يسمح بتأسيس جامعات غير حكومية.وفي عام 2011 أصبح لدى عمان 55 مؤسسة جامعية عليا. جامعة حكومية، و7 جامعات خاصة، و47 كلية ومعهد عال، يدرس بها 95.146 طالبا.

وبمراجعة وضع المرأة سنرصد التطورات ذاتها. في 2014 وصلت نسبة الإناث في التعليم الابتدائي 96%، والثانوي 95%، والجامعي 138%. وانعكس هذا على مشاركتها في العمل.في عام 1990 كانت مشاركتها في قوة العمل 18.4%، ارتفعت في 2012 إلى 31.1%. وفي 2009 وصلت نسبة العاملات في القطاع العام إلى 42%، لكنها في الخاص كانت 19%. ولا تزال نسبتهن في الوظائف القيادية داخل القطاعين منخفضة ، مع تحفظات مهمة داخل الجامعات تتفوق نسبتهن على الرجال. وتشغل النساء وظائف قيادية في وزارات حساسة. في عام 1999 عينت أول سفيرة عمانية، وفي عام 2005 عينت سفيرة لعمان في الولايات المتحدة، وبعد ذلك عينت أكثر من سفيرة في دول مثل ألمانيا. وعلى مستوى منصب الوزيرة يلاحظ حضور نسائي قوي. في عام 2005 مثلا كانت هناك أربع وزيرات. وتبدو مساهمة النساء في مجلس الشورى محدودة، حيث انخفضت إلى 1.2% في 2015، لكنها في نفس العام وصلت في مجلس الدولة إلى 17.9% .